ثم أوعد الكفار بآفات الدنيا أيضاً فقال : { وضرب الله مثلاً قرية } ، يحتمل أن تكون مقدرة ، وأن تكون معينة موجودة ، إما مكة أو غيرها . وذهب كثير من المفسرين إلى أنها مكة ، والأقرب أنها غيرها ؛ لأن مثل مكة يكون غير مكة ، فضربها الله مثلاً لمكة إنذاراً من مثل عاقبتها . قال العقلاء : ثلاثة ليس لها نهاية : الأمن والصحة والكفاية . فوصف الله تعالى تلك القرية بالأمن ، ثم بالاطمئنان ، إشارة إلى أن هواء ذلك البلد لاعتداله ملائم لأمزجة أهله حتى اطمأنوا واستقروا ولم يحوجوا إلى الانتقال طلباً للصحة . ثم قال : { يأتيها رزقها رغداً من كل مكان } ، دلالة على حصول الكفاف لهم بأيسر وجه . قال الكشاف : الأنعم جمع نعمة ، على ترك الاعتداد بالتاء ، كدرع وأدرع ، أو جمع نعم ، كبؤس وأبؤس . قلت : لعله حمله على ذلك طلب الضبط ، وإلا فلا حاجة إلى هذا التكلف . وكذا أطلق الأكثرون أن جمع " فعلة " يجيء على " أفعل " . قيل : إنما ذكر جمع القلة تنبيهاً بالأدنى على الأعلى ، يعني أن كفران النعمة القليلة يوجب العذاب ، فكيف بكفران النعم الكثيرة العظيمة . وهذا مثل لأهل مكة كانوا في الأمن والطمأنينة والخصب ، ثم أنعم الله عليهم بالنعمة العظيمة - وهو محمد صلى الله عليه وسلم- فكفروا بها وبالغوا في إيذائه ، فسلط الله عليهم البلاء . عذبهم بالجوع سبع سنين حتى أكلوا الجيف والعظام والعلهز والفرو ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث إليهم السرايا فيغيرون عليهم . نقل أن ابن الراوندي قال لابن الأعرابي الأديب : هل يذاق اللباس ؟ قال ابن الأعرابي : لا بأس أيها النسناس ، هب أن محمداً صلى الله عليه وسلم ما كان نبياً ، أما كان عربياً ؟ كأنه طعن في الآية أن المناسب هو أن لو قيل : " فكساها الله لباس الجوع " ، أو " فأذاقها الله طعم الجوع " ، فردّ عليه ابن الأعرابي . والذي أجاب به علماء البيان أن هذا من تجريد الاستعارة ، وذلك أنه استعار اللباس لما غشي الإنسان من بعض الحوادث كالجوع والخوف ؛ لاشتماله عليه اشتمال اللباس على اللابس ، ثم ذكر الوصف ملائماً للمستعار له وهو الجوع والخوف ؛ لأن إطلاق الذوق على إدراك الجوع والخوف جرى عندهم مجرى الحقيقة ، فيقولون : ذاق فلان البؤس والضر وأذاقه غيره . فكانت الاستعارة مجردة . ولو قال : " فكساها " كانت مرشحة ، وقد سلف منا تقرير هذا الاصطلاح في المقدمة التاسعة من مقدمات الكتاب . وترشيح الاستعارة وإن كان مستحسناً من جهة المبالغة إلا أن للتجريد ترجيحاً من حيث إنه روعي جانب المستعار له ، فازداد الكلام وضوحاً . وقيل : إن أصل الذوق بالفم ، ثم قد يستعار فيوضع موضع التعرّف والاختبار فتقول : أناظر فلاناً فأذوق ما عنده .
ومن يذق الدنيا فإني طعمتها*** وسيق إلينا عذبها وعذابها
فمعنى " ذقت لباس الجوع والخوف على فلان " : تعرفت ما ظهر عليه من الضمور وشحوبة اللون وتغير الحال وكسوف البال . ففحوى الآية عرفها الله أثر لباس الجوع . وقيل : حمل اللباس على المماسة ، والتقدير : فأذاقها الله مساس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون . قال ابن عباس : يريد بفعلهم بالنبي صلى الله عليه وسلم من التكذيب والهم بقتله والإخراج من مكة . قال الفراء : كل الصفات أجريت على القرية إلا قوله : { يصنعون } ، تنبيهاً على أن المراد في الحقيقة أهلها .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.