الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{۞يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَهِلَّةِۖ قُلۡ هِيَ مَوَٰقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلۡحَجِّۗ وَلَيۡسَ ٱلۡبِرُّ بِأَن تَأۡتُواْ ٱلۡبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنِ ٱتَّقَىٰۗ وَأۡتُواْ ٱلۡبُيُوتَ مِنۡ أَبۡوَٰبِهَاۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (189)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{يسألونك عن الأهلة}: نزلت في معاذ بن جبل، وثعلبة بن غنمة، وهما من الأنصار، فقال معاذ: يا رسول الله، ما بال الهلال يبدو مثل الخيط، ثم يزيد حتى يمتلئ فيستوي، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدأ، فأنزل الله عز وجل: {يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس}:في أجل دينهم، وصومهم، وفطرهم، وعدة نسائهم، والشروط التي بينهم إلى أجل.

ثم قال عز وجل: {والحج}: وقت حجهم والأهلة مواقيت لهم. وذلك قوله سبحانه: {وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها}؛ وذلك أن الأنصار في الجاهلية وفي الإسلام كانوا إذا أحرم أحدهم بالحج أو بالعمرة، وهو من أهل المدن، وهو مقيم في أهله لم يدخل منزله من باب الدار، ولكن يوضع له سلم إلى ظهر البيت فيصعد فيه، وينحدر منه، أو يتسور من الجدار، وينقب بعض بيوته، فيدخل منه ويخرج منه، فلا يزال كذلك حتى يتوجه إلى مكة محرما، وإذا كان من أهل الوبر دخل وخرج من وراء بيته.

وأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل يوما نخلا لبني النجار، ودخل معه قطبة بن عامر الأنصاري من قبل الجدار، وهو محرم، فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من الباب وهو محرم، خرج قطبه من الباب، فقال رجل: هذا قطبة خرج من الباب وهو محرم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"ما حملك أن تخرج من الباب وأنت محرم؟"، قال: يا نبي ا الله، رأيتك خرجت من الباب وأنت محرم، فخرجت معك، وديني دينك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "خرجت لأني من أحمس"، فقال قطبة للنبي صلى الله عليه وسلم: إن كنت أحمسيا فإني أحمسي، وقد رضيت بهديك ودينك فاستننت بسنتك، فأنزل الله في قول قطبة بن عامر للنبي صلى الله عليه وسلم: {وليس البر}، يعني التقوى، {بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى} الله واتبع أمره. ثم قال عز وجل: {وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله}: ولا تعصوه، يحذركم {لعلكم}: لكي {تفلحون}، والحمس قريش، وكنانة، وخزاعة، وعامر بن صعصعة، الذين لا يسلون السمن ولا يأكلون الأقط ولا يبنون الشعر والوبر.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن زيادة الأهلة ونقصانها واختلاف أحوالها، فأنزل الله تعالى ذكره هذه الآية جوابا لهم فيما سألوا عنه عن قتادة قوله:"يَسألُونَكَ عَنِ الأهِلّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ للنّاسَ" قال: سألوا نبيّ الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك: لم جعلت هذه الأهلة؟ فأنزل الله فيها ما تسمعون: "هِيَ مَوَاقِيتُ للنّاسِ"؛ فجعلها لصوم المسلمين ولإفطارهم ولمناسكهم وحجهم ولعدّة نسائهم ومحلّ دَينهم في أشياء، والله أعلم بما يصلح خلقه...

فتأويل الآية إذا كان الأمر على ما ذكرنا عمن ذكرنا عنه قوله في ذلك: يسألونك يا محمد عن الأهلة ومحاقها وسِرارها وتمامها واستوائها وتغير أحوالها بزيادة ونقصان ومحاق واستسرار، وما المعنى الذي خالف بينه وبين الشمس التي هي دائمة أبدا على حال واحدة لا تتغير بزيادة ولا نقصان، فقل يا محمد خالف بين ذلك ربكم لتصييره الأهلة التي سألتم عن أمرها ومخالفة ما بينها وبين غيرها فيما خالف بينها وبينه، مواقيت لكم ولغيركم من بني آدم في معايشهم، ترقبون بزيادتها ونقصانها ومحاقها واستسرارها وإهلالكم إياها أوقات حل ديونكم، وانقضاء مدة إجارة من استأجرتموه، وتصرّم عدة نسائكم، ووقت صومكم وإفطاركم، فجعلها مواقيت للناس.

"وَالحَجّ": وللحج، يقول: وجعلها أيضا ميقاتا لحجكم تعرفون بها وقت مناسككم وحجكم.

