قوله تعالى :{ النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم } يعني من بعضهم ببعض في نفوذ حكمه عليهم ووجوب طاعته عليهم ، وقال ابن عباس وعطاء : يعني إذا دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم ودعتهم أنفسهم إلى شيء كانت طاعة النبي صلى الله عليه وسلم أولى بهم من طاعتهم أنفسهم . وقال ابن زيد : النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم فيما قضى فيهم ، كما أنت أولى بعبدك فيما قضيت عليه . وقيل : هو أولى بهم في الحمل على الجهاد وبذل النفس دونه . وقيل : كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج إلى الجهاد فيقول قوم : نذهب فنستأذن من آبائنا وأمهاتنا ، فنزلت الآية .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا عبد الله بن محمد ، أنبأنا أبو عامر ، أنبأنا فليح ، عن هلال بن علي عن عبد الرحمن بن أبي عمرة ، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما من مؤمن إلا أنا أولى به في الدنيا والآخرة ، اقرؤوا إن شئتم { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم } فأيما مؤمن مات وترك مالاً فليرثه عصبته ، من كانوا ومن ترك ديناً أو ضياعاً فليأتني فأنا مولاه " .
قوله عز وجل : { وأزواجه أمهاتهم } وفي حرف أبي : وأزواجه وأمهاتهم وهو أب لهم وهن أمهات المؤمنين في تعظيم حقهن وتحريم نكاحهن على التأييد ، لا في النظر إليهن والخلوة بهن ، فإنه حرام في حقهن كما في حق الأجانب ، قال الله تعالى : { وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب } ولا يقال لبناتهن هن أخوات المؤمنين ولا لإخوانهن وأخواتهن هم أخوال المؤمنين وخالاتهم . قال الشافعي : تزوج الزبير أسماء بنت أبي بكر ، وهي أخت أم المؤمنين ، ولم يقل هي خالة المؤمنين . واختلفوا في أنهن هل كن أمهات النساء المؤمنات ؟ قيل : كن أمهات المؤمنين والمؤمنات جميعاً . وقيل كن أمهات المؤمنين دون النساء ، روى الشعبي عن مسروق أن امرأة قالت لعائشة رضي الله عنها : يا أمه ! فقالت لست لك بأم إنما أنا أم رجالكم ، فبان بهذا أن معنى هذه الأمومة تحريم نكاحهن . قوله عز وجل : { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } يعني : في الميراث ، قال قتادة : كان المسلمون يتوارثون بالهجرة . قال الكلبي : آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الناس ، فكان يؤاخي بين رجلين فإذا مات أحدهما ورثه الآخر دون عصبته ، حتى نزلت هذه الآية : { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } في حكم الله ، { من المؤمنين } الذين آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم ، { والمهاجرين } يعني ذوي القرابات ، بعضهم أولى بميراث بعض من أن يرث بالإيمان والهجرة ، فنسخت هذه الآية الموارثة بالمؤاخاة والهجرة وصارت بالقرابة . قوله : { إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفاً } أراد بالمعروف الوصية للذين يتولونه من المعاقدين ، وذلك أن الله لما نسخ التوارث بالحلف والهجرة أباح أن يوصي الرجل لمن يتولاه بما أحب من ثلثه . وقال مجاهد : أراد بالمعروف النصرة وحفظ الحرمة لحق الإيمان والهجرة . وقيل : أراد بالآية إثبات الميراث بالإيمان والهجرة ، يعني : وأولوا الأرحام من المؤمنين والمهاجرين بعضهم أولى ببعض ، أي : لا توارث بين المسلم والكافر ولا بين المهاجر وغير المهاجر إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفاً ، يعني : إلا أن توصوا لذوي قراباتكم بشيء وإن كانوا من غير أهل الإيمان والهجرة ، وهذا قول قتادة وعطاء وعكرمة . { كان ذلك في الكتاب مسطوراً } أي : كان الذي ذكرت من أن أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض في اللوح المحفوظ مسطوراً مكتوباً . وقال القرظي : في التوراة .
