البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{۞يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَهِلَّةِۖ قُلۡ هِيَ مَوَٰقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلۡحَجِّۗ وَلَيۡسَ ٱلۡبِرُّ بِأَن تَأۡتُواْ ٱلۡبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنِ ٱتَّقَىٰۗ وَأۡتُواْ ٱلۡبُيُوتَ مِنۡ أَبۡوَٰبِهَاۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (189)

{ الأهلة } : جمع هلال ، وهو مقيس في فعال المضعف ، نحو : عنان وأعنة ، وشذ فيه فعل قالوا : عنن في : عنان ، وحجج في حجاج .

والهلال ، ذكر صاحب ( كتاب شجر الدر ) في اللغة : أنه مشترك بين هلال السماء وحديدة كالهلال بيد الصائد يعرقب بها الحمار الوحشي ، وذؤابة النعل ، وقطعة من الغبار ، وما أطاق من اللحم بظفر الأصبع ، وقطعة من رحى ، وسلخ الحية ، ومقاولة الأجير على الشهور ، والمباراة في رقة النسج ، والمباراة في التهليل .

وجمع هلة وهي المفرجة ، والثعبان ، وبقية الماء في الحوض .

انتهى ما ذكره ملخصاً .

ويسمى الذي في السماء هلالاً لليلتين ، وقيل : لثلاث .

وقال أبو الهيثم : لليلتين من أوله وليلتين من آخره .

وما بين ذلك يسمى قمراً .

وقال الأصمعي : يسمي هلال إلى أن يحجر ، وتحجيره أن يستدير له كالخيط الرقيق ، وقيل : يسمى بذلك إلى أن يبهر ضوءه سواد الليل ، وذلك إنما يكون في سبع .

قالوا : وسمي هلالاً لارتفاع الأصوات عند رؤيته من قولهم : استهل الصبي ، والإهلال بالحج ، وهو رفع الصوت بالتلبية ، أو من رفع الصوت بالتهليل عند رؤيته .

وقد يطلق الهلال على الشهر كما يطلق الشهر على الهلال ، ويقال : أهل الهلال ، واستهل وأهللنا واستهللناه ، هذا قول عامة أهل اللغة .

وقال شمر : يقال استهل الهلال أيضاً يعني مبنياً للفاعل وهو الهلال ، وشهر مستهل وأنشد :

وشهر مستهل بعد شهر***

وحول بعده حول جديد

ويقال أيضاً : استهل : بمعنى تبين ، ولا يقال أهل ، ويقال أهللنا عن ليلة كذا ، وقال أبو نصر عبد الرحيم القشيري في تفسيره : يقال أهل الهلال واستهل ، وأهللنا الهلال واستهللناه ، انتهى .

وقد تقدّم لنا الكلام في مادة هلل ، ولكن أعدنا ذلك بخصوصية لفظ الهلال بالأشياء التي ذكرناها هنا .

{ مواقيت } : جمع ميقات بمعنى الوقت كالميعاد بمعنى الوعد ، وقال بعضهم : الميقات منتهى الوقت ، قال تعالى : { فتم ميقات ربه أربعين ليلة }

{ يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج } نزلت على سؤال قوم من المسلمين النبي صلى الله عليه وسلم عن الهلال ، وما فائدة محاقه وكماله ومخالفته لحال الشمس ، قاله ابن عباس ، وقتادة ، والربيع ، وغيرهم .

وروي أن من سأل هو معاذ بن جبل ، وثعلبة بن غنم الأنصاري ، قالا : يا رسول الله .

ما بال الهلال يبدو دقيقاً مثل الخيط ثم يزيد حتى يمتلئ ، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدأ لا يكون على حالة واحدة ؟ فنزلت .

ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة ، وهو أن ما قبلها من الآيات نزلت في الصيام ، وأن صيام رمضان مقرون برؤية الهلال ، وكذلك الإفطار في شهر شوال ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : « صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته »

وكان أيضاً قد تقدّم كلام في شيء من أعمال الحج ، وهو : الطواف ، والحج أحد الأركان التي بني الإسلام عليها .

وكان قد مضى الكلام في توحيد الله تعالى ، وفي الصلاة ، والزكاة ، والصيام ، فأتى بالكلام على الركن الخامس وهو : الحج ، ليكون قد كملت الأركان التي بني الإسلام عليها .