{وَلَيْسَ الْبِرّ بِأنْ تَأتُوا البُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلَكِنّ البِرّ مَنِ اتّقَى وأتْوُا البُيُوتَ مِنْ أبْوَابِها وَاتّقُوا اللّهَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُون}.

قيل: نزلت هذه الآية في قوم كانوا لا يدخلون إذا أحرموا بيوتهم من قبل أبوابها... عن أبي إسحاق، قال: سمعت البراء يقول: كانت الأنصار إذا حجوا ورجعوا لم يدخلوا البيوت إلا من ظهورها. قال: فجاء رجل من الأنصار فدخل من بابه، فقيل له في ذلك، فنزلت هذه الآية: {وَلَيْسَ البِرّ بِأنْ تَأتُوا البُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها.}

فتأويل الآية إذا: وليس البر أيها الناس بأن تأتوا البيوت في حال إحرامكم من ظهورها، ولكن البرّ من اتقى الله فخافه، وتجنب محارمه، وأطاعه بأداء فرائضه التي أمره بها، فأما إتيان البيوت من ظهورها فلا برّ لله فيه، فأتوها من حيث شئتم من أبوابها وغير أبوابها، ما لم تعتقدوا تحريم إتيانها من أبوابها في حال من الأحوال، فإن ذلك غير جائز لكم اعتقاده، لأنه مما لم أحرّمه عليكم.

{وَاتّقُوا اللّهَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُون.}: واتقوا الله أيها الناس فاحذروه وارهبوه بطاعته فيما أمركم من فرائضه واجتناب ما نهاكم عنه لتفلحوا فتنجحوا في طلباتكم لديه، وتدركوا به البقاء في جناته والخلود في نعيمه. وقد بينا معنى الفلاح فيما مضى قبل بما يدلّ عليه.

تفسير ابن خويزمنداد 390 هـ :

{وَلَيْسَ اَلْبِرُّ بِأَن تَاتُواْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا} إذا أشكل ما هو بر وقربة بما ليس برا وقربة أن ينظر في ذلك العمل؛ فإن كان له نظير في الفرائض والسنن فيجوز أن يكون وإن لم يكن فليس ببر ولا قربة، قال وبذلك جاءت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم. وذكر حديث ابن عباس قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب إذا هو برجل قائم في الشمس فسأل عنه، فقالوا: هو أبو إسرائيل نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (مروه فليتكلم وليستظلّ وليقعد وليتم صومه). فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم ما كان غير قربة مما لا أصل له في شريعته، وصحح ما كان قربة مما له نظير في الفرائض والسنن)...

النكت و العيون للماوردي 450 هـ :

{وَلَيْسَ الْبِّرُّ بِأَن تَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} فيه ستة أقاويل:...

والرابع: أن الرجل كان إذا خرج لحاجته، فعاد ولم ينجح لم يدخل من بابه، ودخل من ورائه، تطيراً من الخيبة، فأمرهم الله أن يأتوا بيوتهم من أبوابها.

والخامس: معناه ليس البر أن تطلبوا الخير من غير أهله، وتأتوه من غير بابه، وهذا قول أبي عبيدة.

والقول السادس: أنه مثلٌ ضَربه الله عز وجل لهم، بأن يأتوا البر من وجهه، ولا يأتوه من غير وجهه...

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

{وَلَيْسَ البِرُّ بِأَن تَأْتُوا البُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ البِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا البُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا واتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}: ليس البر مراعاة الأمور الظاهرة، بل البر تصفية السرائر وتنقية الضمائر...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{و لَّيْسَ البر} بتحرّجكم من دخول الباب {ولكن البر} برّ {مَنِ اتقى} ما حرّم الله.

فإن قلت: ما وجه اتصاله بما قبله؟ قلت: كأنه قيل لهم عند سؤالهم عن الأهلة وعن الحكمة في نقصانها وتمامها معلوم -: أنّ كل ما يفعله الله عزّ وجلّ لا يكون إلا حكمة بالغة ومصلحة لعباده، فدعوا السؤال عنه وانظروا في واحدة تفعلونها أنتم مما ليس من البرّ في شيء وأنتم تحسبونها برّاً. ويجوز أن يجري ذلك على طريق الاستطراد لما ذكر أنها مواقيت للحج، لأنه كان من أفعالهم في الحج. ويحتمل أن يكون هذا تمثيلاً لتعكيسهم في سؤالهم، وأن مثلهم فيه كمثل من يترك باب البيت ويدخله من ظهره. والمعنى: ليس البر وما ينبغي أن تكونوا عليه بأن تعكسوا في مسائلكم، ولكن البرّ برّ من اتقى ذلك وتجنبه ولم يجسر على مثله. ثم قال: {وَأْتُواْ البيوت مِنْ أبوابها} أي وباشروا الأمور من وجوهها التي يجب أن تباشر عليها ولا تعكسوا. والمراد وجوب توطين النفوس وربط القلوب على أن جميع أفعال الله حكمة وصواب، من غير اختلاج شبهة ولا اعتراض شك في ذلك حتى لا يسأل عنه؛ لما في السؤال من الاتهام بمقارفة الشك {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ} [الأنبياء: 21].

أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :

...

...

...

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَالْحَجِّ}. مَا فَائِدَةُ تَخْصِيصِ الْحَجِّ آخِرًا مَعَ دُخُولِهِ فِي عُمُومِ اللَّفْظِ الْأَوَّلِ؟ وَهِيَ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَحُجُّ بِالْعَدَدِ وَتُبَدِّلُ الشُّهُورَ؛ فَأَبْطَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِعْلَهُمْ وَقَوْلَهُمْ، وَجَعَلَهُ مَقْرُونًا بِالرُّؤْيَةِ.

الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :

قوله تعالى:"قل هي مواقيت للناس والحج" تبيين لوجه الحكمة في زيادة القمر ونقصانه، وهو زوال الإشكال في الآجال والمعاملات والإيمان والحج والعدد والصوم والفطر ومدة الحمل والإجارات والأكرية، إلى غير ذلك من مصالح العباد.

ونظيره قوله الحق: "وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب "[الإسراء: 12] وقوله: "هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب" [يونس: 5]. وإحصاء الأهلة أيسر من إحصاء الأيام.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما أتم سبحانه وتعالى البيان لما أراده مما شرعه في شهر الصوم ليلاً ونهاراً وبعض ما تبع ذلك وكان كثير من الأحكام يدور على الهلال لا سيما أحد قواعد الإسلام الحج الذي هو أخو الصوم، وكانت الأهلة كالحكام توجب أشياء وتنفي غيرها كالصيام والديون والزكوات وتؤكل بها الأموال حقاً أو باطلاً، وكان ذكر الشهر وإكمال العدة قد حرك العزم للسؤال عنه بين ذلك بقوله تعالى: {يسئلونك}... وهذه الآية كالجامعة الموطئة لما ذكر بعدها من أمر توقيت القتال الذي كانوا عليه كما كان من أمر الجاهلية حكم التحرج من القتال في الأشهر الحرم والتساهل فيه في أشهر الحل مع كونه عدوى بغير حكم حق فكان فيه عمل بالفساد وسفك الدماء... فمحا سبحانه ما أصلوه من ذلك بما شرعه من أمر القتال لكونه جهاداً...

فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :

وقد جعل بعض علماء المعاني هذا الجواب، أعني قوله: {قُلْ هِي مَوَاقِيتُ} من الأسلوب الحكيم، وهو: تلقي المخاطب بغير ما يترقب، تنبيهاً على أنه الأولى بالقصد، ووجه ذلك أنهم سألوا عن أجرام الأهلة باعتبار زيادتها، ونقصانها، فأجيبوا بالحكمة التي كانت تلك الزيادة، والنقصان لأجلها لكون ذلك أولى بأن يقصد السائل وأحق بأن يتطلع لعلمه...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

ذكر الله تعالى حكم الأموال عقب ذكر أحكام الصيام لما تقدم من المناسبة، والصيام عبادة موقوتة لا يتعدى فرضها شهر رمضان، والأموال وسيلة لعبادة الحج وهو يكون في الأشهر الحرم، ولعبادة القتال مدافعة عن الملة والأمة، وهي قد كانت ممنوعة في هذه الأشهر، فناسب أن يعقب بعد أحكام الصيام والأموال بذكر ما يشرع في الأشهر الحرم من الحج ومن القتال عند الاعتداء على المسلمين، ويبدأ ذلك بذكر حكمة اختلاف الأهلة.

قال {يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج} أي مواقيت لهم في صيامهم وحجهم من العبادات، وفي نحو عدة النساء وآجال العقود من المعاملات، فإن التوقيت بها يسهل على العالم بالحساب والجاهل به، وعلى أهل البدو والحضر، فهي مواقيت لجمع الناس وأما السنة الشمسية فإن شهورها تعرف بالحساب فهي لا تصلح إلا للحاسبين، ولم يقدروا على ضبطها إلا بعد ارتقاء العلوم الرياضية بزمن طويل. وقد ورد في أسباب نزول الآية أن بعضهم سأل النبي عن الأهلة مطلقا وأن بعضهم سأل لم خلقت؟ والروايتان عند ابن أبي حاتم. وأخرج أبو نعيم وابن عساكر من طريق السدي الصغير عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن معاذ بن جبل وثعلبة بن غنيمة قالا يا رسول الله ما بال الهلال يبدو دقيقا مثل الخيط ثم يعود كما كان لا يكون على حال واحد؟ فنزلت.