{ 6 } { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا }
يخبر تعالى المؤمنين ، خبرًا يعرفون به حالة الرسول صلى اللّه عليه وسلم ومرتبته ، فيعاملونه بمقتضى تلك الحالة فقال : { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } أقرب ما للإنسان ، وأولى ما له نفسه ، فالرسول أولى به من نفسه ، لأنه عليه الصلاة والسلام ، بذل لهم من النصح ، والشفقة ، والرأفة ، ما كان به أرحم الخلق ، وأرأفهم ، فرسول اللّه ، أعظم الخلق مِنَّةً عليهم ، من كل أحد ، فإنه لم يصل إليهم مثقال ذرة من الخير ، ولا اندفع عنهم مثقال ذرة من الشر ، إلا على يديه وبسببه .
فلذلك ، وجب عليهم إذا تعارض مراد النفس ، أو مراد أحد من الناس ، مع مراد الرسول ، أن يقدم مراد الرسول ، وأن لا يعارض قول الرسول ، بقول أحد ، كائنًا من كان ، وأن يفدوه بأنفسهم وأموالهم وأولادهم ، ويقدموا محبته على الخلق كلهم ، وألا يقولوا حتى يقول ، ولا يتقدموا بين يديه .
وهو صلى اللّه عليه وسلم ، أب للمؤمنين ، كما في قراءة بعض الصحابة ، يربيهم كما يربي الوالد أولاده .
فترتب على هذه الأبوة ، أن كان نساؤه أمهاتهم ، أي : في الحرمة والاحترام ، والإكرام ، لا في الخلوة والمحرمية ، وكأن هذا مقدمة ، لما سيأتي في قصة زيد بن حارثة ، الذي كان قبل يُدْعَى : " زيد بن محمد " حتى أنزل اللّه { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ } فقطع نسبه ، وانتسابه منه ، فأخبر في هذه الآية ، أن المؤمنين كلهم ، أولاد للرسول ، فلا مزية لأحد عن أحد وإن انقطع عن أحدهم انتساب الدعوة ، فإن النسب الإيماني لم ينقطع عنه ، فلا يحزن ولا يأسف .
وترتب على أن زوجات الرسول أمهات المؤمنين ، أنهن لا يحللن لأحد من بعده ، كما الله صرح{[4]} بذلك : " وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا "
{ وَأُولُو الْأَرْحَامِ } أي : الأقارب ، قربوا أو بعدوا { بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ } [ أي ]{[5]} : في حكمه ، فيرث بعضهم بعضًا ، ويبر بعضهم بعضًا ، فهم أولى من الحلف والنصرة .
والأدعياء الذين كانوا من قبل ، يرثون بهذه الأسباب ، دون ذوي الأرحام ، فقطع تعالى ، التوارث بذلك ، وجعله للأقارب ، لطفًا منه وحكمة ، فإن الأمر لو استمر على العادة السابقة ، لحصل من الفساد والشر ، والتحيل لحرمان الأقارب من الميراث ، شيء كثير .
{ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ } أي : سواء كان الأقارب مؤمنين مهاجرين وغير مهاجرين ، فإن ذوي الأرحام مقدمون في ذلك ، وهذه الآية حجة على ولاية ذوي الأرحام ، في جميع الولايات ، كولاية النكاح ، والمال ، وغير ذلك .
{ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا } أي : ليس لهم حق مفروض ، وإنما هو بإرادتكم ، إن شئتم أن تتبرعوا لهم تبرعًا ، وتعطوهم معروفًا منكم ، { كَانَ } ذلك الحكم المذكور { فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا } أي : قد سطر ، وكتب ، وقدره اللّه ، فلا بد من نفوذه .
بعد ذلك يقرر إبطال نظام المؤاخاة كما أبطل نظام التبني . ونظام المؤاخاة لم يكن جاهليا ؛ إنما هو نظام استحدثه الإسلام بعد الهجرة ، لمواجهة حالة المهاجرين الذين تركوا أموالهم وأهليهم في مكة ؛ ومواجهة الحالة كذلك بين المسلمين في المدينة ممن انفصلت علاقاتهم بأسرهم نتيجة لإسلامهم . . وذلك مع تقرير الولاية العامة للنبي[ صلى الله عليه وسلم ] وتقديمها على جميع ولايات النسب ؛ وتقرير الأمومة الروحية بين أزواجه [ صلى الله عليه وسلم ] وجميع المؤمنين :
النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، وأزواجه أمهاتهم ؛ وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين . إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا . كان ذلك في الكتاب مسطورا . .
