التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{۞يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَهِلَّةِۖ قُلۡ هِيَ مَوَٰقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلۡحَجِّۗ وَلَيۡسَ ٱلۡبِرُّ بِأَن تَأۡتُواْ ٱلۡبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنِ ٱتَّقَىٰۗ وَأۡتُواْ ٱلۡبُيُوتَ مِنۡ أَبۡوَٰبِهَاۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (189)

قوله تعالى : ( يسألونك عن الآهلة قل هي مواقيت للناس والحج وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وآتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله لعلكم تفلحون ) ( الأهلة ) مفردها هلال . وهو يطلق على أول ليلة والثانية والثالثة ثم يكون بعد ذلك قمرا . وقيل : يطلق الهلال على الليلتين الأوليين من الشهر وعلى الليلتين الأخريين منه كذلك . وما بين هذين الطرفين يكون قمرا .

وسمي هلالا ؛ لأن الناس يرفعون أصواتهم بالإخبار عنه . واستهل بمعنى تبين . نقول استهل الصبي أي صاح عند الولادة فظهرت حياته . وأهل المعتمر أو الحاج رفع صوته بالتلبية . وتهلل وجه الرجل فرحا أو استهل أي ظهر فيه السرور .

ومنه قوله تعالى : ( وما أهل به لغير الله ) أي نودي عليه بغير اسم الله تعالى وأصله رفع الصوت .

وقد جاء في سبب نزول هذه الآية أن معاذ بن جبل قال للنبي ( ص ) : يا رسول الله ! إن اليهود تغشانا ويكثرون مسألتنا عن الأهلة ، فما بال الهلال يبدو دقيقا ثم يزيد حتى يستوي ويستدير ، ثم يتقص حتى يعود كما كان ؟

وقيل : سبب نزولها أن قوما من المسلمين سألوا النبي ( ص ) عن الهلال وسبب محاقة وكماله ومخالفته للشمس في دوام كمالها واستدارتها وعدم نقصانها .

وقوله : ( قل هي مواقيت للناس والحج ) ذلك جواب عن سؤال السائلين السابق ، فالأهلة أصلها القمر . وقد جعله الله متفاوتا مختلفا وعلى منازل تتراوح بين الصغر والكبر أو بين الدقة والاكتمال أو بين السطوع المتلألئ والذبول الشاحب . كل هذه المراحل المتعددة المتعاقبة للقمر بانتظام قدرها الله لتكون ( مواقيت للناس ) و ( مواقيت ) مفردها ميقات وهو الوقت . فقد جعل الله من تعدد الأهلة بتعدد الهيئة والصورة للقمر ما يمكن الناس من يسر التعامل والعيش ، وذلك بضرب الآجال والمواعيد لتحقيق القضايا والمعاملات وأداء الصوم والحج والالتزام بالعهود والمواثيق والعقود كالإجارات والرهان والمقارضات وسائر أنواع البيوع ، إلى غير ذلك مما تقتضيه مصالح العباد . وهي مصالح وقضايا وشؤون تتحدد على أساس من الزمن ( المواقيت ) ولولا ذلك لتعثرت حياة الناس ومعايشهم فلخالطها اللبس والتنازع والخصام .

ومن تسخير الأهلة الناس كي تكون لهم مواقيت للحج استنبط بعض الفقهاء حكما شرعيا وهو أن الإحرام بالحج في غير أشهر الحج يصح مع الكراهة استنادا إلى هذه الآية . ذلك أن الله جعل الأهلة كلها- على مدار السنة- مواقيت للحج . وقد ذهب إلى ذلك أبو حنيفة ومالك وخالف الشافعي في ذلك محتجا بقوله تعالى : ( الحج أشهر معلومات ) أما أن تكون الصلة كلها مناسبة للإحرام بالحج استنادا إلى ظاهر قوله : ( مواقيت للناس والحج ) فذلك مجانب للصواب وهو مرجوح{[250]} .

