السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{۞يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَهِلَّةِۖ قُلۡ هِيَ مَوَٰقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلۡحَجِّۗ وَلَيۡسَ ٱلۡبِرُّ بِأَن تَأۡتُواْ ٱلۡبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنِ ٱتَّقَىٰۗ وَأۡتُواْ ٱلۡبُيُوتَ مِنۡ أَبۡوَٰبِهَاۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (189)

{ يسألونك } يا محمد { عن الأهلة } جمع هلال مثل رداء وأردية ، والهلال اسم له : أوّل الليلة الأولى والثانية والثالثة ، وبعدها يسمى قمراً ، وهنا سماه بأوّل حالاته لأنّ الناس يرفعون أصواتهم بالذكر عند رؤيته من قولهم : استهل الصبيّ إذا صرخ حين يولد { قل } لهم { هي مواقيت } جمع ميقات أي : معالم { للناس } يعلمون بها أوقات زرعهم ومتاجرهم ومحال ديونهم وصيامهم وإفطارهم وعدد نسائهم وأيام حيضهنّ ومدّة حملهنّ وغير ذلك .

وقوله تعالى : { والحج } عطف على الناس أي : يعلمون بها وقته أداء وقضاء ، هذه هي الحكمة الظاهرة في ذلك ، ولهذا خالف بين الأهلة وبين الشمس فلو استمرّت الأهلة على حالة لم يعرف حال ما ذكر ، ولما كان الناس في الجاهلية وفي أوّل الإسلام إذا أحرم الرجل منهم بالحج أو العمرة لم يدخل حائطاً ولا بيتاً ولا داراً من بابه فإن كان من أهل المدر نقب نقباً في ظهر بيته ويدخل منه ويخرج ، أو يتخذ سلماً فيه فيصعد منه ، وإن كان من أهل الوبر خرج من خلف الخيمة والفسطاط ، ولا يدخل ولا يخرج من الباب حتى يحل من إحرامه ويرون ذلك براً ، إلا أن يكون من الحمس وهم : قريش وكنانة وخزاعة وثقيف وبنو عامر بن صعصعة ، وبنو نضر بن معاوية ، سموا حمساً لشدّتهم في دينهم ، والحماسة : الشدّة والصلاة ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بيتاً لبعض الأنصار فدخل رجل من الأنصار يقال له رفاعة بن تابوت على أثره من الباب وهو محرم فأنكروا عليه ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لم دخلت من الباب وأنت محرم ؟ ) قال : رأيتك دخلت فدخلت على أثرك فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «فإني أحمس » فقال الرجل : فإن كنت أحمس فإني أحمس رضيت بهداك وبسمتك ودينك فأنزل الله تعالى { وليس البرّ بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكنّ البر } أي : ذا البر { من اتقى } الله ، بترك مخالفته ، ووجه اتصال هذه الآية بما قبلها أنهم سألوا عن الحكمة في اختلال حال القمر وعن حكم دخولهم بيوتهم من غير أبوابها أو أنه تعالى لما ذكر أنها مواقيت الحج ، وهذا أيضاً من أفعالهم في الحج ذكره للاستطراد ، وأنهم لما سألوا عما لا يعنيهم ولا يتعلق بعلم النبوّة وتركوا السؤال عما يعنيهم وهو معرفة الحلال والحرام ، ويختص بعلم النبوّة ، عقب بذكره جواب ما سألوه تنبيهاً على أنّ اللائق بهم أن يسألوا عن أمثال ذلك ، ويهتموا بالعلم بها ، أو على أنّ المراد به التنبيه على تعكيسهم السؤال وتمثيلهم بحال من ترك باب البيت ودخل من ورائه ، والمعنى وليس البرّ أن تعكسوا في مسائلكم ولكن من اتقى ذلك ولم يجسر على مثله .

{ وائتوا البيوت من أبوابها } في الإحرام كغيره ؛ إذ ليس في العدول برأ ، وباشروا الأمور من وجوهها التي يجب أن تباشر عليها والمراد توطين النفوس وربط القلوب على أنّ جميع أفعال الله تعالى حكم وصواب من غير اختلاج شبهة ، ولا اعتراض شك في ذلك حتى لا يسأل عنه كما في السؤال من الاتهام بمقارنة الشك لا يسأل عما يفعل وهم يسألون .

{ واتقوا الله } في تغيير الأحكام { لعلكم تفلحون } لكي تفوزوا بالهدى والبرّ ، وقرأ ورش وأبو عمرو وحفص البيُوت بضمّ الباء حيث جاء معرفاً كان أو منكراً ، وكسرها الباقون ، ولا خلاف في وليس البرّ هنا ، أنّ الراء مرفوعة للجميع ، وقرأ نافع وابن عامر : ولكن بكسر النون مخففة ورفع الراء ، والباقون بفتح النون مشدّدة ونصب الراء ، ولما صدّ المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البيت عام الحديبية ، وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج مع أصحابه للعمرة ، وكانوا ألفاً وأربعمائة فساروا حتى نزلوا الحديبية فصدهم المشركون من البيت الحرام ، وصالحوه على أن يرجع من قابل ، فيخلوا له مكة ثلاثة أيام فيطوف بالبيت ، فلما كان العام المقبل تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرة القضاء وخاف المسلمون أن لا يوفوا لهم ويقاتلوهم في الحرم ، والإحرام والشهر الحرام ، وكره المسلمون ذلك نزل .