لقد هاجر المهاجرون من مكة إلى المدينة ، تاركين وراءهم كل شيء ، فارين إلى الله بدينهم ، مؤثرين عقيدتهم على وشائج القربى ، وذخائر المال ، وأسباب الحياة ، وذكريات الطفولة والصبا ، ومودات الصحبة والرفقة ، ناجين بعقيدتهم وحدها ، متخلين عن كل ما عداها . وكانوا بهذه الهجرة على هذا النحو ، وعلى هذا الانسلاخ من كل عزيز على النفس ، بما في ذلك الأهل والزوج والولد - المثل الحي الواقع في الأرض على تحقق العقيدة في صورتها الكاملة ، واستيلائها على القلب ، بحيث لا تبقى فيه بقية لغير العقيدة . وعلى توحيد الشخصية الإنسانية لتصدق قول الله تعالى : ( ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ) . .
كذلك وقع في المدينة شيء من هذا في صورة أخرى . فقد دخل في الإسلام أفراد من بيوت ، وظل آخرون فيها على الشرك . فانبتت العلاقة بينهم وبين قرابتهم . ووقع على أية حال تخلخل في الروابط العائلية ؛ وتخلخل أوسع منه في الارتباطات الاجتماعية .
وكان المجتمع الإسلامي لا يزال وليدا ، والدولة الإسلامية الناشئة أقرب إلى أن تكون فكرة مسيطرة على النفس ، من أن تكون نظاما مستندا إلى أوضاع مقررة .
هنا ارتفعت موجة من المد الشعوري للعقيدة الجديدة ، تغطي على كل العواطف والمشاعر ، وكل الأوضاع والتقاليد ، وكل الصلات والروابط . لتجعل العقيدة وحدها هي الوشيجة التي تربط القلوب ، وتربط - في الوقت ذاته - الوحدات التي انفصلت عن أصولها الطبيعية في الأسرة والقبيلة ؛ فتقوم بينها مقام الدم والنسب ، والمصلحة والصداقة والجنس واللغة وتمزج بين هذه الوحدات الداخلة في الإسلام ، فتجعل منها كتلة حقيقية متماسكة متجانسة متعاونة متكافلة . لا بنصوص التشريع ، ولا بأوامر الدولة ؛ ولكن بدافع داخلي ومد شعوري . يتجاوز كل ما ألفه البشر في حياتهم العادية . وقامت الجماعة الإسلامية على هذا الأساس ، حيث لم يكن مستطاعا أن تقوم على تنظيم الدولة وقوة الأوضاع .
نزل المهاجرون على إخوانهم الأنصار ، الذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم ؛ فاستقبلوهم في دورهم وفي قلوبهم ، وفي أموالهم . وتسابقوا إلى إيوائهم ؛ وتنافسوا فيهم حتى لم ينزل مهاجري في دار أنصاري إلا بقرعة . إذ كان عدد المهاجرين أقل من عدد الراغبين في إيوائهم من الأنصار . وشاركوهم كل شيء عن رضى نفس ، وطيب خاطر ، وفرح حقيقي مبرأ من الشح الفطري ، كما هو مبرأ من الخيلاء والمراءاة !
وآخى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بين رجال من المهاجرين ورجال من الأنصار . وكان هذا الإخاء صلة فريدة في تاريخ التكافل بين أصحاب العقائد . وقام هذا الإخاء مقام أخوة الدم ، فكان يشمل التوارث والالتزامات الأخرى الناشئة عن وشيجة النسب كالديات وغيرها .
وارتفع المد الشعوري في هذا إلى ذروة عالية ؛ وأخذ المسلمون هذه العلاقة الجديدة مأخذ الجد - شأنهم فيها شأنهم في كل ما جاءهم به الإسلام - وقام هذا المد في إنشاء المجتمع الإسلامي وحياطته مقام الدولة المتمكنة والتشريع المستقر والأوضاع المسلمة . بل بما هو أكثر . وكان ضروريا لحفظ هذه الجماعة الوليدة وتماسكها في مثل تلك الظروف الاستثنائية المتشابكة التي قامت فيها .
وإن مثل هذا المد الشعوري لضروري لنشأة كل جماعة تواجه مثل تلك الظروف ، حتى توجد الدولة المتمكنة والتشريع المستقر والأوضاع المسلمة ، التي توفر الضمانات الاستثنائية لحياة تلك الجماعة ونموها وحمايتها . وذلك إلى أن تنشأ الأحوال والأوضاع الطبيعية .
