ولما أوضح{[43088]} إبطال ما تعنتوا به من قولهم " لو أنزل{[43089]} عليه كنز " أتبعه ما{[43090]} يوضح تعنتهم في قولهم { أو جاء معه ملك } بذكر المرسلين ، وأهل السبيل المستقيم ، الداعين إلى الله{[43091]} على بصيرة ، فقال : { وما أرسلنا } أي بما لنا من العظمة . ولما كان الإرسال لشرفه لا يتأتى على ما جرت به الحكمة في كل زمن كما أنه لا يصلح للرسالة كل أحد ، وكان السياق لإنكار التأييد بملك في قوله { أو جاء معه ملك } كالذي في النحل{[43092]} ، لا لإنكار رسالة البشر ، أدخل الجار تنبيهاً على ذلك فقال : { من قبلك } أي إلى المكلفين { إلا رجالاً } أي مثل ما أنك رجل ، لا ملائكة{[43093]} ولا إناثاً{[43094]} - كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما{[43095]} ، والرجل مأخوذ من المشي على الرجل { نوحي{[43096]} إليهم } أي بواسطة الملائكة{[43097]} مثل ما يوحى إليك { من أهل القرى } مثل ما أنك من أهل القرى ، أي الأماكن المبنية بالمدر والحجر ونحوه ، لأنها متهيئة للإقامة والاجتماع وانتياب{[43098]} أهل الفضائل ، وذلك أجدر بغزارة{[43099]} العقل وأصالة الرأي وحدة الذهن وتوليد المعارف من البوادي ، ومكة أم القرى في ذلك لأنها مجمع لجميع الخلائق لما أمروا به من حج البيت ، وكان العرب كلهم يأتونها ؛ قال الرماني : وقال الحسن{[43100]} : لم يبعث الله نبياً من أهل البادية ولا من الجن ولا من النساء - انتهى .
وذلك لأن المدن مواضع الحكمة ، والبوادي مواطن لظهور الكلمة ، ولما كانت مكة أو القرى مدينة ، وهي مع ذلك في بلاد البادية ، جمعت الأمرين وفازت بالأثرين ، لأجل أن المرسل إليها{[43101]} جامع لكل ما تفرق في غيره من المرسلين ، وخاتم لجميع النبيين - صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين .
ومادة " قرى " - يائية وواوية مهموزة وغير مهموزة بتراكيبها الخمسة عشر - تدور على الجمع ، ويلزمه{[43102]} الإمساك ، وربما كان عنه الانتشار ، فالقرية - بالفتح ويكسر{[43103]} : المصر الجامع ، وأقرى : لزم القرية ، والقاري : ساكنها ، والقارية{[43104]} : الحاضرة الجامعة ، وطير أخضر ، إما للزومها ، وإما لجمع لونه للبصر ، والقريتين - مثنى وأكثر ما{[43105]} يتلفظ به{[43106]} بالياء : مكة{[43107]} والطائف ، وقرية النمل : مجتمع ترابها ، وقريت{[43108]} الماء في الحوض : جمعته ، والمقراة : شبه حوض ، وكل ما اجتمع فيه ماء ، والقريّ : ماء مستجمع ، والمدة تقرى في الجرح - أي تجتمع{[43109]} ، والقواري : الشهود{[43110]} - لجمعهم الأمور{[43111]} ، والقواري : الناس الصالحون - كأنه مخفف من المهموز ، وقريت الضيف{[43112]} قرى بالكسر والقصر ، وبالفتح والمد : أضفته كاقتريته ، والمقراة : الجفنة{[43113]} يقرى فيها الضيف ، والمقاري : القدور ، وقرى البعير وكل ما اجتر : جمع جرته في شدقه ، وقرت الناقة : ورم شدقاها من وجع الأسنان{[43114]} كأنها لا تقدر مع ذلك على جمع الجرة ، فيكون من السلب ، وقرى البلاد : تتبعها يخرج من أرض