وروي عن ابن عباس أنه قال : ما كان أمة أقل سؤالاً من أمة محمد صلى الله عليه وسلم سألوا عن أربعة عشر حرفاً فأجيبوا منها في سورة البقرة أولها { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب } والثاني : هذا ، وستة بعدها ، وفي غيرها : { يسألونك ماذا أحل لهم } { يسألونك عن الأنفال } { ويسألونك عن الروح } { ويسألونك عن ذي القرنين } { ويسألونك عن الجبال } { ويسألونك عن الساعة } قيل : اثنان من هذه الأسئلة في الأول في شرح في شرح المبدأ ، واثنان في الآخر في شرح المعاد ، ونظيره أنه افتتحت سورتان ب { يا أيها الناس } الأولى وهي الرابعة من السور في النصف الأول ، تشتمل على شرح المبدأ ، والثانية وهي الرابعة أيضاً من السور في النصف الآخر تشتمل على شرح المعاد .

والضمير في يسألونك ضمير جمع على أن السائلين جماعة ، وإن كان من سأل اثنين ، كما روي ، فيحتمل أن يكون من نسبة الشيء إلى جمع وإن كان ما صدر إلاَّ من واحد منهم أو اثنين ، وهذا كثير في كلامهم ، قيل : أو لكون الإثنين جمعاً على سبيل الاتساع والمجاز .

والكاف : خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، و : يسألونك ، خبر ، فإن كانت الآية نزلت قبل السؤال كان ذلك من الاخبار بالمغيب : وإن كانت نزلت بعد السؤال ، وهو المنقول في أسباب النزول ، فيكون ذلك حكاية عن حال مضت .

و : عن ، متعلقة بقوله : يسألونك ، يقال : سأل به وعنه ، بمعنى واحد ، ولا يراد بذلك السؤال عن ذات الأهلة ، بل عن حكمة اختلاف أحوالها ، وفائدة ذلك ، ولذلك أجاب بقوله : { قل هي مواقيت للناس } فلو كانت على حالة واحدة ما حصل التوقيت بها .

والهلال هو مفرد وجمع باختلاف أزمانه ، قالوا : من حيث كونه هلالاً في شهر ، غير كونه هلالاً في آخر .

وقرأ الجمهور : عن الأهلة ، بكسر النون وإسكان لام الأهلة بعدها همزة ، وورش على أصله من نقل حركة الهمزة وحذف الهمزة ، وقرأ شاذاً بادغام نون : عن في لام الأهلة بعد النقل والحذف .

{ قل هي } أي : الأهلة { مواقيت للناس } هذه : الحكمة في زيادة القمر ونقصانه إذ هي كونها مواقيت في الآجال ، والمعاملات ، والإيمان ، والعدد ، والصوم ، والفطر ، ومدة الحمل والرضاع ، والنذور المعلقة بالأوقات ، وفضائل الصوم في الأيام التي لا تعرف إلاَّ بالأهلة .

وقد ذكر تعالى هذا المعنى في قوله : { وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب } وفي قوله : { فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلاً من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب }

وقال الراغب : الوقت الزمان المفروض للعمل ، ومعنى : مواقيت للناس أي ما يتعلق بهم من أمور معاملاتهم ومصالحهم .

انتهى .

وقال الرماني : الوقت مقدار من الزمان محدّد في ذاته ، والتوقيت تقدير حدّه ، وكلما قدّرت له غاية فهو موقت ، والميقات منتهى الوقت ، والآخرة منتهى الخلق ، والإهلال ميقات الشهر ، ومواضع الإحرام مواقيت الحج ، لأنها مقادير ينتهي إليها ، والميقات مقدار جعل علماً لما يقدّر من العمل .

انتهى كلامه .

وفي تغيير الهلال بالنقص والنماء ردّ على الفلاسفة في قولهم : إن الاحرام الفلكية لا يمكن تطرق التغيير إلى أحوالها ، فأظهر تعالى الاختلاف في القمر ولم يظهره في الشمس ليعلم أن ذلك بقدرة منه تعالى .

والحج : معطوف على قوله : للناس ، قالوا : التقدير ومواقيت للحج ، فحذف الثاني اكتفاءً بالأوّل ، والمعنى : لتعرفوا بها أشهر الحج ومواقيته .

ولما كان الحج من أعظم ما يطلب ميقاته وأشهره بالأهلة ، أفرد بالذكر ، وكأنه تخصيص بعد تعمم ، إذ قوله : مواقيت للناس ، ليس المعنى مواقيت لذوات الناس ، وإنما المعنى : مواقيت لمقاصد الناس المحتاج فيها للتأقيت ديناً ودنيا .