وإن الإسلام - مع حفاوته بذلك المد الشعوري ، واستبقاء ينابيعه في القلب مفتوحة دائما فوارة دائما ، مستعدة للفيضان . لحريص على أن يقيم بناءه على أساس الطاقة العادية ، للنفس البشرية لا على أساس الفورات الاستثنائية ، التي تؤدي دورها في الفترات الاستثنائية ؛ ثم تترك مكانها للمستوى الطبيعي ، وللنظام العادي ، متى انقضت فترة الضرورة الخاصة .
ومن ثم عاد القرآن الكريم - بمجرد استقرار الأحوال في المدينة شيئا ما بعد غزوة بدر ، واستتباب الأمر للدولة الإسلامية ، وقيام أوضاع اجتماعية مستقرة بعض الاستقرار ، ووجود أسباب معقولة للارتزاق ، وتوفر قدر من الكفاية للجميع على إثر السرايا التي جاءت بعد غزوة بدر الكبرى ، وبخاصة ما غنمه المسلمون من أموال بني قينقاع بعد إجلائهم . . عاد القرآن الكريم بمجرد توفر هذه الضمانات إلى إلغاء نظام المؤاخاة من ناحية الالتزامات الناشئة من الدم والنسب ، مستبقيا إياه من ناحية العواطف والمشاعر ، ليعود إلى العمل إذا دعت الضرورة . ورد الأمور إلى حالتها الطبيعية في الجماعة الإسلامية . فرد الإرث والتكافل في الديات إلى قرابة الدم والنسب - كما هي أصلا في كتاب الله القديم وناموسه الطبيعي : وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا . كان ذلك في الكتاب مسطورا . .
وقرر في الوقت ذاته الولاية العامة للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] وهي ولاية تتقدم على قرابة الدم ، بل على قرابة النفس ! : ( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ) . . وقرر الأمومة الشعورية لأزواج النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بالنسبة لجميع المؤمنين : ( وأزواجه أمهاتهم ) . .
وولاية النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ولاية عامة تشمل رسم منهاج الحياة بحذافيرها ، وأمر المؤمنين فيها إلى الرسول - عليه صلوات الله وسلامه - ليس لهم أن يختاروا إلا ما اختاره لهم بوحي من ربه : " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به " .
وتشمل مشاعرهم فيكون شخصه [ صلى الله عليه وسلم ] أحب إليهم من أنفسهم . فلا يرغبون بأنفسهم عنه ؛ ولا يكون في قلوبهم شخص أو شيء مقدم على ذاته ! جاء في الصحيح : " والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين " . وفي الصحيح أيضا أن عمر - رضي الله عنه - قال : يا رسول الله ، والله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي . فقال [ صلى الله عليه وسلم ] : " لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك " . فقال : يا رسول الله والله لأنت أحب إلي من كل شيء حتى من نفسي . فقال [ صلى الله عليه وسلم ] : " الآن يا عمر " .
وليست هذه كلمة تقال ، ولكنها مرتقى عال ، لا يصل إليه القلب إلا بلمسة لدنية مباشرة تفتحه على هذا الأفق السامي الوضيء ؛ الذي يخلص فيه من جاذبية الذات وحبها المتوشج بالحنايا والشعاب . فإن الإنسان ليحب ذاته ويحب كل ما يتعلق بها حبا فوق ما يتصور ، وفوق ما يدرك ! وإنه ليخيل إليه أحيانا أنه طوع مشاعره ، وراض نفسه ، وخفض من غلوائه في حب ذاته ، ثم ما يكاد يمس في شخصيته بما يخدش اعتزازه بها ، حتى ينتفض فجأة كما لو كانت قد لدغته أفعى ! ويحس لهذه المسة لذعا لا يملك انفعاله معه ، فإن ملكه كمن في مشاعره ، وغار في أعماقه ! ولقد يروض نفسه على التضحية بحياته كلها ؛ ولكنه يصعبعليه أن يروضها على تقبل المساس بشخصيته فيما يعده تصغيرا لها ، أو عيبا لشيء من خصائصها ، أو نقدا لسمة من سماتها ، أو تنقصا لصفة من صفاتها . وذلك رغم ما يزعمه صاحبها من عدم احتفاله أو تأثره ! والتغلب على هذا الحب العميق للذات ليس كلمة تقال باللسان ، إنما هو كما قلنا مرتقى عال لا يصل إليه القلب إلا بلمسة لدنية ؛ أو بمحاولة طويلة ومرانة دائمة ، ويقظة مستمرة ورغبة مخلصة تستنزل عون الله ومساعدته . وهي الجهاد الأكبر كما سماه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ويكفي أن عمر - وهو من هو - قد احتاج فيها إلى لفتة من النبي [ صلى الله عليه وسلم ] كانت هي اللمسة التي فتحت هذا القلب الصافي .
