قوله تعالى : { وما أرسلنا من قبلك } ، يا محمد ، { إلا رجالاً } لا ملائكة ، { نوحي إليهم } ، قرأ أبو جعفر وحفص : { نوحي } بالنون وكسر الحاء ، وقرأ الآخرون بالياء وفتح الحاء .
قوله تعالى : { من أهل القرى } يعني : من أهل الأمصار دون البوادي ، لأن أهل الأمصار أعقل وأفضل وأعلم وأحلم . وقال الحسن : لم يبعث الله نبيا من بدو ، ولا من الجن ، ولا من النساء . وقيل : إنما لم يبعث من أهل البادية لغلظهم وجفائهم . قوله تعالى : { أفلم يسيروا في الأرض } ، يعني : هؤلاء المشركين المكذبين { فينظروا كيف كان عاقبة } آخر أمر ، { الذين من قبلهم } ، يعني : الأمم المكذبة فيعتبروا .
قوله تعالى : { ولدار الآخرة خير للذين اتقوا } ، يقول جل ذكره : هذا بأهل ولايتنا وطاعتنا ، أن ننجيهم عند نزول العذاب ، وما في الدار الآخرة خير لهم ، فترك ما ذكرنا اكتفاء ، لدلالة الكلام عليه .
قوله تعالى : { ولدار الآخرة } ، قيل : معناه ولدار الحال والآخرة . وقيل : هو إضافة الشيء إلى نفسه ، كقوله : { إن هذا لهو حق اليقين } [ الواقعة-959 ] وكقولهم : يوم الخميس ، وربيع الآخر . { أفلا تعقلون } ، فتؤمنون .
ثم قال تعالى { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا } أي : لم نرسل ملائكة ولا غيرهم من أصناف الخلق ، فلأي شيء يستغرب قومك رسالتك ، ويزعمون أنه ليس لك عليهم فضل ، فلك فيمن قبلك من المرسلين أسوة حسنة { نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } أي : لا من البادية ، بل من أهل القرى الذين هم أكمل عقولا ، وأصح آراء ، وليتبين أمرهم ويتضح شأنهم .
{ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ } إذا لم يصدقوا لقولك ، { فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } كيف أهلكهم الله بتكذيبهم ، فاحذروا أن تقيموا على ما أقاموا عليه ، فيصيبكم ما أصابهم ، { وَلَدَارُ الْآخِرَةِ } أي : الجنة وما فيها من النعيم المقيم ، { خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا } الله في امتثال أوامره ، واجتناب نواهيه ، فإن نعيم الدنيا منغص منكد ، منقطع ، ونعيم الآخرة تام كامل ، لا يفنى أبدا ، بل هو على الدوام في تزايد وتواصل ، { عطاء غير مجذوذ } { أَفَلَا تَعْقِلُونَ } أي : أفلا تكون لكم عقول تؤثر الذي هو خير على الأدنى .
( وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى . أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ، ولدار الآخرة خير للذين اتقوا ، أفلا تعقلون ؟ )
إن النظر في آثار الغابرين يهز القلوب . حتى قلوب المتجبرين . ولحظات الاسترجاع الخيالي لحركاتهم وسكناتهم وخلجاتهم ؛ وتصورهم أحياء يروحون في هذه الأمكنة ويجيئون ، يخافون ويرجون ، يطمعون ويتطلعون . . ثم إذا هم ساكنون ، لا حس ولا حركة . آثارهم خاوية ، طواهم الفناء وانطوت معهم مشاعرهم وعوالمهم وأفكارهم وحركاتهم وسكناتهم ، ودنياهم الماثلة للعيان والمستكنة في الضمائر والمشاعر . . إن هذه التأملات لتهز القلب البشري هزا مهما يكن جاسيا غافلا قاسيا . ومن ثم يأخذ القرآن بيد القوم ليوقفهم على مصارع الغابرين بين الحين والحين :
( وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى ) . .
لم يكونوا ملائكة ولا خلقا آخر . إنما كانوا بشرا مثلك من أهل الحاضرة ، لا من أهل البادية ، ليكونوا أرق حاشية وألين جانبا . . وأصبر على احتمال تكاليف الدعوة والهداية ، فرسالتك ماضية على سنة الله في إرسال رجال من البشر نوحي إليهم . .
( أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ؟ ) . .
فيدركوا أن مصيرهم كمصيرهم ؛ وأن سنة الله الواضحة الآثار في آثار الغابرين ستنالهم ، وأن عاقبتهم في هذه الأرض إلى ذهاب :
ولدار الآخرة خير للذين اتقوا .
خير من هذه الدار التي ليس فيها قرار .