وقد اشتهر هذا السبب لأن علماء البلاغة يذكرونه في مطابقة الجواب للسؤال وعدمها، وزعموا أن مراد السائلين بيان السبب الطبيعي لهذا الاختلاف، وأن الجواب إنما جاء ببيان الحكمة دون بيان العلة لأنه موضوع الدين، جاريا على ما يسمى في البلاغة أسلوب الحكيم أو الأسلوب الحكيم.

قال الأستاذ الإمام: كأنه قال كان عليكم أن تسألوا عن الحكمة والفائدة في اختلاف الأهلة إن لم تكونوا تعرفونها، وإلا فعليكم الاكتفاء بها وعدم مطالبة الشارع بما ليس من الشرع. ففي الكلام تعريض بأن سؤالهم في غير محله، ولو توجه هذا السؤال ممن يتعلم علم الفلك إلى أستاذه فيه لما عد قبيحا ولا قيل إنه في غير محله، ولكنه موجه من أمي، إلى نبي لا إلى فلكي، فهو قبيح من هذا الوجه لا لذاته، وإلا لكان النظر في السموات والأرض لأجل الوقوف على أسرار الخليقة وأسباب ما فيها من الآيات والعبر مذموما، وكيف يذم وقد أرشدنا الله تعالى إليه، وحثنا في كتابه عليه: {أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من الفروج} (ق: 6) والآيات في هذا المعنى كثيرة.

وأقول: إن الرواية عن ابن عباس ضعيفة، بل قالوا إن رواية الكلبي عن أبي صالح هي أوهى الطرق عنه. على أن السؤال غير صريح في طلب بيان العلة، وحمله على طلب الحكمة والفائدة ولو مع العلة غير بعيد، فالمختار أن الجواب مطابق للسؤال وقد بين الأستاذ الإمام بمناسبة القول المشهور في السؤال وأنه عن العلة ما بعث الأنبياء لبيانه فهم يسألون عنه وما ليس كذلك فقال ما مثاله:

العلوم التي نحتاج إليها في حياتنا على أقسام: منها ما لا نحتاج فيه إلى أستاذ كالمحسوسات والوجدانات فهذا هو القسم الأول.

ومنها ما لا نجد له أستاذا لأنه مما لا مطمع للبشر في الوصول إليه البتة وهو كيفية التكوين والإيجاد الأول المعبر عنه بسر القدر يمكن للنباتي أن يعرف ما يتكون منه النبات وكيف ينبت وينمو ويتغذى. وللطبيب أن يعرف كيفية تولد الحيوان والأطوار التي يتدرج فيها منذ يكون نطفة إلى أن يكون إنسانا مستقلا عاقلا، ولكن لا يعرف نباتي ولا طبيب كيف وجدت أنواع النبات وأنواع الحيوان أو مادتهما لأول مرة، ولا كيف وجد غيرهما من المخلوقات، ومن هنا تعلمون أن العلاقة بين الخالق والمخلوق من هذه الجهة جهة الإيجاد والخلق لا يمكن اكتناهها. وكذلك لا يمكن اكتناه ذات الله تعالى وصفاته. وهذا هو القسم الثاني.

ومنها ما يتيسر للناس أن يعرفوه بالنظر والاستدلال والتجربة والبحث كالعلوم الرياضية والطبيعية والزراعية والصناعية والهيئة الفلكية، ومنها أسباب أطوار الهلال، وتنقله من حال إلى حال، أي المعبر عنه بقوله تعالى: {والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم} (يس: 39) وهذا هو القسم الثالث.

القسم الرابع: ما يجب علينا للخالق العظيم الذي أودع في فطرنا الشعور بسلطانه وهدى عقولنا إلى الإيمان به بما نراه من آياته في الآفاق وفي أنفسنا. فإن هذا الشعور وهذه الهداية مبهمان لا سبيل لنا إلى تحديدهما من حيث ما يجب اعتقاده في الله تعالى وفي حكمة خلقنا ومراده منا وما يتبع ذلك من أمر مصيرنا ومن حيث ما يجب له من الشكر والعبادة. وهذا مما لا سبيل إلى معرفته بطريق صناعي أو كسب بشري، فقد وقعت الأمم في الحيرة والخطأ في مسائله لجهلهم بالصلة والنسبة بين المخلوق والخالق، فمنهم من وصفه تعالى بما لا يصح أن يوصف به، ومنهم من توهم أن أعمالنا تفيده أو تؤلمه، وأنه ينعم علينا أو ينتقم منا بالمصائب لأجل ذلك. ومنهم من توهم أن الحياة الأخرى تكون بهذه الأجساد والجزاء فيها يكون بهذا المتاع، فاخترعوا الأدوية لحفظ أجسامهم ومتاعهم. وإذا كان الإنسان عاجزا عن تحديد ما يجب عليه ويحتاج إليه من الإيمان بالله وبالحياة الأخرى وما يجب عليه في الحياة الأولى شكرا لله واستعدادا لتلك الحياة لأن الحواس والعقل لا يدركان ذلك، فلا شك أنه محتاج إلى عقل آخر يدرك به ما يعوز أفراده من هذه الأمور، وهذا العقل هو النبي المرسل.