وتشمل الولاية العامة كذلك التزاماتهم . جاء في الصحيح . . " ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة . اقرأوا إن شئتم ( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم )فأيما مؤمن ترك مالا فليرثه عصبته من كانوا . وإن ترك دينا أو ضياعا فليأتني فأنا مولاه " . والمعنى أنه يؤدي عنه دينه إن مات وليس له مال يفي بدينه ؛ ويعول عياله من بعده إن كانوا صغارا .
وفيما عدا هذا فإن الحياة تقوم على أصولها الطبيعية التي لا تحتاج إلى مد شعوري عال ، ولا إلى فورة شعورية استثنائية . مع الإبقاء على صلات المودة بين الأولياء بعد إلغاء نظام الإخاء . فلا يمتنع أن يوصي الولي لوليه بعد مماته ؛ أو أن يهبه في حياته . . ( إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا ) . .
ويشد هذه الإجراءات كلها إلى العروة الأولى ، ويقرر أن هذه إرادة الله التي سبق بها كتابه الأزلي : ( كان ذلك في الكتاب مسطورا ) . . فتقر القلوب وتطمئن ؛ وتستمسك بالأصل الكبير الذي يرجع إليه كل تشريع وكل تنظيم .
بذلك تستوي الحياة على أصولها الطبيعية ؛ وتسير في يسر وهوادة ؛ ولا تظل معلقة مشدودة إلى آفاق لا تبلغها عادة إلا في فترات استثنائية محدودة في حياة الجماعات والأفراد .
ثم يستبقي الإسلام ذلك الينبوع الفياض على استعداد للتفجر والفيضان ، كلما اقتضت ذلك ضرورة طارئة في حياة الجماعة المسلمة .
وقوله تعالى : { النبي أولى بالمؤمنين } الآية أزال الله تعالى بها أحكاماً كانت في صدر الإسلام منها : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي على ميت عليه دين ، فذكر الله تعالى أنه { أولى بالمؤمنين من أنفسهم } فجمع هذا أن المؤمن يلزم أن يحب النبي أكثر من نفسه حسب حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه{[9455]} ، ويلزمه أن يمتثل أوامره أحبت نفسه ذلك أو كرهت ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزلت هذه الآية : «أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، من ترك مالاً فلورثته ، ومن ترك ديناً أو ضياعاً ، فعلي ، أنا وليه ، اقرؤوا إن شئتم { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم }{[9456]} » ، وقال بعض العلماء العارفين هو أولى بهم من أنفسهم لأن أنفسهم تدعوهم إلى الهلاك وهو يدعوهم إلى النجاة .
قال الفقيه الإمام القاضي : ويؤيد هذا قوله عليه السلام «أنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تقتحمون فيها تقحم الفراش »{[9457]} .
وشرف تعالى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بأن جعلهن أمهات المؤمنين في حرمة النكاح وفي المبرة وحجبهن رضي الله عنهن بخلاف الأمهات ، قال مسروق قالت امرأة لعائشة رضي الله عنها : يا أمه ، فقالت لست لك بأم وإنما أنا أم رجالكم . وفي مصحف أبيّ بن كعب «وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم » ، وقرأ ابن عباس «من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه أمهاتهم » ، وسمع عمر هذه القراءة فأنكرها ، فقيل له إنها في مصحف أبيّ فسأله فقررها أبيّ وأغلظ لعمر ، وقد قيل في قول لوط عليه السلام : { هؤلاء بناتي }{[9458]} [ هود : 78 ] إنما أراد المؤمنات ، أي تزوجوهن .