إلى أرض كاقتراها{[43115]} واستقراها - لجمعه بينها ، وقريّ الماء كغني : مسيله من التلاع{[43116]} ، أو موقعه من الربو{[43117]} إلى الروضة{[43118]} - لأنه مكان اجتماعه ، وقرى الخيل : واد - كأنها اجتمعت فيه ، والقرية - كغنية : العصا لأن الراعي يجمع بها ما يرعاه . وبها يجمع كل ما يراد جمعه ، وأعواد فيها فرض{[43119]} يجعل فيها رأس عمود البيت ، لأنه بها يقام فيجمع من{[43120]} يراد ، وعود الشراع{[43121]} الذي في عرضه من أعلاه ، لأنه يجمع الشراع ملفوفاً ومنشوراً ، وقريت الصحيفة لغة في قرأتها - إذا تلوتها فجمعت علمها وكلامها ، والقارية : أسفل الرمح ، لأنه يجمع زجه ، أو أعلاه ، لأنه يجمع عاليته ، وحد الرمح ، لأنه يجمع مراد صاحبه ، وكذا حد السيف ، والقارية - بالتشديد{[43122]} : طائر أخضر إذا رأوه استبشروا بالمطر - كأنه{[43123]} رسول الغيث أو مقدمة السحاب ، جمعه قواري ، كأنه سمي بذلك لأنه سبب جمع الهم للمطر ؛ والقير والقار : شيء أسود تطلى به السفن ، والإبل ، والحباب ، والزقاق ، أو هما الزفت ، وعلى كل تقدير هو ساد للشقوق{[43124]} والمسام فكان الجامع بين أجزاء{[43125]} السفينة وغيرها ، وهذا أقير من هذا{[43126]} أشد{[43127]} مرارة - تشبيه بالقير الطعم ، والمر أيضاً يجمع الفم نحوه بالقبض ، والقيّور - كتنور : الخامل{[43128]} النسب ، شبه به أيضاً لأن القير لما قل احتياج أكثر{[43129]} الناس إليه في كثير من الأوقات صار قليل الذكر - وهذا معنى الخمول ، والقيار كشداد{[43130]} : صاحب القير ، وبئر لبني عجل قرب واسط ، كأنها سميت لجمعها إياهم ، وقيار{[43131]} اسم فرس ، كأنه لجودته يجمع لصاحبه ما يريد{[43132]} ، والقارة : الدّبة{[43133]} كذلك ، والقارة : حي من العرب سموا لأن ابن الشداخ{[43134]} أراد أن يفرقهم في كنانة{[43135]} فقال شاعرهم :
دعونا قارة لا تجفلونا{[43136]} *** فنجفل مثل إجفال الظليم
ذكره مختصر العين{[43137]} هنا وغيره في الواو ، واقتار الحديث اقتياراً : بحث عنه - لأن ذلك سبب لجمعه ، والقيِّر - كهيّن : الأسوار من الرماة الحاذق ، لأنه يجمع بذلك ما يريد ؛ ورقيت الرجل بالفتح رقية : عوذته ، ونفثت في عوذته - لأن الراقي يجمع ريقه وينفث{[43138]} ، ورقيت في الشيء رقياً - إذا صعدت عليه - كأنك جمعت بين درجه ، والمرقاة بالفتح ويكسر : الدرجة ، لأن العلو من آثار الجمع ، ورقى عليه كلاماً ترقية : رفع ، لأنه جمعه عليه ، ومرقيا{[43139]} الأنف : حرفاه لأنهما الجامعان له ؛ والرائق من الماء : الخالص ، لأنه إذا خلص اشتد تلاصق أجزائه لزوال ما{[43140]} كان يتخللها من الغبر{[43141]} ، وراق الماء يريق - إذا انصب ، إما لأنه اجتمع إلى المحل الذي انصب إليه ، أو يكون من السلب كأراقه بمعنى صبه ، وراق السراب{[43142]} يريق وتريق{[43143]} يتريق - إذا تضحضح فوق الأرض أي تردد ، إما من السلب ، وإما تشبيه بالمجتمع ، والريق : تردد الماء على وجه الأرض من الضحضاح أي ليسير ونحوه ، لأنه لا يتردد إلا وهو مجتمع ، والريق : أول