وبقي القسم الخامس: وهو ما يستطيع العقل البشري إدراك الفائدة منه ولكنه عرضة للخطأ فيه دائما لما يعرض له من الأهواء والشهوات التي تلقي الغشاوة على الأبصار والبصائر، فتحول دون الوصول إلى الحقيقة، أو تشبه النافع بالضار، وتلبس الحق بالباطل، مثال ذلك السعاية والمحل يدرك العقل ما فيه من الضرر والقبح ولكنه إذا رأى لنفسه فائدة من السعاية بشخص زينها له هواه فيراها حسنة من حيث يخفى عليه ضررها لذاتها، وكذلك شرب الخمر والحشيش وقد يعرف الإنسان مضرتها في غيره ولكن الشهوة تحجبه عن إدراك ذلك في نفسه فيؤثر حكم لذته على حكم عقله الذي ينهاه عن كل ضار، فصار محتاجا إلى معلم آخر ينصر العقل على الهوى، ووازع يكبح من جماح الشهوة ليكون على هدى.

فما يمكن للإنسان أن يصل إليه بنفسه، لا يطالب الأنبياء ببيانه، ومطالبتهم به جهل بوظيفتهم وإهمال للمواهب والقوى التي وهبه الله إياها ليصل بها إلى ذلك، وكذلك لا يطالبون بما يستحيل على البشر الوصول إليه كقول بعض بني إسرائيل لموسى: {لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة} (البقرة: 55) وأما ما كان إدراكه ممكنا، وكسبه بالحس والعقل متعذرا أو تحديده متعسرا، فهو الذي نحتاج فيه إلى هاد الخير عن الله تعالى لنأخذه عنه بالإيمان والتسليم، ولذلك قلنا إن الرسول عقل للأمة وهداية وراء هداية الحواس والوجدان والعقل.

لو كان من وظيفة النبي أن يبين العلوم الطبيعية والفلكية لكان يجب أن تعطل مواهب الحس والعقل، وينزع الاستقلال من الإنسان، ويلزم بأن يتلقى كل فرد من أفراده كل شيء بالتسليم، ولوجب أن يكون عدد الرسل في كل أمة كافيا لتعليم أفرادها في كل زمن كل ما يحتاجون إليه من أمور معاشهم ومعادهم، وإن شئت فقل لوجب أن لا يكون الإنسان هذا النوع الذي نعرفه، نعم إن الأنبياء ينبهون الناس بالإجمال إلى استعمال حواسهم وعقولهم في كل ما يزيد منافعهم ومعارفهم التي ترتقي بها نفوسهم، ولكن مع وصلها بالتنبيه على ما يقوي الإيمان ويزيد في العبرة. وقد أرشدنا نبينا صلى الله عليه وسلم إلى وجوب استقلالنا دونه في مسائل دنيانا في واقعة تأبير النخل إذ قال (أنتم أعلم بأمور دنياكم) ومن ههنا كان السؤال عن حقيقة الروح خطأ وقد أمر الله نبيه أن يجيب السائلين بقوله: {قل الروح من أمر ربي} (الإسراء: 85) أي أنها من المخلوقات التي لا يسأل النبي عنها كما كان السؤال عن علة اختلاف أطوار الأهلة خطأ لا يصح مجاراة السائل عليه بل عده القرآن من قبيل إتيان البيوت من ظهورها كما في تتمة الآية.

فإن قيل إن التاريخ من العلوم التي يسهل على البشر تدوينها والاستغناء بها عن الوحي فلماذا كثر سرد الأخبار التاريخية في القرآن وكانت في التوراة أكثر؟ والجواب ليس في القرآن شيء من التاريخ من حيث هو قصص وأخبار للأمم أو البلاد لمعرفة أحوالها، وإنما هي الآيات والعبر تجلت في سياق الوقائع بين الرسل وأقوامهم، لبيان سنن الله تعالى فيهم، إنذارا للكافرين بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وتثبيتا لقلبه وقلوب المؤمنين به... ولذلك لم تذكر قصة بترتيبها وتفصيلها، وإنما يذكر موضع العبرة فيها {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب} (يوسف: 120) {وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك} (هود: 120) وكل ما تراه في هذه التوراة التي عند القوم من القصص المسهبة والتاريخ المتصل من ذكر خلق آدم وما بعده فهي مما ألحق بالتوراة بعد موسى بقرون، بل كتب أكثر تواريخ العهد القديم بعد السبي ورجوع بني إسرائيل من بابل ومن أراد كمال البيان في وظائف الرسل فعليه برسالة التوحيد للأستاذ الإمام.