ثم حكم تعالى بأن أولي الأرحام أحق مما كانت الشريعة قررته من التوارث بأخوة الإسلام وبالهجرة ، فإنه كان بالمدينة توارث في صدر الإسلام بهذين الوجهين{[9459]} ، اختلفت الرواية في صفته وليس لمعرفته الآن حكم فاختصرته ، ورد الله تعالى المواريث على الأنساب الصحيحة ، وقوله تعالى : { في كتاب الله } يحتمل أن يريد القرآن ، ويحتمل أن يريد اللوح المحفوظ ، وقوله تعالى : { من المؤمنين } متعلق ب { أولى } الثانية{[9460]} ، وهذه الأخوة والهجرة التي ذكرنا ، وقوله تعالى : { إلا أن تفعلوا } يريد الإحسان في الحياة والصلة والوصية عند الموت ، قاله قتادة والحسن وعطاء وابن الحنيفة ، وهذا كله جائز أن يفعل مع الولي على أقسامه ، والقريب الكافر يوصي له بوصية{[9461]} ، واختلف العلماء هل يجعل هو وصياً ، فجوز بعض ومنع بعض ورد النظر في ذلك إلى السلطان بعض ، منهم مالك بن أنس رضي الله عنه ، وذهب مجاهد وابن زيد والرماني وغيره إلى أن المعنى إلى أوليائكم من المؤمنين .
قال القاضي أبو محمد : ولفظ الآية يعضد هذا المذهب ، وتعميم لفظ الولي أيضاً حسن كما قدمناه ، إذ ولاية النسب لا تدفع في الكافر ، وإنما يدفع أن يلقى إليه بالمودة كولي الإسلام .
و { الكتاب } الذي سطر ذلك فيه يحتمل الوجهين اللذين ذكرنا ، و { مسطوراً } من قولك سطوت الكتاب إذا أثبته إسطاراً ومنه قول العجاج :
«في الصحف الأولى التي كان سطراً{[9462]} » ،
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{النبي أولى بالمؤمنين} في الطاعة له {من أنفسهم} من بعضهم لبعض...
{وأزواجه أمهاتهم} ولا يحل لمسلم أن يتزوج من نساء النبي صلى الله عليه وسلم شيئا أبدا.
{وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله} يعني في المواريث {من المؤمنين} يعني الأنصار.
{والمهاجرين} الذين هاجروا إليهم بالمدينة...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"النبيّ" محمد "أولى بالمؤمنين"، يقول: أحقّ بالمؤمنين به من أنفسهم، أن يحكم فيهم بما يشاء من حكم، فيجوز ذلك عليهم... حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا عثمان بن عمر، قال: حدثنا فليح، عن هلال بن عليّ، عن عبد الرحمن بن أبي عمرة، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما مِنْ مُؤْمِنٍ إلاّ وأنا أوْلَى النّاسِ بِهِ فِي الدّنْيا والآخِرَةِ، اقْرَءُوا إنْ شِئْتُمْ: "النّبِيّ أوْلَى بالمُؤْمِنِينَ مِنْ أنْفُسِهِمْ "وأيّمَا مُؤْمِنٍ تَرَكَ مالاً فَلِوَرَثَتِهِ وَعَصَبَتِهِ مَنْ كانُوا، وَإنْ تَرَكَ دَيْنا أوْ ضياعا فَلْيأْتِني وأنا مَوْلاهُ»...
وقوله: "وأزْوَاجُهُ أمّهاتُهُمْ" يقول: وحرمة أزواجه حرمة أمهاتهم عليهم، في أنهن يحرم عليهن نكاحهن من بعد وفاته، كما يحرمُ عليهم نكاح أمهاتهم. عن قتادة"...وأزْوَاجُهُ أُمّهاتُهُمْ" يعظّم بذلك حقهنّ...
وقوله: "وأُولُو الأرْحامِ بَعْضُهُمْ أوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّهِ مِنَ المُؤْمِنِينَ وَالمُهاجِرِينَ" يقول تعالى ذكره: وأولو الأرحام الذين وَرّثْتُ بعضهم من بعض، هم أولى بميراث بعض من المؤمنين والمهاجرين أن يرث بعضهم بعضا، بالهجرة والإيمان دون الرحم...
عن قتادة:... لبث المسلمون زمانا يتوارثون بالهجرة، والأعرابيّ المسلم لا يرث من المهاجرين شيئا، فأنزل الله هذه الآية، فخلط المؤمنين بعضهم ببعض، فصارت المواريث بالملل...
فمعنى الكلام على هذا التأويل: وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض من المؤمنين والمهاجرين ببعضهم أن يرثوهم بالهِجرة، وقد يحتمل ظاهر هذا الكلام أن يكون من صلة الأرحام من المؤمنين والمهاجرين، أوْلى بالميراث، ممن لم يؤمن، ولم يهاجر.