كل شيء وأفضله من الرائق بمعنى الخالص ، ولأن الأول يجتمع{[43144]} إليه غيره ، والأفضل يجمع{[43145]} ما يراد ، والريق أيضاً : الباطل ، كالريوق{[43146]} كتنور - تشبيهاً{[43147]} بالسراب{[43148]} ، وريق الفم معروف ، لاجتماعه ، والريق : القوة ، لجمعها المراد ، والريق والرائق : الخالص وكل ما أكل أو شرب على الريق ، {[43149]} ومن ليس في يده شيء ، كأنه خلص عن العلائق فاجتمع همه ، ومن هو على الريق{[43150]} كريق ككيس ، وهو يريق بنفسه : يجود بها عند الموت ، من راق{[43151]} الماء : انصب ، والمريق - كمعظم : من لا يزال يعجبه شيء ، ولعله من{[43152]} راقه يروقه - إذا أعجبه ، فجمع همه إليه ؛ واليارق : ضرب من الأسورة ، لأنه يجمع المعصم ، واليرقان - ويسكن : الاستقامة والطريقة وآفة للزرع . ومرض معروف ، وسيذكر في " أرق " في{[43153]} أول سورة الحجر إن شاء الله تعالى .
ولما كان الاعتبار بأحوال من سلف للنجاة مما حل{[43154]} بهم أهم{[43155]} المهم ، اعترض بالحث{[43156]} عليه بين الغاية ومتعلقها ، فقال : { أفلم يسيروا } أي يوقع السير هؤلاء المكذبون{[43157]} { في الأرض } أي في هذا الجنس الصادق بالقليل والكثير . ولما كان المراد سير الاعتبار سبب عنه قوله{[43158]} { فينظروا } أي عقب سيرهم وبسببه ، ونبه على أن{[43159]} ذلك{[43160]} أمر عظيم ينبغي الاهتمام بالسؤال عنه{[43161]} بذكر أداة الاستفهام فقال { كيف كان عاقبة } أي آخر أمر { الذين } ولما كان الذين يعتبر بحالهم - لما حل{[43162]} بهم من الأمور العظام - في بعض الأزمنة الماضية ، وكان المخاطبون بهذا القرآن لا يمكنهم الإحاطة بأهل الأرض وإن كان في حال كل منهم عظه ، أتى بالجار فقال : { من قبلهم } في الرضى بأهوائهم في تقليد آبائهم ، وهذا كما تقدم في سورة يونس من أن الآيات لا تغني{[43163]} عمن ختم على قلبه ، والتذكير بأحوال الماضين من هلاك العاصين ونجاة الطائعين ، والاعتراض بين ذلك بقوله { قل انتظروا إني معكم من المنتظرين } وهو{[43164]} يدل على أنه تعالى يغضب ممن أعرض عن تدبر{[43165]} آياته ؛ والسير : المرور الممتد في جهة ، ومنه أخذ السير ، وأخذ السيور من الجلد ؛ والنظر : طلب إدراك المعنى بالعين أو{[43166]} القلب ، وأصله{[43167]} مقابلة الشيء بالبصر لإدراكه .
ولما كان من الممكن أن يدعي مطموس البصيرة أنه{[43168]} كان لهم نوع خير ، قال على طريقة{[43169]} إرخاء العنان : { ولدار } أي الساعة أو الحالة { الآخرة } أي التي وقع التنبيه عليها بأمور تفوت الحصر منها دار الدنيا فإنه لا تكون{[43170]} دنيا إلا بقصيا{[43171]} { خير للذين اتقوا } أي حملهم الخوف على جعل الائتمار والانزجار وقاية من حياة أهون مآلها الموت ، وإن فرض فيها من المحال أنها امتدت ألف عام ، وكان عيشها كله رغداً من غير آلام .
ولما كان تسليم{[43172]} هذا لا يحتاج فيه إلى أكثر من العقل ، قال مسبباً عنه منكراً{[43173]} عليهم مبكتاً لهم : { أفلا يعقلون * } أي فيتبعوا الداعي إلى هذا السبيل الأقوم .