الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلٗا قَرۡيَةٗ كَانَتۡ ءَامِنَةٗ مُّطۡمَئِنَّةٗ يَأۡتِيهَا رِزۡقُهَا رَغَدٗا مِّن كُلِّ مَكَانٖ فَكَفَرَتۡ بِأَنۡعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَٰقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلۡجُوعِ وَٱلۡخَوۡفِ بِمَا كَانُواْ يَصۡنَعُونَ} (112)

{ وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً } ، أي جعل القرية التي هذه حالها مثلا لكل قوم أنعم الله عليهم فأبطرتهم النعمة ، فكفروا وتولوا ، فأنزل الله بهم نقمته . فيجوز أن تراد قرية مقدرة على هذه الصفة ، وأن تكون في قرى الأوّلين قرية كانت هذه حالها ، فضربها الله مثلا لمكة إنذاراً من مثل عاقبتها . { مُّطْمَئِنَّةً } لا يزعجها خوف ، لأن الطمأنينة مع الأمن ، والانزعاج والقلق مع الخوف . { رَغَدًا } : واسعاً . والأنعم : جمع نعمة ، على ترك الاعتداد بالتاء ، كدرع وأدرع . أو جمع نعم ، كبؤس وأبؤس . وفي الحديث : نادى منادي النبي صلى الله عليه وسلم بالموسم بمنى : " إنها أيام طعم ونعم ، فلا تصوموا " .

فإن قلت : الإذاقة واللباس استعارتان ، فما وجه صحتهما ؟ والإذاقة المستعارة موقعة على اللباس المستعار ، فما وجه صحة إيقاعها عليه ؟ قلت : أما الإذاقة فقد جرت عندهم مجرى الحقيقة ؛ لشيوعها في البلايا والشدائد وما يمسّ الناس منها ، فيقولون : ذاق فلان البؤس والضر ، وأذاقه العذاب : شبه ما يدرك من أثر الضرر والألم بما يدرك من طعم المرّ والبشع . وأما اللباس فقد شبه به ؛ لاشتماله على اللابس : ما غشي الإنسان والتبس به من بعض الحوادث . وأما إيقاع الإذاقة على لباس الجوع والخوف ؛ فلأنه لما وقع عبارة عما يغشى منهما ويلابس ، فكأنه قيل : فأذاقه ما غشيهم من الجوع والخوف ، ولهم في نحو هذا طريقان لا بد من الإحاطة بهما ، فإن الاستنكار لا يقع إلا لمن فقدهما ، أحدهما : أن ينظروا فيه إلى المستعار له ، كما نظر إليه ههنا . ونحوه قول كثير :

غَمْرُ الرِّدَاءِ إذَا تَبَسَّمَ ضَاحِكا *** غَلِقَتْ لِضِحْكَتِهِ رِقَابُ المَالِ

استعارة الرداء للمعروف ؛ لأنه يصون عرض صاحبه صون الرداء لما يلقى عليه . ووصفه بالغمر الذي هو وصف المعروف والنوال ، لا صفة الرداء ، نظر إلى المستعار له . والثاني : أن ينظروا فيه إلى المستعار ، كقوله :

يُنَازِعُنِي رِدَائِي عَبْدُ عَمْرو *** رُوَيْدَكَ يَا أَخَا عَمْرو بْنِ بَكْر

ليَ الشطْرُ الَّذِي مَلَكَتْ يَمِيِني *** وَدُونَكَ فَاعْتَجِرْ مِنْهُ بِشَطْرِ

أراد بردائه سيفه ، ثم قال : فاعتجر منه بشطر ، فنظر إلى المستعار في لفظ الاعتجار ، ولو نظر إليه فيما نحن فيه لقيل : فكساهم لباس الجوع والخوف ، ولقال كثير : ضافي الرداء إذا تبسم ضاحكاً .