التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{۞يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَهِلَّةِۖ قُلۡ هِيَ مَوَٰقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلۡحَجِّۗ وَلَيۡسَ ٱلۡبِرُّ بِأَن تَأۡتُواْ ٱلۡبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنِ ٱتَّقَىٰۗ وَأۡتُواْ ٱلۡبُيُوتَ مِنۡ أَبۡوَٰبِهَاۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (189)

{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ [ 1 ] قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ { 189 } }

[ 1 ] الأهلة : جمع هلال . ومع ذلك فإن المتبادر أنها تعني حركات القمر وصوره خلال الشهر وتوالي ذلك شهراً بعد شهر .

في الآية :

1- حكاية لسؤال وجّه إلى النبي صلى الله عليه وسلم عن الأهلة .

2- وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالإجابة بأنها تنظيم مواقيت الناس وحساب أيامهم ولأجل معرفة مواقيت الحج أيضا .

3- وتنبيه للسائلين أو السامعين إلى أنه ليس في دخول البيوت من ظهورها برّ حقيقي مقرّب إلى الله ، وإنما البرّ الحقيقي هو تقوى الله والتزام حدوده ، وأمر لهم بدخول البيوت من أبوابها وبتقوى الله ليتمّ لهم الفلاح والسعادة .

والآية فصل جديد آخر ، وعليه سمة تشريعية ، ومن المحتمل أن تكون نزلت بعد سابقتها فوضعت بعدها ، أو أنها وضعت بعدها للمماثلة التشريعية .

وقد روى المفسرون {[301]} أن شطر الآية الأول نزل بمناسبة سؤال عن الحكمة في تبدل حالات القمر وأسرار ذلك ، وأن شطرها الثاني نزل جواباً على سؤال آخر عن الحكم في تقليد من تقاليد الحج القديمة . وذلك أن العرب أو أهل يثرب كانوا حينما ينوون الحج ويحرمون له يحرمون على أنفسهم الاستظلال بسقف ما ، فإذا ما احتاجوا إلى شيء في بيوتهم ، أو أرادوا أن يدخلوا لبيوتهم فلا يدخلونها من الأبواب لئلا يظللهم السقف وإنما يصعدون إلى السطوح وينزلون منها إلى فناء البيت أو يخرقون خرقاً في الجدار .

وهناك حديث رواه البخاري ومسلم عن البراء جاء فيه : «كانوا في الجاهلية إذا أحرموا أتوا البيت من ظهره فأنزل الله تعالى : { وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا } » . ولفظ مسلم : «كانت الأنصار إذا حجّوا ورجعوا لم يدخلوا البيوت إلا من ظهورها فجاء رجل من الأنصار فدخل من بابه فلاموه فنزلت الآية .

ومهما يكن من أمر فالمتبادر أن الآية نزلت في مناسبة سؤالات في صدد ما ذكر فيها . ويتبادر لنا أن المسألتين عرضتا على النبي صلى الله عليه وسلم أو سئل عنهما في ظرف واحد قبل نزول الآية فنزلت الآية للإجابة عليهما معاً ، والتناسب ملموح بين المسألتين كما هو ظاهر مما قد يدعم ذلك .

ويلوح لنا خاطر في صدد ( السؤال عن الأهلة ) إذا كان أراد السائل حقا كما روي معرفة أسرار تقلّب حالات القمر ونواميسه . وهو أن الجواب القرآني جاء على طريقة أسلوب الحكيم . فالسائل سأل عن السرّ فأجيب بما هو مفيد له وللناس من حكمة ذلك ، وينطوي في هذا إذا صح الخاطر اهتمام القرآن ببيان المفيد الحكيم والتجاوز عما لا حاجة إلى بيانه أو لا طائل من بيانه من النواميس الكونية {[302]} .

والشطر الثاني من الآية ينطوي على إلغاء ذلك التقليد لما فيه من مشقة وعبث لا فائدة له . مقررا أنه ليس فيه شيء من البرّ ، ومنبها إلى أن تقوى الله هي الجوهرية ووسيلة البرّ والفلاح الحقيقية .

وهذا متسق مع ما شرحناه في سورة الحج من حكمة الإبقاء على تقاليد الحج القديمة حيث ألغي منها ما فيه قبح أو عبث وجرّد ما أبقي عليه من شوائب الوثنية والشرك .

وهكذا يكون قد انطوى في هذا الشطر وهو يلغي هذا التقليد حكمة تشريعية من جهة وتلقين جليل مستمرّ المدى بأن الجوهري والبرّ الحقيقي عند الله هو تقواه والتزام حدوده دون الأشكال والأعراض والمظاهر ، وهو ما انطوى في آيات عديدة سبق تفسيرها وبخاصة آية سورة البقرة [ 177 ] .


[301]:انظر تفسير الآية في الطبري والخازن والبغوي وابن كثير
[302]:رأينا القاسمي يورد هذا الخاطر أيضا ولم نكن اطلعنا عليه قبل