المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ إِلَّا رِجَالٗا نُّوحِيٓ إِلَيۡهِم مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡقُرَىٰٓۗ أَفَلَمۡ يَسِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَيَنظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۗ وَلَدَارُ ٱلۡأٓخِرَةِ خَيۡرٞ لِّلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ} (109)

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ ( 109 ) حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ( 110 )

هذه الآية تتضمن الرد على مستغربي إرسال الرسل من البشر كالطائفة التي قالت : أبعث الله بشراً رسولاً{[6858]} ، وكالطائفة التي اقترحت ملكاً وغيرهما .

وقرأ الجمهور : «يوحَى إليهم » بالياء وفتح الحاء ، وهي قراءة عاصم في رواية أبي بكر ، وقرأ في رواية حفص : «نوحِي » بالنون وكسر الحاء وهي قراءة أبي عبد الرحمن وطلحة .

و { القرى } : المدن ، وخصصها دون القوم المنتوين{[6859]} - أهل العمود - فإنهم في كل أمة أهل جفاء وجهالة مفرطة ، قال ابن زيد : { أهل القرى } أعلم وأحلم من أهل العمود .

قال القاضي أبو محمد : فإنهم قليل نبلهم ولم ينشىء الله فيهم رسولاً قط . وقال الحسن : لم يبعث الله رسولاً قط من أهل البادية ولا من النساء ولا من الجن .

قال القاضي أبو محمد : والتبدي مكروه إلا في الفتن وحين يفر بالدين ، كقوله عليه السلام «يوشك أن يكون خير مال المسلم غنماً » الحديث{[6860]} . وفي ذلك أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لسلمة بن الأكوع{[6861]} وقد قال صلى الله عليه وسلم : «لا تعرب في الإسلام »{[6862]} وقال : من «بدا جفا »{[6863]} وروى عنه معاذ بن جبل أنه قال : «الشيطان ذيب الإنسان كذيب الغنم يأخذ الشاة القاصية فإياكم والشعاب وعليكم بالمساجد والجماعات والعامة »{[6864]} .

قال القاضي أبو محمد : ويعترض هذا ببدو يعقوب ، وينفصل عن ذلك بوجهين أحدهما : أن ذلك البدو لم يكن في أهل عمود بل هو بتقر في منازل وربوع .

والثاني : أنه إنما جعله بدواً بالإضافة إلى مصر كما هي بنات الحواضر بدو بالإضافة إلى الحواضر .

ثم أحالهم على الاعتبار في الأمم السالفة في أقطار الأرض التي كذبت رسلها فحاق بها عذاب الله ، ثم حض على الآخرة والاستعداد لها والاتقاء من الموبقات فيها ، ثم وقفهم موبخاً بقوله : { أفلا تعقلون } .

وقوله : { ولدار الآخرة } زيادة في وصف إنعامه على المؤمنين ، أي عذب الكفار ونجى المؤمنين ، ولدار الآخرة أحسن لهم .

وأما إضافة «الدار » إلى { الآخرة } فقال الفراء : هي إضافة الشيء إلى نفسه كما قال الشاعر : [ الوافر ]

فإنك لو حللت ديار عبس*** عرفت الذل عرفان اليقين{[6865]}

وفي رواية :«فلو أقوت عليك ديار » إلخ .

وكما يقال : مسجد الجامع ، ونحو هذا ، وقال البصريون : هذه على حذف مضاف تقديره : ولدار الحياة الآخرة أو المدة الآخرة .

قال القاضي أبو محمد : وهذه الأسماء التي هي للأجناس كمسجد وثوب وحق وجبل ونحو ذلك - إذا نطق بها الناطق لم يدر ما يريد بها ، فتضاف إلى معرف مخصص للمعنى المقصود فقد تضاف إلى جنس آخر كقولك : جبل أحد ، وقد تضاف إلى صفة كقولك : مسجد الجامع وحق اليقين ، وقد تضاف إلى اسم خاص كقولك جبل أحد ونحوه .

وقرأ الحسن والأعمش والأعرج وابن كثير وأبو عمرو وعاصم وعلقمة «يعقلون » بالياء ، واختلف عن الأعمش . قال أبو حاتم : قراءة العامة : «أفلا تعقلون » بالتاء من فوق{[6866]} .


[6858]:من الآية (94) من سورة (الإسراء).
[6859]:انتوى: انتقل من مكان إلى آخر، وفي حديث المرأة البدوية التي توفي عنها زوجها: (إنها تنتوي حيث انتوى أهلها)، قال في النهاية: أي : تنتقل وتتحول، يريد البدو الرحل.
[6860]:أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب: "من الدين الفرار من الفتن"، ولفظه كاملا عن أبي سعيد الخدري أنه قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن يكون خير مال المسلم غنما يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن(.
[6861]:أخرج البخاري في كتاب الفتن، باب "التعرب في الفتنة" عن سلمة بن الأكوع (أنه دخل على الحجاج فقال: يا بن الأكوع، ارتددت على عقبيك، تعربت؟ قال: لا، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لي في البدو) ، وعن يزيد بن أبي عبيد قال: لما قتل عثمان بن عفان خرج سلمة بن الأكوع إلى الربذة، وتزوج هناك امرأة وولدت له أولادا، فلم يزل بها حتى أقبل قبل أن يموت بليال فنزل المدينة).
[6862]:الذي وجدناه في "النهاية" ما نصه: (ثلاث من الكبائر منها التعرب بعد الهجرة...) ثم فسر معنى "التعرب" بقوله: هو أن يعود إلى البادية ويقيم مع الأعراب بعد أن كان مهاجرا
[6863]:أخرجه الإمام أحمد في مسنده (2ـ371، 440، 4ـ297)، ولفظه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من بدا جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى أبواب السلطان افتتن، و ما ازداد عبد من السلطان قربا إلا ازداد من الله بعدا).
[6864]:أخرجه الإمام أحمد عن معاذ رضي الله عنه، ولفظه كما في "الجامع الصغير": (إن الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم يأخذ الشاة القاصية والناحية، فإياكم والشعاب، وعليكم بالجماعة والعامة والمسجد). ورمز له الإمام السيوطي بأنه حديث حسن.
[6865]:هذا واحد من بيتين رواهما الفراء عن بعضهم في "معاني القرآن"، وهما: أتمدح فقعسا وتذم عبســـــا؟ ألا لله أمك من هجيـــــــن ولو أقوت عليك ديار عبس عرفت الذل عرفان اليقين ثم قال: أضاف الدار إلى الآخرة، وهي الآخرة، وقد تضيف العرب الشيء إلى نفسه، كقوله: {إن هذا لهو حق اليقين}، و جميع الأيام إلى أنفسها لاختلاف لفظها، وكذلك شهر ربيع، والعرب تقوله في كلامها، ثم أنشد البيتين عن بعضهم.
[6866]:قال في "البحر المحيط": "وقرأ الحسن،" وعلقمة، والأعرج، وعاصم، وابن عامر، ونافع بالتاء على خطاب هذه الأمة تحذيرا لهم مما وقع فيه أولئك فيصيبهم ما أصابهم ". تأمل الاختلاف بين الذي قاله ابن عطية والذي قاله أبو حيان.