وإذا كان ما ورد في السؤال عن الأهلة لم يصح سندا كما تقدم فلا ينفي ذلك أن السؤال قد وقع بالفعل، ولا أن الرواية التي قالوها هي في نفسها صحيحة، فما كل ما لم يصح سنده باطل، ولا كل ما صح سنده واقع، فرب سند قالوا إنه صحيح لأنهم لا يعرفون جارحا في أحد من رجاله وهو غير صحيح لأن فيهم من خفي كذبه واستتر أمره. يدل على السؤال في الجملة قوله {يسألونك} ويستأنس لقول من قال إن السؤال كان على العلة والسبب قوله تعالى: {وليس البر أن تأتوا البيوت من ظهورها} فإن فيه تعريضا بأن من يسأل النبي عما لم يبعث النبي لبيانه ولا يتوقف عرفاته على الوحي فهو في طلبه الشيء من غير مطلبه كمن يطلب دخول البيت في ظهره دون بابه. وبهذا التقرير يكون الاتصال والالتحام بين أجزاء الآية أحكم وأقوى. ولولا أن هذا مفيد لحكم من أحكام الحج الذي يعرف ميقاته بالأهلة لكان لا معنى له إلا تأديب السائلين بتمثيل ذلك السؤال بمثل لا يرتضيه عاقل، وهو إتيان البيوت من ظهورها، وإرشادهم إلى ما ينبغي أن ينبغي أن يستفيدوه وتحسينه لهم بجعله كإتيان البيوت من أبوابها.

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

ويستفاد من إشارة الآية أنه ينبغي في كل أمر من الأمور، أن يأتيه الإنسان من الطريق السهل القريب، الذي قد جعل له موصلا، فالآمر بالمعروف، والناهي عن المنكر، ينبغي أن ينظر في حالة المأمور، ويستعمل معه الرفق والسياسة، التي بها يحصل المقصود أو بعضه، والمتعلم والمعلم، ينبغي أن يسلك أقرب طريق وأسهله، يحصل به مقصوده، وهكذا كل من حاول أمرا من الأمور وأتاه من أبوابه وثابر عليه، فلا بد أن يحصل له المقصود بعون الملك المعبود...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

هذا الدرس -كسابقه- استطراد في بيان فرائض هذه الأمة وتكاليفها، ونظم حياتها، وأحكام شريعتها فيما بينها، وشريعتها مع غيرها من الأمم حولها.

ويتضمن هذا الدرس بيانا عن الأهلة -جمع هلال- كما يتضمن تصحيحا لعادة جاهلية وهي إتيان البيوت من ظهورها بدلا من أبوابها في مناسبات معينة، ثم بيانا عن أحكام القتال عامة، وأحكام القتال في الأشهر الحرم، وعند المسجد الحرام خاصة. وفي النهاية بيانا لشعائر الحج والعمرة كما أقرها الإسلام وهذبها، وعدل فيها كل ما يمت إلى التصورات الجاهلية.

وهكذا نرى هنا -كما رأينا في الدرس السابق- أحكاما تتعلق بالتصور والاعتقاد، وأحكاما تتعلق بالشعائر التعبدية، وأحكاما تتعلق بالقتال.. كلها تتجمع في نطاق واحد، وكلها يعقب عليها تعقيبات تذكر بالله وتقواه. في موضوع إتيان البيوت من ظهورها يجيء تعقيب يصحح معنى البر، وأنه ليس في الحركة الظاهرة إنما هو في التقوى: {وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى، وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله لعلكم تفلحون}..

وفي القتال بصفة عامة يوجههم إلى عدم الاعتداء، ويربط هذا بحب الله وكرهه. {إن الله لا يحب المعتدين).. وفي القتال في الشهر الحرام يعقب بتقوى الله: (واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين).. وفي الإنفاق يعقب بحب الله للمحسنين: (وأحسنوا إن الله يحب المحسنين}..

وفي التعقيب على بعض شعائر الحج يقول: {واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب} وفي التعقيب الآخر على بيان مواقيت الحج والنهي عن الرفث فيه والفسوق والجدال يقول: {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب}.. وحتى في توجيه الناس لذكر الله بعد الحج يجيء التعقيب: {واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون)}..

