لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن - الخازن  
{وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلٗا قَرۡيَةٗ كَانَتۡ ءَامِنَةٗ مُّطۡمَئِنَّةٗ يَأۡتِيهَا رِزۡقُهَا رَغَدٗا مِّن كُلِّ مَكَانٖ فَكَفَرَتۡ بِأَنۡعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَٰقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلۡجُوعِ وَٱلۡخَوۡفِ بِمَا كَانُواْ يَصۡنَعُونَ} (112)

قوله عز وجل : { وضرب الله مثلاً قرية } ، المثل عبارة عن قول في شيء يشبه قولاً من شيء آخر بينهما مشابهة ، ليبين أحدهما الآخر ويصوره ، وقيل : هو عبارة عن المشابهة لغيره في معنى من المعاني ، أي معنى كان ، وهو أعم الألفاظ الموضوعة للمشابهة ، قال الإمام فخر الدين الرازي : المثل قد يضرب بشيء موصوف بصفة معينة ، سواء كان ذلك الشيء موجوداً أو لم يكن ، وقد يضرب بشيء موجود معين ، فهذه القرية التي ضرب الله بها هذا المثل يحتمل أن تكون شيئاً مفروضاً ، ويحتمل أن تكون قرية معينة ، وعلى التقدير الثاني فتلك القرية يحتمل أن تكون مكة أو غيرها ، والأكثر من المفسرين على أنها مكة ، والأقرب أنها غير مكة ؛ لأنها ضربت مثلاً لمكة ، ومثل مكة يكون غير مكة ، وقال الزمخشري في كتابه الكشاف : وضرب الله مثلاً قرية ، أي : جعل القرية التي هذه حالها ، مثلاً لكل قوم أنعم الله عليهم فأبطرتهم النعمة فكفروا وتولوا فأنزل الله بهم نقمته ، فيجوز أن تراد قرية مقدرة على هذه الصفة ، وأن تكون في قرى الأولين قرية كانت هذه حالها ، فضرب الله مثلاً لمكة إنذاراً من مثل عاقبتها . وقال الواحدي : ضرب المثل ببيان المشبه والمشبه به ، وهاهنا ذكر المشبه به ولم يذكر المشبه لوضوحه عند المخاطبين ، والآية عند عامة المفسرين نازلة في أهل مكة وما امتحنوا به من الخوف والجوع بعد الأمن ، والنعمة بتكذيبهم النبي صلى الله عليه وسلم ، فتقدير الآية : ضرب الله مثلاً لقريتكم ، أي : بين الله لها شبهاً ، ثم قال : قرية ، فيجوز أن تكون القرية بدلاً من مثلاً ؛ لأنها هي الممثل بها ، ويجوز أن يكون المعنى ضرب الله مثلاً ، مثل قرية ، فحذف المضاف ، هذا قول الزجاج ، والمفسرون كلهم قالوا : أراد بالقرية مكة ، يعنون أنه أراد مكة في تمثيلها بقرية صفتها ما ذكر . وقال ابن الجوزي : في هذه القرية قولان : أحدهما أنها مكة ، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والجمهور ، وهو الصحيح ، والثاني أنها قرية أوسع الله على أهلها حتى كانوا يستنجون بالخبز ، فبعث الله عليهم الجوع ، قاله الحسن . وأقول : هذه الآية نزلت بالمدينة في قول مقاتل وبعض المفسرين ، وهو الصحيح ؛ لأن الله سبحانه وتعالى وصف هذه القرية بصفات ستة كانت هذه الصفات موجودة في أهل مكة ، فضربها الله مثلاً لأهل المدينة يحذرهم أن يصنعوا مثل صنيعهم ، فيصيبهم ما أصابهم من الجوع والخوف ، ويشهد لصحة ما قلت إن الخوف المذكور في هذه الآية في قوله : " فأذاقها الله لباس الجوع والخوف " ، هو البعوث والسرايا التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعثها ، في قول جميع المفسرين ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤمر بالقتال وهو بمكة ، وإنما أُمر بالقتال لما هاجر إلى المدينة ، فكان يبعث البعوث والسرايا إلى حول مكة يخوّفهم بذلك ، وهو بالمدينة والله أعلم بمراده ، وأما تفسير قوله تعالى : " وضرب الله مثلاً قرية " ، يعني : مكة . { كانت آمنة } ، يعني : ذات أمن لا يهاج أهلها ولا يغار عليهم . { مطمئنة } ، يعني : قارة بأهلها لا يحتاجون إلى الانتقال عنها للانتجاع ، كما كان يحتاج إليه سائر العرب . { يأتيها رزقها رغداً } ، يعني : واسعاً ، { من كل مكان } ، يعني : يحمل إليها الرزق والميرة من البر والبحر . نظيره قوله سبحانه وتعالى : " تجبى إليه ثمرات كل شيء " ، وذلك بدعوة إبراهيم صلى الله عليه وسلم وهو قوله : { وارزق أهله من الثمرات } . { فكفرت } ، يعني : هذه القرية ، والمراد أهلها ، { بأنعم الله } ، جمع نعمة ، والمراد بها سائر النعم التي أنعم الله بها على أهل مكة ، فلما قابلوا نعم الله التي أنعم بها عليهم بالجحود والكفر ، لا جرم أن الله تعالى انتقم منهم فقال تعالى : { فأذاقها الله لباس الجوع والخوف } ، وذلك أن الله سبحانه وتعالى ابتلاهم بالجوع سبع سنين ، فقطع عنهم المطر ، وقطعت عنهم العرب الميرة بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى جهدوا فأكلوا العظام المحرقة والجيف الكلاب والميتة والعهن ، وهو الوبر يعالج بالدم ويخلط به حتى يؤكل ، حتى كان أحدهم ينظر إلى السماء فيرى شبه الدخان من الجوع ، ثم إن رؤساء مكة كلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك ، وقالوا : ما هذا ؟ ! هبك عاديت الرجال ، فما بال النساء والصبيان ، فأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حمل الطعام إليهم وهم بعد مشركون . " والخوف " ، يعني : خوف بعوث النبي صلى الله عليه وسلم وسراياه التي كان يبعثها للإغارة ، فكانت تطيف بهم وتغير على من حولهم من العرب ، فكان أهل مكة يخافونهم . فإن قلت : الإذاقة واللباس استعارتان فما وجه صحتهما ، والإذاقة المستعارة موقعة على اللباس المستعار فما وجه صحة إيقاعها عليه ، وهو أن اللباس لا يذاق بل يلبس ، فيقال : كساهم الله لباس الجوع ، أو يقال : فأذاقهم الله طعم الجوع ، قلت : قال صاحب الكشاف : أما الإذاقة فقد جرت عندهم مجرى الحقيقة لشيوعها في البلايا والشدائد ، وما يمس الناس منها ، فيقولون : ذاق فلان البؤس والضر ، وأذاقه العذاب ، شبه ما يدرك من أثر الضرر والألم بما يدرك من طعم المر البشع ، وأما اللباس فقد شبه به لاشتماله على اللابس ما غشي الإنسان ، والتلبس به من بعض الحوادث ، وأما إيقاع الإذاقة على لباس الجوع والخوف ؛ فلأنه لما وقع عبارة عما يغشى منهما ويلابس ، فكأنه قيل : فأذاقهم ما غشيهم من الجوع والخوف ، ثم ذكر بعده من علم المعاني والبيان ما يشهد لصحة ما قال . وقال الإمام فخر الدين الرازي : جوابه من وجوه ، الأول : أن الأحوال التي حصلت لهم عند الجوع نوعان : أحدهما أن المذوق هو الطعام ، فلما فقدوا الطعام صاروا كأنهم يذوقون الجوع .