وقوله : ( وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ) ( البر ) اسم ليس مرفوع . وهي كلمة جامعة للإحسان والخير . والمصدر من أن تأتوا في محل نصب خبر ليس . والظاهر من السياق للآية أن اتصال السؤال عن الأهلة بإتيان البيوت من ظهورها جاء متفقا فنزلت الآية في القضيتين كليتهما .

وفي سبب نزول هذه الآية ثمة قولان متقاربان : أحدهما : أن الأنصار كانوا إذا جحدوا وعادوا لا يدخلون بيوتهم من أبوابها ، فقد كان من عاداتهم أنهم إذا أهلوا بحجج أو عمرة يلتزمون شرعا ألا يكون حائل بينهم وبين السماء . فكان الحاج فيهم أو المعتمر إذا عاد لبيته لا يدخل من الباب ، كيلا يحول السقف بينه وبين السماء المكشوفة . فكان من أجل ذلك يتسلق الجدران ليتسنم ظهر بيته وهم يرون ذلك ضربا من النسك أو العبادة . فرد الله تصورهم هذا وبين لهم أن البر هو التقوى والتزامهم بما شرع .

ثانيهما : وهو لابن عباس إذ قال : كان الناس في الجاهلية وفي أول الإسلام إذا أحرم رجل منهم بحج ، فإن كان من أهل المدر نقب في ظهر بيته ليدخل منه ويخرج ، أو ينصب سلما ليتمكن من الصعود أو النزول بسببه . وإن كان من أهل الوبر فإنه يدخل إلى الخيمة من خلفها إلا إن كان من الحمس . والحمس جمع مفرده الأحمس وهو من الحماسة بمعنى الشدة ، وسموا بذلك لشدتهم . فهم بذلك حمس أي شداد . ويدخل في الحمس قبائل عربية ذات شهرة ومكانة منها قريش وكنانة وخزاعة وثقيف وآخرون{[251]} .

في ضوء ما تقدم من بيان لسبب النزول وغيره نود التذكير بالجزأين التاليين .

أولهما : أن السؤال عن الأهلة وإتيان البيوت من غير أبوابها كانا بمثابة قضيتين وردتا متفقتين معا . وبعبارة أخرى فإن السؤال عن الأهلة جاء في وقت كان الناس يدخلون بيوتهم من غير أبوابها ، فنزلت الآية في القضيتين معا .

ثانيهما : ما وقف عليه الأستاذ الشهيد سيد قطب-رحمه الله- وهو أن السؤال عن الأهلة يخالطه التكلف والاستعجال ، فما كان السائلون مؤهلين أصلا لمعرفة الحقيقة الطبيعية التي يسبر على أساسها القمر في دورانه حول الأرض ليبدو على أشكال متفاوتة من لأهلة . {[252]}

إن هذا السؤال المتكلف المستعجل من السائلين عن هذه الحقيقة يوحي بالتكلف البطر غير المرغوب ، كشأن الذي يستنكف عن الدخول في البيت من بابه المعلوم ثم يأتيه من خلفه إيثارا للاعوجاج الملتوي ومجانفة عن سواء السبيل .

كذلك الذين يقفزون في غير تبصرة موزونة ولا تفكير متئد سليم ليسألوا عن حقيقة طبيعية لجزء عظيم من أجزاء ها الكون ( القمر ) وذلك من حيث هيئته وتفاوت حجمه على نحو مطرد مقدور .

كان حريا بأولئك السائلين أن يكفوا عن مثل هذا السؤال الذي يعز عليهم إدراكه في زمانهم ، وكان عليهم أن يأخذوا أنفسهم بالتقوى وما يتطلبه ذلك من مقتضيات البر والطاعة ، فإن ذلك أبعد عن التكلف في السؤال وهو بمثابة الإتيان للبيوت من أبوابها لا من ظهورها . والله سبحانه وتعالى أعلم .


[250]:- تفسير القرطبي جـ 2 ص 343 والثمر الداني للقيرواني ص 361 وبداية المجتهد جـ 1 ص 277 وبدائع الصنائع جـ 2 ص 160.
[251]:- أسباب النزول للنيسابوري ص 33.
[252]:- في ظلال القرآن جـ 2 ص 95.