وهكذا نجد هذه الأمور المتعددة مرتبطة ارتباطا وثيقا، ناشئا من طبيعة هذا الدين، الذي لا تنفصل فيه الشعائر التعبدية، عن المشاعر القلبية، عن التشريعات التنظيمية، ولا يستقيم إلا بأن يشمل أمور الدنيا وأمور الآخرة، وشؤون القلب وشؤون العلاقات الاجتماعية والدولية، وإلا أن يشرف على الحياة كلها، فيصرفها وفق تصور واحد متكامل، ومنهج واحد متناسق، ونظام واحد شامل، وأداة واحدة هي هذا النظام الخاص الذي يقوم على شريعة الله في كافة الشؤون. دلالات من سؤال الصحابة للرسول عن شؤون حياتهم.

وهناك ظاهرة في هذه السورة تطالعنا منذ هذا القطاع. تطالعنا في صورة مواقف يسأل فيها المسلمون نبيهم [ص] عن شؤون شتى، هي الشؤون التي تصادفهم في حياتهم الجديدة، ويريدون أن يعرفوا كيف يسلكون فيها وفق تصورهم الجديد، ووفق نظامهم الجديد. وعن الظواهر التي تلفت حسهم الذي استيقظ تجاه الكون الذي يعيشون فيه.. فهم يسألون عن الأهلة.. ما شأنها؟ ما بال القمر يبدو هلالا، ثم يكبر حتى يستدير بدرا، ثم يأخذ في التناقص حتى يرتد هلالا، ثم يختفي ليظهر هلالا من جديد؟ ويسألون ماذا ينفقون؟ من أي نوع من مالهم ينفقون؟ وأي قدر وأية نسبة مما يملكون؟ ويسألون عن القتال في الشهر الحرام وعند المسجد الحرام. هل يجوز؟ ويسألون عن الخمر والميسر ما حكمهما؟ وقد كانوا أهل خمر في الجاهلية وأهل ميسر! ويسألون عن المحيض؟ وعلاقتهم بنسائهم في فترته. ثم يسألون عن أشياء في أخص علاقاتهم بأزواجهم، وأحيانا تسأل فيها الزوجات أنفسهن. وقد وردت أسئلة أخرى في موضوعات متنوعة في سور أخرى من القرآن أيضا..

وهذه الأسئلة ذات دلالات شتى:

فهي أولا دليل على تفتح وحيوية ونمو في صور الحياة وعلاقاتها، وبروز أوضاع جديدة في المجتمع الذي جعل يأخذ شخصيته الخاصة، ويتعلق به الأفراد تعلقا وثيقا؛ فلم يعودوا أولئك الأفراد المبعثرين، ولا تلك القبائل المتناثرة. إنما عادوا أمة لها كيان، ولها نظام، ولها وضع يشد الجميع إليه؛ ويهم كل فرد فيه أن يعرف خطوطه وارتباطاته.. وهي حالة جديدة أنشأها الإسلام بتصوره ونظامه وقيادته على السواء.. حالة نمو اجتماعي وفكري وشعوري وإنساني بوجه عام.

وهي ثانيا دليل على يقظة الحس الديني، وتغلغل العقيدة الجديدة وسيطرتها على النفوس، مما يجعل كل أحد يتحرج أن يأتي أمرا في حياته اليومية قبل أن يستوثق من رأي العقيدة الجديدة فيه، فلم تعد لهم مقررات سابقة في الحياة يرجعون إليها، وقد انخلعت قلوبهم من كل مألوفاتهم في الجاهلية، وفقدوا ثقتهم بها؛ ووقفوا ينتظرون التعليمات الجديدة في كل أمر من أمور الحياة..

وهذه الحالة الشعورية هي الحالة التي ينشئها الإيمان الحق. عندئذ تتجرد النفس من كل مقرراتها السابقة وكل مألوفاتها، وتقف موقف الحذر من كل ما كانت تأتيه في جاهليتها، وتقوم على قدم الاستعداد لتلقي كل توجيه من العقيدة الجديدة، لتصوغ حياتها الجديدة على أساسها، مبرأة من كل شائبة. فإذا تلقت من العقيدة الجديدة توجيها يقر بعض جزئيات من مألوفها القديم تلقته جديدا مرتبطا بالتصور الجديد. إذ ليس من الحتم أن يبطل النظام الجديد كل جزئية في النظام القديم؛ ولكن من المهم أن ترتبط هذه الجزئيات بأصل التصور الجديد، فتصبح جزءا منه، داخلا في كيانه، متناسقا مع بقية أجزائه.. كما صنع الإسلام بشعائر الحج التي استبقاها. فقد أصبحت تنبثق من التصور الإسلامي، وتقوم على قواعده، وأنبتت علاقتها بالتصورات الجاهلية نهائيا.