والثاني : أن ذلك الجوع كان شديداً كاملاً ، فصار كأنه أحاط بهم من كل الجهات فأشبه اللباس ، والحاصل أنه حصل لهم في ذلك الجوع حالة تشبه المذوق ، وحالة تشبه الملبوس ، فاعتبر الله كلا الاعتبارين فقال : " فأذاقهما الله لباس الجوع والخوف " . الوجه الثاني : أن التقدير أن الله عرفها أثر لباس الجوع والخوف ، إلا أنه تعالى عبر عن التعريف بلفظ الإذاقة ، وأصل الذوق بالفم ، ثم قد يستعار ، فوضع موضع التعرف ، وهو الاختبار ، تقول : ناظر فلاناً وذاق ما عنده :

ومن يذق الدنيا طعمتها *** وسيق إلينا عذبها وعذابها

ولباس الجوع والخوف ما ظهر عليهم من الضمور ، وشحوب اللون ، ونهكة البدن ، وتغيير الحال ، وكسوف البال ، كما تقول : تعرفت سوء أثر الجوع والخوف على فلان ، كذلك يجوز أن تقول : ذقت لباس الجوع والخوف على فلان . الوجه الثالث : أن يحمل لفظ الذوق واللبس على المماسة ، فصار التقدير : فأذاقها الله مساس الجوع والخوف ، ثم قال تعالى : { بما كانوا يصنعون } ، ولم يقل : بما صنعت ؛ لأنه أراد أهل القرية ، والمعنى : فعلنا بهم ما فعلنا بسبب ما كانوا يصنعون ، وهذا مثل أهل مكة ؛ لأنهم كانوا في الأمن والطمأنينة والخصب ، ثم أنعم الله عز وجل عليهم بالنعمة العظيمة ، وهي إرسال محمد صلى الله عليه وسلم وهو منهم ، فكفروا به وكذبوه وبالغوا في إيذائه ، وأرادوا قتله ، فأخرجه الله من بينهم ، وأمره بالهجرة إلى المدينة ، وسلط على أهل مكة البلاء والشدائد والجوع والخوف ، كل ذلك بسبب تكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وخروجه من بين أظهرهم .