فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{۞يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَهِلَّةِۖ قُلۡ هِيَ مَوَٰقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلۡحَجِّۗ وَلَيۡسَ ٱلۡبِرُّ بِأَن تَأۡتُواْ ٱلۡبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنِ ٱتَّقَىٰۗ وَأۡتُواْ ٱلۡبُيُوتَ مِنۡ أَبۡوَٰبِهَاۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (189)

قوله : { يَسْأَلُونَكَ } سيأتي بيان من هم السائلون له صلى الله عليه وسلم ، و { الأهلة } جمع هلال ، وجمعها باعتبار هلال كل شهر أو كل ليلة ، تنزيلاً لاختلاف الأوقات منزلة اختلاف الذوات ، والهلال : اسم لما يبدو في أوّل الشهر ، وفي آخره . قال الأصمعي : هو هلال حتى يستدير ، وقيل : هو : هلال حتى ينير بضوئه السماء ، وذلك ليلة السابع . وإنما قيل له : هلال ؛ لأن الناس يرفعون أصواتهم بالإخبار عنه عند رؤيته ، ومنه استهلّ الصبي : إذا صاح ، واستهلّ وجهه ، وتهلل إذا ظهر فيه السرور .

قوله : { قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج } فيه بيان وجه الحكمة في زيادة الهلال ، ونقصانه ، وأن ذلك لأجل بيان المواقيت التي يوقت الناس عباداتهم ، ومعاملاتهم بها كالصوم ، والفطر ، والحج ، ومدّة الحمل ، والعدّة ، والإجارات ، والأيمان ، وغير ذلك ، ومثله قوله تعالى : { لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السنين والحساب } [ يونس : 5 ] والمواقيت جمع الميقات ، وهو الوقت . وقراءة الجمهور : { والحج } بفتح الحاء . وقرأ ابن أبي إسحاق بكسرها في جميع القرآن . قال سيبويه : الحج بالفتح كالردّ والشدّ ، وبالكسر كالذكر مصدران بمعنى ، وقيل : بالفتح مصدر ، وبالكسر الاسم . وإنما أفرد سبحانه الحج بالذكر ؛ لأنه مما يحتاج فيه إلى معرفة الوقت ، ولا يجوز فيه النسيء ، عن وقته ، ولعظم المشقة على من التبس عليه وقت مناسكه ، أو أخطأ وقتها ، أو وقت بعضها . وقد جعل بعض علماء المعاني هذا الجواب ، أعني قوله : { قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ } من الأسلوب الحكيم ، وهو : تلقي المخاطب بغير ما يترقب ، تنبيهاً على أنه الأولى بالقصد ، ووجه ذلك أنهم سألوا عن أجرام الأهلة باعتبار زيادتها ، ونقصانها ، فأجيبوا بالحكمة التي كانت تلك الزيادة ، والنقصان لأجلها لكون ذلك أولى بأن يقصد السائل وأحق بأن يتطلع لعلمه .

قوله : { وَلَيْسَ البر بِأَن تَاتُوا البيوت مِن ظُهُورِهَا } وجه اتصال هذا بالسؤال عن الأهلة ، والجواب بأنها مواقيت للناس ، والحج أن الأنصار كانوا إذا حجوا لا يدخلون من أبواب بيوتهم إذا رجع أحدهم إلى بيته بعد إحرامه قبل تمام حجه ؛ لأنهم يعتقدون أن المحرم لا يجوز أن يحول بينه ، وبين السماء حائل ، وكانوا يتسنمون ظهور بيوتهم . وقال أبو عبيدة : إن هذا من ضرب المثل ، والمعنى : ليس البرّ أن تسألوا الجهال ، ولكن البرّ التقوى ، واسألوا العلماء كما تقول : أتيت هذا الأمر من بابه . وقيل : هو مثل في جماع النساء ، وأنهم أمروا بإتيانهنّ في القبل لا في الدبر . وقيل : غير ذلك . والبيوت جمع بيت ، وقرئ بضم الباء ، وكسرها . وقد تقدّم تفسير التقوى والفلاح ، وسبق أيضاً أن التقدير في مثل قوله : { ولكن البر مَنِ اتقى } ولكن البرّ برّ من اتقى .

وقد أخرج ابن عساكر بسند ضعيف ، عن ابن عباس في قوله تعالى : { يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأهلة } قال : نزلت في معاذ بن جبل ، وثعلبة بن عثمة .

وهما رجلان من الأنصار قالا : يا رسول الله ما بال الهلال يبدو ، ويطلع دقيقاً مثل الخيط ، ثم يزيد حتى يعظم ، ويستوي ، ثم لا يزال ينقص ، ويدقّ حتى يعود كما كان لا يكون على حال واحد ؟ فنزلت : { يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأهلة قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ } في حلّ دَيْنهم ، ولصومهم ولفطرهم ، وعدد نسائهم ، والشروط التي إلى أجل . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن قتادة قال : سألوا النبي صلى الله عليه وسلم ، عن الأهلة لم جُعِلت ؟ فأنزل الله : { يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأهلة } الآية ، فجعلها لصوم المسلمين ، ولإفطارهم ، ولمناسكهم ، وحجهم ، وعدد نسائهم ، ومَحلِّ دينهم . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن أبي العالية نحوه .

وأخرج ابن جرير ، عن الربيع بن أنس نحوه . وقد روى ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس نحوه . وأخرج الحاكم وصححه ، والبيهقي في سننه ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «جعل الله الأهلة مواقيت للناس ، فصوموا لرؤيته ، وأفطروا لرؤيته ، فإن غُمَّ عليكم ، فعدّوا ثلاثين يوماً » وأخرج أحمد ، والطبراني ، وابن عدي ، والدارقطني بسند ضعيف ، عن طَلْق بن عليّ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر نحو حديث ابن عمر . وأخرج البخاري ، وغيره ، عن البراء قال : كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيوت من ظهورها فنزلت : { وَلَيْسَ البر } الآية . وأخرج ابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، عن جابر قال : كانت قريش تدعي الحُمْس ، وكانوا يدخلون من الأبواب في الإحرام ، وكانت الأنصار ، وسائر العرب لا يدخلون من باب في الإحرام ، فبينا رسول الله في بستان إذ خرج من بابه ، وخرج معه قطبة بن عامر الأنصاري ، فقالوا : يا رسول الله إن قطبة بن عامر رجل فاجر ، وإنه خرج معك من الباب ، فقال له : «ما حملك على ما صنعت ؟ » قال : رأيتك فعلته ففعلت كما فعلت ، فقال : إني رجل أحمسي ، قال : فإن ديني دينك ، فأنزل الله الآية . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس نحوه . وقد ورد هذا المعنى عن جماعة من الصحابة ، والتابعين .