والدلالة الثالثة تؤخذ من تاريخ هذه الفترة؛ وقيام اليهود في المدينة والمشركين في مكة بين الحين والحين بمحاولة التشكيك في قيمة النظم الإسلامية، وانتهاز كل فرصة للقيام بحملة مضللة على بعض التصرفات والأحداث -كما وقع في سرية عبد الله بن جحش وما قيل من اشتباكها في قتال مع المشركين في الأشهر الحرم- مما كان يستدعي بروز بعض الاستفهامات والإجابة عليها، بما يقطع الطريق على تلك المحاولات؛ ويسكب الطمأنينة واليقين في قلوب المسلمين..

ومعنى هذه الدلالة أن القرآن كان دائما في المعركة. سواء تلك المعركة الناشئة في القلوب بين تصورات الجاهلية وتصورات الإسلام؛ والمعركة الناشئة في الجو الخارجي بين الجماعة المسلمة وأعدائها الذين يتربصون بها من كل جانب. هذه المعركة كتلك ما تزال قائمة. فالنفس البشرية هي النفس البشرية؛ وأعداء الأمة المسلمة هم أعداؤها.. والقرآن حاضر.. ولا نجاة للنفس البشرية ولا للأمة المسلمة إلا بإدخال هذا القرآن في المعركة، ليخوضها حية كاملة كما خاضها أول مرة..

وما لم يستيقن المسلمون من هذه الحقيقة فلا فلاح لهم ولا نجاح! وأقل ما تنشئه هذه الحقيقة في النفس.. أن تقبل على هذا القرآن بهذا الفهم وهذا الإدراك وهذا التصور. أن تواجهه وهو يتحرك ويعمل وينشىء التصور الجديد، ويقاوم تصورات الجاهلية، ويدفع عن هذه الأمة، ويقيها العثرات. لا كما يواجهه الناس اليوم نغمات حلوة ترتل، وكلاما جميلا يتلى، وينتهي أمر.. إنه لأمر غير هذا نزل الله القرآن.. لقد نزله لينشىء حياة كاملة، ويحركها، ويقودها إلى شاطىء الأمان بين الأشواك والعثرات، ومشقات الطريق؛ التي تتناثر فيها الشهوات كما تتناثر فيها العقبات. والله المستعان..

وسواء [أكانت] هذه عادتهم في السفر بصفة عامة، [أم] في الحج بصفة خاصة وهو الأظهر في السياق، فقد كانوا يعتقدون أن هذا هو البر -أي الخير أو الإيمان- فجاء القرآن ليبطل هذا التصور الباطل، وهذا العمل المتكلف الذي لا يستند إلى أصل، ولا يؤدي إلى شيء. وجاء يصحح التصور الإيماني للبر.. فالبر هو التقوى. هو الشعور بالله ورقابته في السر والعلن. وليس شكلية من الشكليات التي لا ترمز إلى شيء من حقيقة الإيمان. ولا تعني أكثر من عادة جاهلية.

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

وهذا أسلوب جديد من أساليب القرآن في التربية، وهو أسلوب إثارة السؤال من خلال ما يقدّمه الآخرون من القضايا التي تدور في تفكيرهم، فيحاولون معرفتها بهذه الطريقة، وقد أراد اللّه للنبيّ (ص) أن يهتم بكلّ الأسئلة التي تطرح عليه، لأنَّ من حقّ النّاس عليه أن يبتدئهم بالمعرفة إذا لم يسألوه، وأن يجيبهم إذا توجهوا إليه بالسؤال، لأنَّ اللّه قد أرسله من أجل أن يزكيهم، ويعلّمهم الكتاب والحكمة، ويفتح لهم أبواب المعرفة على أوسع مدى وأرحب مجال. وقد يكون هذا التأكيد على الأسئلة التي كانت توجّه إلى النبيّ محمَّد (ص) من المسلمين، والأجوبة التي كان يقدّمها إليهم، ونقل ذلك في القرآن، إيحاءً بأنَّ الإسلام ينفتح على كلّ علامات الاستفهام التي تدور في أذهان النّاس في القضايا التي تشغل تفكيرهم في حياتهم الخاصة والعامة، فمن حقّ النّاس أن يطلقوا كلّ الأسئلة أمام القيادة الإسلامية، حتى إذا كانت في مستوى النبوة المتمثّلة بالنبيّ محمَّد (ص)، لأنَّ ذلك هو الذي يحرّك الإنسان في خطوات المعرفة...

أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير للجزائري 1439 هـ :

من الهداية:

- أن يسأل المرء عما ينفعه، ويترك السؤال عما لا يعنيه.