جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري  
{وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ إِلَّا رِجَالٗا نُّوحِيٓ إِلَيۡهِم مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡقُرَىٰٓۗ أَفَلَمۡ يَسِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَيَنظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۗ وَلَدَارُ ٱلۡأٓخِرَةِ خَيۡرٞ لِّلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ} (109)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاّ رِجَالاً نّوحِيَ إِلَيْهِمْ مّنْ أَهْلِ الْقُرَىَ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الاَخِرَةِ خَيْرٌ لّلّذِينَ اتّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } .

يقول تعالى ذكره : وَمَا أرْسَلْنا يا محمد مِنْ قَبْلِكَ إلاّ رِجالاً لا نساء ولا ملائكة ، نُوحِي إلَيْهِمْ آياتنا بالدعاء إلى طاعتنا وإفراد العبادة لنا مِنْ أهْل القُرَى يعني من أهل الأمصار ، دون أهل البوادي . كما :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَما أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إلاّ رِجالاً نُوحِي إلَيْهمْ مِنْ أهْل القُرَى لأنهم كانوا أحلم وأحلم من أهل العمود .

وقوله : أفَلَمْ يَسِيروا في الأرْضِ يقول تعالى ذكره : أفل يسر هؤلاء المشركون الذين يكذبونك يا محمد ، ويجحدون نبوّتك ، ويُنكرون ما جئتهم به من توحيد الله وإخلاص الطاعة والعبادة له في الأرض ، فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ إذ كذّبوا رسلنا ، ألم نُحِلّ بهم عقوبتنا ، فنهلكَهم بها ، وننج منها رسلنا وأتباعنا ، فيتفكروا في ذلك ويعتبروا ؟ ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : قوله : وَما أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إلاّ رِجالاً نُوحِي إلَيْهِمْ قال : إنهم قالوا : ما أَنْزَلَ الله على بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قال : وقوله : وَما أكْثَرُ النّاس وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ وَما تسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أجْرٍ ، وقوله : وكأيّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السّمَوَاتِ والأرْض يَمُرّونَ عَلَيْها ، وقوله : «أفأَمِنُوا أنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللّهِ ، وقوله : أفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا من أهلكنا ؟ قال : فكل ذلك قال لقريش : أفلم يسيروا في الأرض فينظروا في آثارهم فيعتبروا ويتفكروا .

وقوله : وَلَدَارُ الاَخِرَةِ خَيْرٌ يقول تعالى ذكره : هذا فِعْلنا في الدنيا بأهل ولايتنا وطاعتنا ، إن عقوبتنا إذا نزلت بأهل معاصينا والشرك بنا أنجيناهم منها ، وما في الدار الاَخرة لهم خير . وترك ذكر ما ذكرنا اكتفاء بدلالة قوله : وَلَدَارُ الاَخِرَةِ خَيْرٌ للّذِينَ اتّقَوْا عليه ، وأضيفت الدار إلى الاَخرة ، وهي الاَخرة ، لاختلاف لفظهما ، كما قيل : إنّ هذَا لَهُوَ حَقّ اليَقِينِ وكما قيل : أتيتك عامَ الأوّلِ ، وبارحة الأولى ، وليلةَ الأولى ، ويومَ الخميس ، وكما قال الشاعر :

أتَمْدحُ فَقُعَسا وتَذُمّ عَبَسا *** ألا لِلّهِ أُمّكَ مِنْ هَجِينِ

ولوْ أقْوَتْ عَلَيْكَ دِيارُ عَبْسٍ *** عَرَفتَ الذّلّ عِرْفانَ اليَقِينِ

يعني عرفانا به يقينا .

فتأويل الكلام : وللدار الاَخرة خير للذين اتقوا الله بأداء فرائضه واجتناب معاصيه .

وقوله : أفَلا تَعْقِلُونَ يقول : أفلا يعقل هؤلاء المشركون بالله حقيقة ما نقول لهم ونخبرهم به من سوء عاقبة الكفر ، وغبّ ما يصير إليه حال أهله مع ما قد عاينوا ورأوا وسمعوا مما حلّ بمن قبلهم من الأمم الكافرة المكذّبة رسل بها .