فجاء قوله : والحج ، بعد ذلك تخصيصاً بعد تعميم .

ففي الحقيقة ليس معطوفاً على الناس ، بل على المضاف المحذوف الذي ناب الناس منابه في الإعراب .

ولما كانت تلك المقاصد يفضي تعدادها إلى الإطناب ، اقتصر على قوله : مواقيت للناس .

وقال القفال : إفراد الحج بالذكر لبيان أن الحج مقصور على الأشهر التي عينها الله تعالى لفرض الحج ، وأنه لا يجوز نقل الحج عن تلك الأشهر لأشهر أخر ، إنما كانت العرب تفعل ذلك في النسيء .

انتهى كلامه .

وقرأ الجمهور : والحج ، بفتح الحاء .

وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق : والحِج بكسرها في جميع القرآن في قوله : { حِج البيت } فقيل بالفتح المصدر وبالكسر الاسم .

وقال سيبويه : الحَج ، كالردّ والسدّ ، والحِج ، كالذِكر ، فهما مصدران .

والظاهر من قوله : مواقيت للناس والحِج ، ما ذهب إليه أبو حنيفة ، ومالك من جواز الإحرام بالحج في جميع السنة لعموم الأهلة ، خلافاً لمن قال : لا يصح إلاَّ في أشهر الحج .

قيل : وفيها دليل على أن من وجب عليها عدتان من رجل واحد اكتفت بمضي عدة واحدة للعدتين ، ولا تستأنف لكل واحدة منهما حيضاً ، ولا شهوراً ، لعموم قوله : مواقيت للناس .

ودليل على أن العدة إذا كان ابتداؤها بالهلال ، وكانت بالشهور ، وجب استيفاؤها بالأهلة لا بعدد الأيام ، ودليل على أن من آلى من امرأته من أول الشهر إلى أن مضى الأربعة الأشهر معتبر في اتباع الطلاق بالأهلة دون اعتبار الثلاثين ، وكذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم حين آلى من نسائه شهراً ، وكذلك الإجارات ، والأيمان ، والديون ، متى كان ابتداؤها بالهلال كان جميعها كذلك ، وسقط اعتبار العدد ، وبذلك حكم النبي صلى الله عليه وسلم في الصوم ، وفيها ردّ على أهل الظاهر .

ومن قال بقولهم : إن المساقات تجوز على الأجل المجهول سنين غير معلومة ، ودليل على من أجاز البيع إلى الحصاد أو الدراس أو للغطاس وشبهه وهو : مالك ، وأبو ثور ، وأحمد ؛ وكذلك إلى قدوم الغزاة وروي عن ابن عباس منعه ، وبه قال الشافعي ، ودليل على عدم اعتبار وصف الهلال بالكبر أو الصغر لأنه يقال : ما فصل ، فسواء رئي كبيراً أو صغيراً ، فإنه لليلة التي رئي فيها .

{ وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى } .

قال البراء بن عازب ، والزهري ، وقتادة ، سبب نزولها أن الأنصار كانوا إذا حجوا واعتمروا يلتزمون شرعاً أن لا يحول بينهم وبين السماء حائل ، فكانوا يتسنمون ظهور بيوتهم على الجدران ، وقيل : كانوا في الجاهلية وفي بدء الإسلام إذا أحرم أحدهم بحج أو عمرة لم يأت حائطاً ، ولا بيتاً ، ولا داراً من بابه ، فإن كان من أهل المدينة نقب في ظهر بيته نقباً بدخل منه ويخرج ، أو ينصب سلماً ، يصعد منه ، وإن كان من أهل الوبر خرج من خلف الخيمة والفسطاط ، ولا يدخل ولا يخرج من الباب حتى يحل إحرامه ، ويرون ذلك براً إلاَّ أن يكون ذلك من الحمس ، وهم : قريش ، وكنانة ، وخزاعة ، وثقيف ، وخثعم ، وبنو عامر بن صعصعة ، وبنو نصر بن معاوية .

فدخل النبي صلى الله عليه وسلم ومعه رجل منهم ، فوقف ذلك الرجل وقال : إني أحمس ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «وأنا أحمس » .

فنزلت .

ذكر هذا مختصراً السدي .

وروى الربيع " أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل وخلفه رجل من الأنصار ، فدخل وخرق عادة قومه ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : «لم دخلت وأنت قد أحرمت » ؟ قال : دخلت أنت فدخلت بدخولك .

فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : «إني أحمس ، إني من قوم لا يدينون بذلك » .

فقال الرجل : وأنا ديني دينك " فنزلت .

وقال إبراهيم : كان يفعل ما ذكر قوم من أهل الحجاز ، وقيل : كان الخارج لحاجة لا يعود من بابه مخافة التطير بالخيبة ، ويبقى كذلك حولاً كاملاً .

وملخص هذه الأسباب أن الله تعالى أنزل هذه الآية راداً على من جعل إتيان البيوت من ظهورها براً ، آمراً بإتيان البيوت من أبوابها ، وهذه أسباب تضافرت على أن البيوت أريد بها الحقيقة ، وأن الإتيان هو المجيء إليها ، والحمل على الحقيقة أولى من ادعاء المجاز مع مخالفة ما تضافرت من هذه الآسباب .

ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما ذكر أن الأهلة مواقيت للحج استطرد إلى ذكر شيء كانوا يفعلونه في الحج زاعمين أنه من البر ، فبين لهم أن ذلك ليس من البر ، وإنما جرت العادة به قبل الحج أن يفعلوه ، في الحج ، ولما ذكر سؤالهم عن الأهلة بسبب النقصان والزيادة ، وما حكمة ذلك ، وكان من المعلوم أنه تعالى حكيم ، فأفعاله جارية على الحكمة ، ردّ عليهم بأن ما يفعلونه من إتيان البيوت من ظهورها ، إذا أحرموا ، ليس من الحكمة في شيء ، ولا من البر ، ولما وقعت القصتان في وقت واحد نزلت الآية فيهما معاً ، ووصل إحداهما بالأخرى .

وأما حمل الإتيان والبيوت على المجاز ففيه أقوال .

أحدهما : أن ذلك ضرب ، مثل : المعنى ليس البر أن تسألوا الجهال ، ولكن اتقوا واسألوا العلماء .

فهذا كما يقال : أتيت الأمر من بابه ، قاله أبو عبيدة .

الثاني : أنه ذكر إتيان البيوت من أبوابها مثلاً لمخالفة الواجب في الحج ، وذلك ما كانوا يعملونه في النسيء ، فانهم كانوا يخرجون الحج عن وقته الذي عينه الله تعالى ، فيحرمون الحلال ويحلون الحرام ، فضرب مثلاً للمخالفة ، وقيل : واتقوا الله تحت إتيان كل واجب في اجتناب كل محرم .

قاله أبو مسلم .

الثالث : أن أتيان البيوت من ظهورها كناية عن العدول عن الطريق الصحيح ، وإتيانها كناية عن التمسك بالطريق الصحيح ، وذلك أن الطريق المستقيم أن يستدل بالمعلوم على المظنون ، وقد ثبت أن الصانع حكيم لا يفعل إلاَّ الصواب ، وقد عرفنا أن اختلاف أحوال القمر في نوره من فعله ، فيعلم أن فيه مصلحة وحكمة ، فهذا استدلال بالمعلوم على المجهول .

أما أن نستدل بعدم علمنا بما فيه من الحكمة على أن فاعله ليس بحكيم فهذا استدلال بالمجهول على المعلوم ، فالمعنى : أنكم لما لم تعلموا حكمته في اختلاف القمر ، صرتم شاكين في حكمة الخالق ، فقد أتيتم ما تظنونه براً ، إنما البرّ أن تأتوا البيوت من أبوابها فتستدلوا بالمعلوم ، وهو حكمة الخالق على المجهول ، فتقطعوا أن فيه حكمة بالغة ، وإن كنتم لا تعلمون ، قاله في ( ريّ الظمآن ) وهو قول ملفق من كلام الزمخشري .

قال الزمخشري : ويحتمل أن يكون هذا تمثيلاً لتعكيسهم في سؤالهم ، وأن مثلهم فيه كمثل من يترك باب البيت ويدخله من ظهره ، والمعنى : ليس البرّ ، وما ينبغي أن يكونوا عليه ، بأن تعكسوا في مسائلكم ، ولكن البر بر من اتقى ذلك وتجنبه ، ولم يجسر على مثله .

ثم قال : { وأتوا البيوت من أبوابها } أي : وباشروا الأمور من وجوهها التي يجب أن يباشر عليها ، ولا تعكسوا ، والمراد وجوب توطيء النفوس وربط القلوب على أن جميع أفعال الله حكمة وصواب من غير اختلاج شبهة ، ولا اعتراض شك في ذلك ، حتى لا يسأل عنه لما في السؤال من الاتهام بمفارقة الشك { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون } انتهى كلامه .

