الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلٗا قَرۡيَةٗ كَانَتۡ ءَامِنَةٗ مُّطۡمَئِنَّةٗ يَأۡتِيهَا رِزۡقُهَا رَغَدٗا مِّن كُلِّ مَكَانٖ فَكَفَرَتۡ بِأَنۡعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَٰقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلۡجُوعِ وَٱلۡخَوۡفِ بِمَا كَانُواْ يَصۡنَعُونَ} (112)

قوله تعالى : { وَالْخَوْفِ } : العامَّةُ على جَرِّ " الخوف " نسقاً على " الرجوع " ، ورُوي عن أبي عمرو نصبُه ، وفيه أوجه ، أحدها : أن يُعطف على " لباس " . الثاني : أن يُعْطَفَ على موضعِ " الجوع " ؛ لأنه مفعولٌ في المعنى للمصدرِ . التقدير : " أَنْ أَلْبَسَهم الجوعَ والخوفَ " ، قاله أبو البقاء ، وهو بعيدٌ ؛ لأنَّ اللباسَ اسمُ ما يُلْبَسُ ، وهو استعارةٌ بليغةٌ كما سأنبِّهك عليه . الثالث : أن ينتصِبَ بإضمارِ فعلٍ ، قاله أبو الفضل الرازي . [ الرابع : أن يكونَ حَذْفِ مضافٍ ، أي : ] ولباس الخوف ، ثم حُذِف وأقيم [ المضافُ إليه ] مُقامَه ، قاله الزمخشري .

ووجه الاستعارةِ ما قاله الزمخشري ، فإنه قال : " فإن قُلْتَ ، الإِذاقةُ واللباسُ استعارتان فما وجهُ صحتِهما ؟ والإِذاقةُ المستعارةُ مُوَقَّعَةٌ على اللباس المستعار فما وجهُ صحةِ إيقاعِها عليه ؟ قلت : الإِذاقَةُ جَرَتْ عندهم مَجْرَى الحقيقةِ لشيوعِها في البلايا والشدائد وما يَمَسُّ الناسَ منها ، فيقولون ، ذاقَ فلانٌ البؤْسَ والضُّرَّ ، وإذاقة العذابُ ، شَبَّه ما يُدْرِكُ مِنْ أثرِ الضررِ والألمِ بما يُدْرِكُ مِنْ طَعْمِ المُرِّ والبَشِع ، وأمَّا اللباسُ فقد شبَّه به لاشتمالِه على اللابسِ ما غَشِيَ الإِنسانَ والتبس به من بعض الحوادث . وأمَّا إيقاعُ الإِذاقةِ على لباسِ الجوعِ والخوفِ فلأنه لمَّا وقع عبارةً عَمَّا يُغْشَى منهما ويُلابَسُ ، فكأنه قيل : فأذاقهم ما غَشِيهم من الجوعِ والخوفِ . ولهم في هذا طريقان ، أحدهما : أن ينظروا فيه إلى المستعار له كما نَظَرَ إليه ههنا ، ونحوُه قول كثيِّر :

غَمْرُ الرِّداءِ إذا تَبَسَّم ضاحكاً *** غَلِقَتْ لضَحْكَتِهِ رِقابُ المالِ

استعار الرداءَ للمعروفِ ؛ لأنه يَصُون عِرْضَ صاحبِه صَوْنَ الرداءِ لِما يُلْقى عليه ، ووصفَه بالغَمْرِ الذي هو وصفُ المعروفِ والنَّوال ، لا وصفُ الرداء ، نظراً إلى المستعار له . والثاني : أن ينظروا فيه المستعار كقوله :

يُنازعني رِدائي عَبْدُ عَمْرٍو *** رُوَيْدَك يا أخا عمرِو بن بكر

ليَ الشَّطْرُ الذي ملكَتْ يميني *** ودونَك فاعْتَجِر منه بِشَطْرِ

أراد بردائِه سيفَه ثم قال : " فاعتجِرْ منه بِشَطْر " فنظر إلى المستعارِ في لفظِ الاعتجار ، ولو نظر إليه فيما نحن فيه لقال : " فكساهُمْ لباسَ الجوعِ والخوف " ، ولقال كثِّير : " ضافي الرداءِ إذا تبسَّم " . انتهى . وهذا نهايةُ ما يُقال في الاستعارة .

وقال ابن عطية : " لمَّا باشرهم ذلك صار كاللباس ، وهذا كقول الأعشى :

إذا ما الضَّجِيْعُ ثنى جِيْدَها *** تَثَنَّتْ عليه فكانَتْ لباسا

ومثلُه قولُه تعالى : { هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ/ لَّهُنَّ } [ البقرة : 187 ] ، ومثلُه قولُ الشاعر :

وقد لَبِسَتْ بعد الزبيرِ مُجاشِعٌ *** لباسَ التي حاضَتْ ولن تَغْسِل الدَّما

كأنَّ العارَ لمَّا باشرهم ولصِقَ بهم كأنهم لَبِسُوه " .

وقوله : " فأذاقهم " نظيرُ قولِه تعالى : { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ }

[ الدخان : 49 ] ، ونظيرُ قولِ الشاعر :

دونَكَ ما جَنَيْتَه فاحْسُ وذُقْ ***

وفي قراءةِ عبد الله " فأذاقها اللهُ الخوفَ والجوعَ " ، وفي مصحف أُبَيّ " لباسَ الخوفِ والجوعِ " .

وقوله : { بِأَنْعُمِ اللَّهِ } ، أتى بجمعِ القلَّةِ ، ولم يَقُلْ : " بِنِعَمِ الله " ، جمعَ كثرةٍ ، تنبيهاً بالأدْنى على الأَعْلى ؛ لأنَّ العذابَ إذا كان على كُفْرانِ الشيءِ القليلِ فكونُه على النِّعَم الكثيرةِ أَوْلَى .

و " أنْعُم " ، فيها قولان ، أحدُهما : أنها جمعُ " نِعْمةٍ " نحو : شِدَّة : أَشُدّ . قال الزمخشري : " جمعُ " نِعمة " على تَرْكِ الاعتداد بالتاء ، كَدِرْع وأَدْرُع " . وقال قطرب : " هي جمع نُعْم ، والنُّعْمُ : النَّعيم ، يقال : " هذه أيامُ طُعْم ونُعْم " . وفي الحديث : " نادى مُنادي رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بالمَوْسِم بمنى : " إنها أيام طُعْمٍ ونُعْمٍ ، فلا تَصُوموا " .

قوله : { بِمَا كَانُواْ } ، يجوز أَنْ تكونَ مصدريةً ، أو بمعنى الذي ، والعائدُ محذوفٌ ، أي : بسبب صُنْعهم ، أو بسببِ الذي كانوا يصنعونه . والواو في " يَصْنعون " عائدةٌ على أهل المعذَّب . قيل : قرية ، وهي نظيرةُ قولِه : { أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ } [ الأعراف : 4 ] بعد قولِه : { وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا } .