قوله تعالى : { يسألونك عن الأهلة } . نزلت في معاذ بن جبل ، وثعلبة ابن غنم الأنصاريين قالا : يا رسول الله ما بال الهلال يبدو دقيقاً ، ثم يزيد حتى يمتلئ نوراً ، ثم يعود دقيقاً كما بدأ ، ولا يكون على حاله ، فأنزل الله تعالى : ( يسألونك عن الأهلة ) وهي جمع هلال ، مثل رداء وأردية سمي هلالاً لأن الناس يرفعون أصواتهم بالذكر عند رؤيته ، من قولهم استهل الصبي ، إذا صرخ حين يولد ، وأهل القوم بالحج إذا رفعوا أصواتهم بالتلبية .
قوله تعالى : { قل هي مواقيت للناس والحج } . جمع ميقات ، أي فعلنا ذلك فعلنا ذلك ليعلم ذلك ليعلم الناس أوقات الحج ، والعمرة ، والصوم ، والإفطار ، وآجال الديون ، وعدد النساء ، وغيرها ، فلذلك خالف بينه وبين الشمس التي هي دائمة على حالة واحدة .
قوله تعالى : { وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها } . قال أهل التفسير : كان الناس في الجاهلية وفي أول الإسلام إذا أحرم الرجل منهم بالحج ، أو العمرة لم يدخل حائطاً ولا بيتاً ولا داراً من بابه . فإن كان من أهل المدر نقب نقباً في ظهر بيته ليدخل منه ويخرج ، أو يتخذ سلماً فيصعد منه ، وإن كان من أهل الوبر خرج من خلف الخيمة والفسطاط ، ولا يدخل ولا يخرج من الباب حتى يحل من إحرامه ويرون ذلك براً ، إلا أن يكون من الحمس وهم قريش وكنانة وخزاعة وثقيف وخيثم وبنو عامر بن صعصعة ، وبنو مضر بن معاوية ، سموا حمساً لتشددهم في دينهم ، والحماسة الشدة والصلابة ، قالوا : فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بيتاً لبعض الأنصار ، فدخل رجل من الأنصار يقال له رفاعة بن التابوت على أثره من الباب وهو محرم فأنكروا عليه ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : لم دخلت من الباب وأنت محرم : قال رأيتك دخلت فدخلت على أثرك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني أحمسي فقال الرجل : إن كنت أحمسياً فإني أحمسي ، رضيت بهديك ، وسمتك ودينك فأنزل الله تعالى هذه الآية . وقال الزهري : كان ناس من الأنصار إذا أهلوا بالعمرة لم يحل بينهم وبين السماء شيء ، وكان الرجل يخرج مهلاً بالعمرة فتبدو له الحاجة بعد ما يخرج من بيته فيرجع ولا يدخل من باب الحجرة من أجل سقف البيت ، أن يحول بينه وبين السماء ، فيفتح الجدار من ورائه ، ثم يقوم في حجرته فيأمر بحاجته ، حتى بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل زمن الحديبية بالعمرة ، فدخل حجرة فدخل رجل على أثره من الأنصار ، من بني سلمة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لم فعلت ذلك ؟ قال لأني رأيتك دخلت . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني أحمسي . فقال الأنصاري : وأنا أحمسي ، يقول وأنا على دينك ، فأنزل الله تعالى ( وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ) . قرأ ابن كثير وابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر : والبيوت ، والغيوب ، والجيوب ، والعيون ، وشيوخاً ، بكسر أوائلهن لمكان الياء ، وقرأ الباقون ، بالضم على الأصل ، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي جيوب بكسر الجيم ، وقرأ أبو بكر وحمزة " العيوب " بكسر العين .
قوله تعالى : { ولكن البر من اتقى } . أي : البر : بر من اتقى .
قوله تعالى : { وأتوا البيوت من أبوابها } . في حال الإحرام .
قوله تعالى : { واتقوا الله لعلكم تفلحون } . أي في طاعة الله .
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }
يقول{[127]} تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ } جمع - هلال - ما فائدتها وحكمتها ؟ أو عن ذاتها ، { قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ } أي : جعلها الله تعالى بلطفه ورحمته على هذا التدبير يبدو الهلال ضعيفا في أول الشهر ، ثم يتزايد إلى نصفه ، ثم يشرع في النقص إلى كماله ، وهكذا ، ليعرف الناس بذلك ، مواقيت عباداتهم من الصيام ، وأوقات الزكاة ، والكفارات ، وأوقات الحج .
ولما كان الحج يقع في أشهر معلومات ، ويستغرق أوقاتا كثيرة قال : { وَالْحَجِّ } وكذلك تعرف بذلك ، أوقات الديون المؤجلات ، ومدة الإجارات ، ومدة العدد والحمل ، وغير ذلك مما هو من حاجات الخلق ، فجعله تعالى ، حسابا ، يعرفه كل أحد ، من صغير ، وكبير ، وعالم ، وجاهل ، فلو كان الحساب بالسنة الشمسية ، لم يعرفه إلا النادر من الناس .
{ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا } وهذا كما كان الأنصار وغيرهم من العرب ، إذا أحرموا ، لم يدخلوا البيوت من أبوابها ، تعبدا بذلك ، وظنا أنه بر . فأخبر الله أنه ليس ببر{[128]} لأن الله تعالى ، لم يشرعه لهم ، وكل من تعبد بعبادة لم يشرعها الله ولا رسوله ، فهو متعبد ببدعة ، وأمرهم أن يأتوا البيوت من أبوابها لما فيه من السهولة عليهم ، التي هي قاعدة من قواعد الشرع .
ويستفاد من إشارة الآية أنه ينبغي في كل أمر من الأمور ، أن يأتيه الإنسان من الطريق السهل القريب ، الذي قد جعل له موصلا ، فالآمر بالمعروف ، والناهي عن المنكر ، ينبغي أن ينظر في حالة المأمور ، ويستعمل معه الرفق والسياسة ، التي بها يحصل المقصود أو بعضه ، والمتعلم والمعلم ، ينبغي أن يسلك أقرب طريق وأسهله ، يحصل به مقصوده ، وهكذا كل من حاول أمرا من الأمور وأتاه من أبوابه وثابر عليه ، فلا بد أن يحصل له المقصود بعون الملك المعبود .
{ وَاتَّقُوا اللَّهَ } هذا هو البر الذي أمر الله به ، وهو لزوم تقواه على الدوام ، بامتثال أوامره ، واجتناب نواهيه ، فإنه سبب للفلاح ، الذي هو الفوز بالمطلوب ، والنجاة من المرهوب ، فمن لم يتق الله تعالى ، لم يكن له سبيل إلى الفلاح ، ومن اتقاه ، فاز بالفلاح والنجاح .
قال العوفي عن ابن عباس : سأل الناسُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن الأهلة ، فنزلت هذه الآية : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ [ وَالْحَجِّ ]{[3373]} } يعلمون بها حِلَّ دَيْنهم ، وعدّة نسائهم ، ووقتَ حَجِّهم .
وقال أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : بلغنا أنَّهم قالوا : يا رسول الله ، لم خُلِقَتْ الأهلة ؟ فأنزل الله { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ } يقول : جَعَلَهَا الله مواقيت لصَوْم المسلمين وإفطارهم ، وعدة نسائهم ، ومَحَلّ دَيْنهم .
وكذا رُوي عن عَطَاء ، والضحاك ، وقتادة ، والسدي ، والربيع بن أنس ، نحو ذلك .
وقال عبد الرزاق ، عن عبد العزيز بن أبي رَوّاد ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " جعل الله الأهلة مواقيت للناس فصوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، فإن غم عليكم فَعُدُّوا ثلاثين يومًا " .
ورواه الحاكم في مستدركه ، من حديث ابن أبي رواد ، به{[3374]} . وقال : كان ثقة عابدًا مجتهدًا شريف النسب ، فهو صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه .
وقال محمد بن جابر ، عن قيس بن طلق ؛ عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " جعل الله الأهلَّة ، فإذا رأيتم الهلال فصُوموا ، وإذا رأيتموه فأفطروا ، فإن أغْمي عليكم فأكملوا العدة ثلاثين " {[3375]} . وكذا روي من حديث أبي هريرة ، ومن كلام عليّ بن أبي طالب ، رضي الله عنه{[3376]} {[3377]} .
وقوله : { وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا } قال البخاري : حدثنا عبيد الله{[3378]} بن موسى ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء قال : كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتَوْا البيت من ظهره ، فأنزل الله { وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا }{[3379]} .
وكذا رواه أبو داود الطيالسي ، عن شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن البراء ، قال : كانت الأنصار إذا قدموا من سَفَر لم يدخل الرجل من قبل بابه ، فنزلت هذه الآية .
وقال الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر : كانت قريش تدعى الحُمْس ، وكانوا يدخلون من الأبواب في الإحرام ، وكانت الأنصار وسائر العرب لا يدخلون من باب في الإحرام ، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بستان إذْ خرج من بابه ، وخرج معه قُطْبة بن عامر الأنصاري ، فقالوا : يا رسول الله ، إن قطبة ابن عامر رجل تاجر{[3380]} وإنه خرج معك من الباب . فقال له : " ما حملك على ما صنعت ؟ " قال : رأيتك فعلتَه ففعلتُ كما فعلتَ . فقال : " إني [ رجل ]{[3381]} أحمس " . قال له : فإن ديني دينك . فأنزل الله { وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا } رواه ابن أبي حاتم . ورواه العوفي عن ابن عباس بنحوه . وكذا روي عن مجاهد ، والزهري ، وقتادة ، وإبراهيم النخعي ، والسدي ، والربيع بن أنس .
وقال الحسن البصري : كان أقوام من أهل الجاهليّة إذا أراد أحدُهم سَفرًا وخرج من بيته يُريد سفره الذي خرج له ، ثم بدا له بَعْد خُروجه أن يُقيم ويدعَ سفره ، لم يدخل البيت من بابه ، ولكن يتسوّره من قبل ظهره ، فقال{[3382]} الله تعالى : { وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا [ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى ]{[3383]} } الآية .
وقال محمد بن كعب : كان الرجل إذا اعتكف لم يدخل منزله من باب البيت ، فأنزل الله هذه الآية .
وقال عطاء بن أبي رباح : كان أهل يثرب إذا رجعوا من عيدهم دخلوا منازلهم من ظهورها ويَرَوْنَ أن ذلك أدنى إلى البر ، فقال الله تعالى : { وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا }
وقوله : { وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أي : اتقوا الله فافعلوا ما أمركم به ، واتركوا ما نهاكم عنه { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } غدا إذا وقفتم بين يديه ، فيجزيكم{[3384]} بأعمالكم على التمام ، والكمال .