السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلٗا قَرۡيَةٗ كَانَتۡ ءَامِنَةٗ مُّطۡمَئِنَّةٗ يَأۡتِيهَا رِزۡقُهَا رَغَدٗا مِّن كُلِّ مَكَانٖ فَكَفَرَتۡ بِأَنۡعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَٰقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلۡجُوعِ وَٱلۡخَوۡفِ بِمَا كَانُواْ يَصۡنَعُونَ} (112)

ولما هدّد تعالى الكفار بالوعيد الشديد في الآخرة هدّدهم أيضاً بآفات الدنيا ، وهي الوقوع في الجوع والخوف بقوله تعالى : { وضرب الله } ، أي : المحيط بكل شيء { مثلاً } ، ويبدل منه ، { قرية } ، هي مكة ، والمراد أهلها ، { كانت آمنة } ، أي : ذات أمن ، ويأمن بها أهلها في زمن الخوف ، قال تعالى : { أو لم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم } [ العنكبوت ، 67 ] ، والأمن في مكة كان كذلك ؛ لأنّ العرب كان يغير بعضهم على بعض دون أهل مكة ، فإنهم كانوا أهل حرم الله ، والعرب كانوا يحترمونهم ويخصونهم بالتعظيم والتكريم . { مطمئنة } ، أي : قارة بأهلها لا يحتاجون فيها إلى نجعة وانتقال ، بسبب زيادة الأمن ، بكثرة العدد وقوّة المدد ، وكف الله تعالى الناس عنها ، ووجود ما يحتاج إليه أهلها . فإن قيل : الاطمئنان هو الأمن فيلزم التكرار ؟ أجيب : بأنّ قوله تعالى : { آمنة } ، إشارة إلى الأمن ، وقوله تعالى : { مطمئنة } ، أي : لا يحتاجون فيها إلى نجعة كما مرّ ، وقيل : أشار تعالى بذلك إلى الصحة ؛ لأنّ هواء ذلك البلد كان ملائماً لأمزجتهم ، فلذلك اطمأنوا إليه واستقرّوا . قالت العقلاء : ثلاثة ليس لها نهاية : الأمن والصحة والكفاية . { يأتيها } ، أي : على سبيل التجدّد والاستمرار ، { رزقها رغداً } ، أي : واسعاً طيباً ، { من كل مكان } ، برّ وبحر بتيسير الله تعالى . ولما كانت السعة تجر إلى البطر غالباً نبه تعالى على ذلك بقوله تعالى : { فكفرت بأنعم الله } ، أي : الذي له الكمال كله ، وأنعم جمع نعمة . قال الزمخشري : على ترك الاعتداد بالتاء ، كدرع وأدرع . وقال قطرب : هي جمع نعم ، والنعم النعمة ، يقال : هذه أيام نعم وطعم فلا تصوموا ، وقيل : جمع نعماء ، مثل بأساء وأبؤس . فإن قيل : الأنعم جمع قلة فكأنّ تلك القرية كفرت بأنواع قليلة من نعم الله فعذبها الله تعالى ، فلم لم يقل تعالى : كفروا بنعم عظيمة فاستوجبوا العذاب ؟ أجيب : بأنّ المقصود التنبيه بالأدنى على الأعلى ، فإن كفران النعم القليلة لما أوجب العذاب ، فبكفران النعم الكثيرة أولى ، وبأنّ الله تعالى أنعم عليهم بالنعمة العظيمة وهو محمد صلى الله عليه وسلم فكفروا به وبالغوا في إيذائه . { فأذاقها الله } ، أي : المحيط بكل شيء ، { لباس الجوع } ، بعد رغد العيش سبع سنين ، وقطعت العرب عنهم الميرة بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جهدوا ، وأكلوا العظام المحرقة والجيف والكلاب الميتة ، وقيل : إنّ القرية غير مكة ؛ لأنها ضربت مثلاً لمكة ، ومثل مكة يكون غير مكة . { والخوف } بسرايا النبيّ صلى الله عليه وسلم .

تنبيه : استعير الذوق لإدراك أثر الضرر ، واللباس لما غشيهم واشتمل عليهم من الجوع والخوف ، وأوقع الإذاقة عليه بالنظر إلى المستعار له كقول كثير عزة :

غمر الرداء إذا تبسم ضاحكاً *** غلقت لضحكته رقاب المال

فإنه استعار الرداء للمعروف ؛ لأنه يصون عرض صاحبه صون الرداء لما يلقى عليه ، وأضاف إليه الغمر الذي هو وصف المعروف والنوال لا وصف الرداء ، نظراً إلى المستعار له ، ولو نظر إلى المستعار لقال : صافي الرداء ، أي : سابغه ومعنى البيت : إذا ضحك المسؤول ضحكة أيقن السائل بذلك التبسم استرقاق رقاب ماله ، وأنه يعطي بلا خلاف ، وقد ينظر إلى المستعار له كقوله :

ينازعني ردائي عبد عمرو *** رويدك يا أخا عمرو بن بكر

لي الشطر الذي ملكت يميني *** ودونك فاعتجر منه بشطر

استعار الرداء للسيف ، ثم قال : فاعتجر ، نظراً إلى المستعار ، ولو نظر إلى المستعار منه لقال تعالى في الآية : وكساهم لباس الجوع والخوف ، ولقال كثير : صافي الرداء إذا تبسم ضاحكاً ، وهذا نهاية ما يقال في الاستعارة ، وقال ابن عطية : لما باشرهم ذلك صار كاللباس ، وهذا كقول الأعشى :

إذا ما الضجيع ثنى جيدها *** تثنت عليه فكانت لباسا

ومثله قوله تعالى : { هنّ لباس لكم وأنتم لباس لهنّ } [ البقرة ، 187 ] ومثله قول الشاعر :

وقد لبست بعد الزبير مجاشع *** لباس التي حاضت ولم تغسل الدما

كأنَّ العار لما باشرهم ولصق بهم كأنهم نسوة . وقوله تعالى : { فأذاقها } ، نظير قوله تعالى : { ذق إنك أنت العزيز الكريم } [ الدخان ، 49 ] ، ونظير قول الشاعر :

دون ما جنيت فأحس وذق .

وقوله تعالى : { بما كانوا يصنعون } ، يجوز أن تكون ما مصدرية ، أي : بسبب صنعهم ، أو بمعنى الذي ، والعائد محذوف ، أي : بسبب الذي كانوا يصنعونه ، والواو في يصنعون عائد على أهل البلد ، وقيل : قرية ، نظير قوله تعالى : { أو هم قائلون } [ الأعراف ، 4 ] ، بعد قوله تعالى : { وكم من قرية أهلكناها } [ الأعراف ، 4 ] .