البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلٗا قَرۡيَةٗ كَانَتۡ ءَامِنَةٗ مُّطۡمَئِنَّةٗ يَأۡتِيهَا رِزۡقُهَا رَغَدٗا مِّن كُلِّ مَكَانٖ فَكَفَرَتۡ بِأَنۡعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَٰقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلۡجُوعِ وَٱلۡخَوۡفِ بِمَا كَانُواْ يَصۡنَعُونَ} (112)

( فإن قلت ) : لِمَ لم يتعد الفعل إلى الضمير ، لا إلى لفظ النفس ؟ ( قلت ) : منع من ذلك أنّ الفعل إذا لم يكن من باب ظن ، وفقد لا يتعدى فعل ظاهر فاعله ، ولا مضمره إلى مضمره المتصل ، فلذلك لم يجئ التركيب تجادل عنها ، ولذلك لا يجوز : ضربتها هند ولا هند ضربتها ، وإنما تقول : ضربت نفسها هند ، وضربت هند نفسها ، ما عملت أي : جزاء ما عملت من إحسان أو إساءة ، وأنث الفعل في تأتي ، والضمير في تجادل وفي عن نفسها ، وفي توفي ، وفي عملت ، حملاً على معنى كل ، ولو روعي اللفظ لذكر .

وقال الشاعر :

جادت عليها كل عين ثرة . ***فتركن كل حديقة كالدرهم

فأنث على المعنى .

وما ذكر عن ابن عباس : أنّ الجدال هنا هو جدال الجسد للروح ، والروح للجسد لا يظهر قال : يقول الجسد : رب جاء الروح بأمرك به نطق لساني وأبصرت عيني ومشت رجلي ، فتقول الرّوح : أنت كسبت وعصيت لا أنا ، وأنت كنت الحامل وأنا المحمول ، فيقول الله عز وجل : أضرب لكما مثل أعمى حمل مقعداً إلى بستان فأصابا من ثماره ، فالعذاب عليكما .

وعن ابن عباس ، ومجاهد ، وابن زيد ، وقتادة : أن القرية المضروب بها المثل مكة ، كانت لا تغزى ولا يغار عليها ، والأرزاق تجلب إليها ، وأنعم الله عليها بالرسول صلى الله عليه وسلم فكفرت ، فأصابها السنون والخوف .

وسرايا الرسول وغزواته ضربت مثلاً لغيرها مما يأتي بعدها .

وهذا وإن كانت الآية مدنية ، وإن كانت مكية فجوع السنين وخوف العذاب بسبب التكذيب .

ويؤيد كونها مكية قوله : ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه ، ويجوز أن يكون قرية من قرى الأولين .

وعن حفصة : أنها المدينة .

وقال ابن عطية : يتوجه عندي أنها قصد بها قرية غير معينة ، جعلت مثلاً لمكة على معنى التحذير لأهلها ولغيرها من القرى إلى يوم القيامة .

وقال الزمخشري : يجوز أن يراد قرية مقدرة على هذه الصفة ، وأن يكون في قرى الأولين قرية كانت هذه حالها ، فضربها الله مثلاً لمكة إنذاراً من مثل عاقبتها انتهى .

ولا يجوز أنْ يراد قرية مقدرة على هذه الصفة ، بل لا بد من وجودها لقوله : ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون .

كانت آمنة ابتدأ بصفة الأمن ، لأنه لا يقيم لخائف .

والاطمئنان زيادة في الأمن ، فلا يزعجها خوف .

يأتيها رزقها أقواتها واسعة من جميع جهاتها ، لا يتعذر منها جهة .

وأنعم جمع نعمة ، كشدّة وأشد .

وقال قطرب : جمع نعم بمعنى النعيم ، يقال : هذه أيام طعم ونعم انتهى .

فيكون كبؤس وأبؤس .

وقال الزمخشري : جمع نعمة على ترك التاء ، والاعتداد بالتاء كدرع وأدرع .

وقال العقلاء : ثلاثة ليس لها نهاية : الأمن ، والصحة والكفاية .

قال أبو عبد الله الرازي : أمنة إشارة إلى الأمن ، مطمئنة إشارة إلى الصحة ، لأن هواء ذلك لما كان ملازماً لأمزجتهم اطمأنوا إليها واستقروا ، يأتيها رزقها السبب في ذلك دعوة إبراهيم عليه السلام : { فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات } و قال : الأنعم جمع نعمة وجمع قلة ، ولم يأت بنعم الله وذلك أنه قصد التنبيه بالأدنى على الأعلى بمعنى أنّ كفران النعم القليلة أوجب العذاب ، فكفران الكثيرة أولى بإيجابه .