فتتدبروا سنن الله في الغابرين ؟ أفلا تعقلون فتؤثروا المتاع الباقي على المتاع القصير ؟
عطف على جملة { وما أكثر الناس } [ سورة يوسف : 103 ] الخ . هاتان الآيتان متّصل معناهما بما تضمنه قوله تعالى : { ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك } [ سورة يوسف : 102 ] إلى قوله : { إن هو إلاّ ذكر للعالمين } [ سورة يوسف : 104 ] وقوله : { قل هذه سبيلي } الآية [ سورة يوسف : 108 ] ، فإن تلك الآي تضمنت الحجة على صدق الرسول عليه الصلاة والسلام فيما جاءهم به ، وتضمنت أن الذين أشركوا غير مصدقينه عناداً وإعراضاً عن آيات الصدق . فالمعنى أن إرسال الرسل عليهم السلام سنّة إلهية قديمة فلماذا يَجعل المشركون نبوءتك أمراً مستحيلاً فلا يصدّقون بها مع ما قارنها من آيات الصدق فيقولون : { أبعث الله بشراً رسولاً } . وهل كان الرسل عليهم السلام السابقون إلا رجالاً من أهل القرى أوحى الله إليهم فبماذا امتازوا عليك ، فسلم المشركون ببعثتهم وتحدّثوا بقصصهم وأنكروا نبوءتك .
وراء هذا معنى آخر من التذكير باستواء أحوال الرسل عليهم السلام وما لقوه من أقوامهم فهو وعيد باستواء العاقبة للفريقين .
و { من قبلك } يتعلق ب { أرسلنا } ف { من } لابتداء الأزمنة فصار ما صدق القبل الأزمنة السابقة ، أي من أول أزمنة الإرسال . ولولا وجود { من } لكان { قبلك } في معنى الصفة للمرسَلين المدلول عليهم بفعل الإرسال .
والرجال : اسم جنس جامد لا مفهوم له . وأطلق هنا مراداً به أناساً كقوله صلى الله عليه وسلم « ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه » أي إنسان أو شخص ، فليس المراد الاحتراز عن المرأة . واختير هنا دون غيره لِمطابقته الواقع فإن الله لم يرسل رسلاً من النساء لحكمة قبول قيادتهم في نفوس الأقوام إذ المرأة مستضعفة عند الرجال دون العكس ؛ ألا ترى إلى قول قيس بن عاصم حين تنبأت سَجَاحِ :
أضحت نبيئتُنا أنثى نُطِيف بها *** وأصبحت أنبياءُ الناس ذكرانا
وليس تخصيص الرجال وأنهم من أهل القرى لقصد الاحتراز عن النساء ومن أهل البادية ولكنه لبيان المماثلة بين مَن سلّموا برسالتهم وبين محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا : { فليأتنا بآية كما أرسل الأولون } [ الأنبياء : 5 ] و { قالوا لولا أوتي مثلَ ما أوتي موسى } [ القصص : 48 ] ، أي فما كان محمد صلى الله عليه وسلم بِدعاً من الرسل حتى تبادروا بإنكار رسالته وتُعرضوا عن النظر في آياته .
فالقصر إضافي ، أي لم يكن الرسل عليهم السلام قبلك ملائكةً أو ملوكاً من ملوك المدن الكبيرة فلا دلالة في الآية على نفي إرسال رسول من أهل البادية مثل خالد بن سنان العبسي ، ويعقوب عليه السلام حين كان ساكناً في البَدْو كما تقدم .
وقرأ الجمهور ، { يُوحَى } بتحتية وبفتح الحاء مبنياً للنائب ، وقرأه حفص بنون على أنه مبني للفاعل والنون نون العظمة .
وتفريع قوله : { أفلم يسيروا في الأرض } على ما دلت عليه جملة { وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً } من الأسوة ، أي فكذّبهم أقوامهم من قبل قومك مثل ما كذّبك قومك وكانت عاقبتهم العقاب . أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الأقوام السابقين ، أي فينظروا آثار آخر أحوالهم من الهلاك والعذاب فيعلم قومك أن عاقبتهم على قياس عاقبة الذين كذّبوا الرسل قبلهم ، فضمير { يسيروا } عائد على معلوم من المقام الدال عليه { وما أنا من المشركين } [ سورة يوسف : 108 ] .
والاستفهام إنكاري . فإن مجموع المتحدّث عنهم ساروا في الأرض فرأوا عاقبة المكذبين مثل عاد وثمود .
وهذا التفريع اعتراض بالوعيد والتهديد .
و{ كيف } استفهام معلّق لفعل النظر عن مفعوله .
وجملة { ولدار الآخرة } خبر . معطوفة على الاعتراض فلها حكمه ، وهو اعتراض بالتبشير وحسن العاقبة للرسل عليهم السلام ومن آمن بهم وهم الذين اتقوا . وهو تعريض بسلامة عاقبة المتقين في الدنيا . وتعريض أيضاً بأن دار الآخرة أشد أيضاً على الذين من قبلهم من العاقبة التي كانت في الدنيا فحصل إيجاز بحذف جملتين .
وإضافة { دار } إلى { آخرة } من إضافة الموصوف إلى الصفة مثل « يا نساء المسلمات » في الحديث .
وقرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وحفص عن عاصم ، وأبو جعفر ، ويعقوب : { أفلا تعقلون } بتاء الخطاب على الالتفات ، لأن المعاندين لما جرى ذكرهم وتكرر صاروا كالحاضرين فالتفت إليهم بالخطاب . وقرأه الباقون بياء الغيبة على نسق ما قبله .