وحكى هذا القول مختصراً ابن عطية ، فقال : وقال غير أبي عبيدة : ليس البرّ أن تشذوا في الأسئلة عن الأهلة وغيرها ، فتأتون الأمور على غير ما تحب الشرائع ، أنه كنى بالبيوت عن النساء ، الإيواء اليهنّ كالإيواء إلى البيوت ، ومعناه : لا تأتوا النساء من حيث لا يحل من ظهورهنّ ، وآتوهنّ من حيث يحل من قَبُلهنّ .

قاله ابن زيد ، وحكاه مكي ، والمهدوي عن ابن الأنباري .

وقال ابن عطية : كونه في جماع النساء بعيد مغير نمط الكلام ، انتهى .

والباء في : بان تأتوا زائدة في خبر ليس ، وبأن تأتوا ، خبر ليس ، ويتقدّر بمصدر ، وهو من الإخبار بالمعنى عن المعنى ، وبالأعرف عما دونه في التعريف ، لأن : أن وصلتها ، عندهم بمنزلة الضمير .

وقرأ ابن كثير ، وابن عامر ، والكسائي ، وقالون ، وعباس ، عن أبي عمرو ؛ والعجلي عن حمزة ؛ والشموني عن الأعشى ، عن أبي بكر : البيوتِ ، بالكسر حيث وقع ذلك لمناسبة الياء ، والأصل هو الضم لأنه على وزن فعول ، وبه قرأ باقي السبعة و : مِنْ ، متعلقة : بتأتوا ، وهي لابتداء الغاية ، والضمير في : أبوابها ، عائد على البيوت .

وعاد كضمير المؤنث الواحدة ، لأن البيوت جمع كثرة ، وجمع المؤنث الذي لا يعقل فرق فيه بين قليله وكثيره ، فالأفصح في قليله أن يجمع الضمير ، والأفصح في كثيره أن يفرد .

كهو في ضمير المؤنث الواحدة ، ويجوز العكس .

وأما جمع المؤنث الذي يعقل فلم تفرق العرب بين قليله وكثيره ، والأفصح أن يجمع الضمير .

ولذلك جاء في القرآن : { هنّ لباسٌ لكم وأنتم لباسٌ لهنّ } ونحوه ، ويجوز أن يعود كما يعود على المؤنث الواحد وهو فصيح .

{ ولكنّ البرّ من اتقى } التأويلات التي في قوله : { ولكنّ البرّ من آمن } سائغة هنا ، من أنه أطلق البر ، وهو المصدر ، على من وقع منه على سبيل المبالغة ، أو فيه حذف من الأوّل ، أي : ذا البرّ ، ومن الثاني أي : بر من آمن .

وتقدّم الترجيح في ذلك .

وهذه الآية كأنها مختصرة من تلك لأن هناك عدّ أوصافاً كثيرة من الإيمان بالله إلى سائر تلك الأوصاف ، وقال في آخرها : { أولئك هم المتقون } وقال هنا : { ولكنّ البرّ من اتقى } والتقوى لا تحصل إلاَّ بحصول تلك الأوصاف ، فأحال هنا على تلك الأوصاف ضمناً إذ جاء معها : هو المتقي .

وقرأ نافع ، وابن عامر بتخفيف : ولكنّ ، ورفع : البرّ ، والباقون بالتشديد والنصب .

{ وأتوا البيوت من أبوابها } تفسيرها : يتفرّغ على الأقوال التي تقدّمت في قوله : { وليس البرّ بأن تأتوا البيوت من ظهورها } .

{ واتقوا الله } : أمر باتقاء الله ، وتقدمت جملتان خبريتان وهما { وليس البرّ بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكنّ البرّ من اتقى } فعطف عليهما جملتان أمريتان الأولى راجعة للأولى ، والثانية راجعة للثانية ، وهذا من بديع الكلام .

ولما كان ظاهر قوله : من اتقى ، محذوف المفعول ، نص في قوله : واتقوا الله ، على من يتقي ، فاتضح في الأول أن المعنى من اتقى الله .

{ لعلكم تفلحون } ظاهره التعلق بالجملة الأخيرة ، وهي قوله { واتقوا الله } لأن تقوى الله هو إجماع الخير من امتثال الأوامر ، واجتناب النواهي ، فعلق التقوى برجاء الفلاح ، وهو الظفر بالبغية .

/خ196