قال ابن عطية : لما باشرهم ذلك صار كاللباس ، وهذا كقول الأعشى :

إذا ما الضجيع ثنى جيدها . . . ***تثنت فكانت عليه لباسا

ونحو قوله تعالى : { هنّ لباس لكم وأنتم لباس لهن } ومنه قول الشاعر :

وقد لبست بعد الزبير مجاشع***ثياب التي حاضت ولم تغسل الدما

كأن العار لما باشرهم ولصق بهم جعلهم لبسوه .

وقوله : فأذاقها الله ، نظير قوله : { ذق إنك أنت العزيز الكريم } ونظير قول الشاعر :

دونك ما جنيته فاحس وذق . . .

وقال الزمخشري : الإذاقة واللباس استعارتان ، فما وجه صحتهما ؟ والإذاقة المستعارة موقعة على اللباس فما وجه صحة إيقاعها ؟ ( قلت ) : أما الإذاقة فقد جرت عندهم مجرى الحقيقة لشيوعها في البلايا والشدائد وما يمس الناس منها فيقولون : ذاق فلان البؤس والضر ، وإذاقة العذاب شبه ما يدرك من أثر الضرر والألم بما يدرك من طعم المر والبشع .

وأما اللباس فقد شبه به لاشتماله على اللابس ما غشي الإنسان والتبس به من بعض الحوادث .

وأما إيقاع الإذاقة على لباس الجوع والخوف فلأنه لما وقع عبارة : عما يغشى منهما ويلابس ، فكأنه قيل : فأذاقهم ما غشيهم من الجوع والخوف ، ولهم في نحو هذا طريقان : أحدهما : أن ينظروا فيه إلى المستعار له ، كما نظر إليه ههنا ، ونحوه قول كثير :

غمر الرداء إذا تبسم ضاحكاً***غلقت لضحكته رقاب المال

استعار الرداء للمعروف ، لأنه يصون عرض صاحبه ، صون الرداء لما يلقى عليه .

ووصفه بالغمر الذي هو وصف المعروف والنوال ، لا صفة الرداء ، نظراً إلى المستعار له .

والثاني : أن ينظروا فيه إلى المستعار كقوله :

ينازعني ردائي عبد عمرو *** رويدك يا أخا عمرو بن بكر

لي الشطر الذي ملكت يميني*** ودونك فاعتجر منه بشطر

أراد بردائه سيفه ثم قال : فاعتجر منه بشطر ، فنظر إلى المستعار في لفظ : الاعتجار ، ولو نظر إليه فيما نحن فيه لقيل : فكساهم لبس الجوع والخوف ، ولقال كثير : ضافي الرداء إذا تبسم ضاحكاً انتهى .

وهو كلام حسن .

ولما تقدم ذكر الأمن وإتيان الرزق ، قابلهما بالجوع الناشئ عن انقطاع الرزق وبالخوف ، وقدم الجوع ليلي المتأخر وهو إتيان الرزق كقوله : { يوم تبيضّ وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم } وأما قوله : { فمنهم شقي وسعيد } فأما الذين شقوا ففي النار فقدم ما بدئ به وهما طريقان .

وقرأ الجمهور : والخوف بالجرّ عطفاً على الجوع .

وروى العباس عن أبي عمرو : والخوف بالنصب عطفاً على لباس .

قال صاحب اللوامح : ويجوز أن يكون نصبه بإضمار فعل .

وقال الزمخشري : يجوز أن يكون على تقدير حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه ، أصله ولباس الخوف .

وقرأ عبد الله فأذاقها الله الخوف والجوع ، ولا يذكر لباس .

والذي أقوله : إنّ هذا تفسير المعنى لا قراءة ، لأن المنقول عنه مستفيضاً مثل ما في سواد المصحف .

وفي مصحف أبي بن كعب لباس الخوف والجوع ، بدأ بمقابل ما بدأ به في قوله : كانت آمنة ، وهذا عندي إنما كان في مصحفه قبل أن يجمعوا ما في سواد المصحف الموجود الآن شرقاً وغرباً ، ولذلك المستفيض عن أبي في القراءة إنما هو كقراءة الجماعة بما كانوا يصنعون من كفران نعم الله ، ومنها تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم الذي جاءهم .

والضمير في بما كانوا يصنعون عائد على المحذوف في قوله : وضرب الله مثلاً قرية ، أي : قصة أهل قرية ، أعاد الضمير أولاً على لفظ قرية ، ثم على المضاف المحذوف كقوله : { فجاءها بأسنا بياتاً أو هم قائلون }