غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلٗا قَرۡيَةٗ كَانَتۡ ءَامِنَةٗ مُّطۡمَئِنَّةٗ يَأۡتِيهَا رِزۡقُهَا رَغَدٗا مِّن كُلِّ مَكَانٖ فَكَفَرَتۡ بِأَنۡعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَٰقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلۡجُوعِ وَٱلۡخَوۡفِ بِمَا كَانُواْ يَصۡنَعُونَ} (112)

101

ثم أوعد الكفار بآفات الدنيا أيضاً فقال : { وضرب الله مثلاً قرية } ، يحتمل أن تكون مقدرة ، وأن تكون معينة موجودة ، إما مكة أو غيرها . وذهب كثير من المفسرين إلى أنها مكة ، والأقرب أنها غيرها ؛ لأن مثل مكة يكون غير مكة ، فضربها الله مثلاً لمكة إنذاراً من مثل عاقبتها . قال العقلاء : ثلاثة ليس لها نهاية : الأمن والصحة والكفاية . فوصف الله تعالى تلك القرية بالأمن ، ثم بالاطمئنان ، إشارة إلى أن هواء ذلك البلد لاعتداله ملائم لأمزجة أهله حتى اطمأنوا واستقروا ولم يحوجوا إلى الانتقال طلباً للصحة . ثم قال : { يأتيها رزقها رغداً من كل مكان } ، دلالة على حصول الكفاف لهم بأيسر وجه . قال الكشاف : الأنعم جمع نعمة ، على ترك الاعتداد بالتاء ، كدرع وأدرع ، أو جمع نعم ، كبؤس وأبؤس . قلت : لعله حمله على ذلك طلب الضبط ، وإلا فلا حاجة إلى هذا التكلف . وكذا أطلق الأكثرون أن جمع " فعلة " يجيء على " أفعل " . قيل : إنما ذكر جمع القلة تنبيهاً بالأدنى على الأعلى ، يعني أن كفران النعمة القليلة يوجب العذاب ، فكيف بكفران النعم الكثيرة العظيمة . وهذا مثل لأهل مكة كانوا في الأمن والطمأنينة والخصب ، ثم أنعم الله عليهم بالنعمة العظيمة - وهو محمد صلى الله عليه وسلم- فكفروا بها وبالغوا في إيذائه ، فسلط الله عليهم البلاء . عذبهم بالجوع سبع سنين حتى أكلوا الجيف والعظام والعلهز والفرو ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث إليهم السرايا فيغيرون عليهم . نقل أن ابن الراوندي قال لابن الأعرابي الأديب : هل يذاق اللباس ؟ قال ابن الأعرابي : لا بأس أيها النسناس ، هب أن محمداً صلى الله عليه وسلم ما كان نبياً ، أما كان عربياً ؟ كأنه طعن في الآية أن المناسب هو أن لو قيل : " فكساها الله لباس الجوع " ، أو " فأذاقها الله طعم الجوع " ، فردّ عليه ابن الأعرابي . والذي أجاب به علماء البيان أن هذا من تجريد الاستعارة ، وذلك أنه استعار اللباس لما غشي الإنسان من بعض الحوادث كالجوع والخوف ؛ لاشتماله عليه اشتمال اللباس على اللابس ، ثم ذكر الوصف ملائماً للمستعار له وهو الجوع والخوف ؛ لأن إطلاق الذوق على إدراك الجوع والخوف جرى عندهم مجرى الحقيقة ، فيقولون : ذاق فلان البؤس والضر وأذاقه غيره . فكانت الاستعارة مجردة . ولو قال : " فكساها " كانت مرشحة ، وقد سلف منا تقرير هذا الاصطلاح في المقدمة التاسعة من مقدمات الكتاب . وترشيح الاستعارة وإن كان مستحسناً من جهة المبالغة إلا أن للتجريد ترجيحاً من حيث إنه روعي جانب المستعار له ، فازداد الكلام وضوحاً . وقيل : إن أصل الذوق بالفم ، ثم قد يستعار فيوضع موضع التعرّف والاختبار فتقول : أناظر فلاناً فأذوق ما عنده .

ومن يذق الدنيا فإني طعمتها*** وسيق إلينا عذبها وعذابها

فمعنى " ذقت لباس الجوع والخوف على فلان " : تعرفت ما ظهر عليه من الضمور وشحوبة اللون وتغير الحال وكسوف البال . ففحوى الآية عرفها الله أثر لباس الجوع . وقيل : حمل اللباس على المماسة ، والتقدير : فأذاقها الله مساس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون . قال ابن عباس : يريد بفعلهم بالنبي صلى الله عليه وسلم من التكذيب والهم بقتله والإخراج من مكة . قال الفراء : كل الصفات أجريت على القرية إلا قوله : { يصنعون } ، تنبيهاً على أن المراد في الحقيقة أهلها .

/خ128