وقوله: "إلاّ أنْ تَفْعَلُوا إلى أوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفا" اختلف أهل التأويل في تأويله؛ فقال بعضهم: معنى ذلك: إلاّ أن توصوا لذوي قرابتكم من غير أهل الإيمان والهجرة... وقال آخرون: بل معنى ذلك: إلاّ أن تمسكوا بالمعروف بينكم بحقّ الإيمان والهجرة والحلف، فتؤتونهم حقهم من النصرة والعقل عنهم...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أن توصوا إلى أوليائكم من المهاجرين وصية...
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب أن يقال: معنى ذلك: إلاّ أن تفعلوا إلى أوليائكم الذين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم آخَى بينهم وبينكم من المهاجرين والأنصار، معروفا من الوصية لهم، والنصرة والعقل عنهم، وما أشبه ذلك، لأن كلّ ذلك من المعروف الذي قد حثّ الله عليه عباده.
وإنما اخترت هذا القول، وقلت: هو أولى بالصواب من قيل من قال: عنى بذلك الوصية للقرابة من أهل الشرك، لأن القريب من المشرك، وإن كان ذا نسب فليس بالمولى، وذلك أن الشرك يقطع ولاية ما بين المؤمن والمشرك، وقد نهى الله المؤمنين أن يتخذوا منهم وليا بقوله: "لا تَتّخِذُوا عَدُوّي وَعَدُوّكُمْ أوْلِياءَ" وغير جائز أن ينهاهم عن اتخاذهم أولياء، ثم يصفهم جلّ ثناؤه بأنهم لهم أولياء... ومعنى الكلام: وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين، إلاّ أن تفعلوا إلى أوليائكم الذين ليسوا بأولِي أرحام منكم معروفا.
وقوله: "كانَ ذلكَ فِي الكِتابِ مَسْطُورا" يقول: كان أولو الأرحام بعضهم أولى ببعض "في كتاب الله": أي في اللوح المحفوظ "مسطورا" أي مكتوبا...
وقال آخرون: معنى ذلك: كان ذلك في الكتاب مسطورا: لا يرث المشرك المؤمن.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{النبي أولى بالمؤمنين}، يحتمل:... هو أولى أن يعظم، ويحترم، ويطاع من غيره، أو أن يكون أولى في الرحمة والشفقة لهم أي أرحم بهم، وأشفق من أنفسهم، وهو على ما وصفه من الرحمة والرأفة حين قال: {عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم} [التوبة: 128] وليس من الناس من يعز عليه ما يفعله من الإثم.
أو أن يجوز {أولى بالمؤمنين} أي أحب إليهم من أنفسهم وأولادهم محبة الاختيار والإيثار، ليس محبة الميل من القلب، لأن ميل القلب يكون بالطبع، وذكر في الخبر: (ليس يؤمن أحدكم حتى أكون أنا أحب إليه من نفسه وولده وأهله) [البخاري 15] أو كلام نحو هذا...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
قال ابن عبّاس وعطا: يعني إذا دعاهم النبيّ (عليه السلام) إلى شيء ودعتهم أنفسهم إلى شيء كانت طاعة النبيّ أولى بهم من طاعة أنفسهم...
وقال أبو بكر الورّاق: لأنّ النبيّ يدعوهم إلى العقل، وأنفسهم تدعوهم إلى الهوى.
وقال بسام بن عبدالله العراقي: لأنَّ أنفسهم تحترس من نار الدُّنيا، والنبيّ يحرسهم من نار العُقبى.
وقيل: إنّه أولى بهم في الحمل على الجهاد وبذل النفس دونه، وقالت الحكماء: لاِنَّ أنفسهم تدعوهم إلى ما فيه هلاكهم، والنبيّ يدعوهم إلى ما فيه نجاتهم.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
الإشارة من هذا: تقديم سُنته على هواك، والوقوفُ عند إشارته دون ما يتعلقُ به مُناك، وإيثار من تتوسل سبباً ونسباً على أعِزَّتِكَ ومَن والاكَ.
{وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ}: ليكن الأجانبُ منك على جانب، ولتكن صلتك بالأقارب، وصلةُ الرحِم ليست بمقاربة الديار وتعاقب المزار، ولكن بموافقة القلوب، والمساعدة في حالتي المكروه والمحبوب.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{النبي أولى بالمؤمنين} في كل شيء من أمور الدين والدنيا، وقال مجاهد: كل نبيّ فهو أبو أمّته. ولذلك صار المؤمنون إخوة؛ لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم أبوهم في الدين...
{مِنَ المؤمنين والمهاجرين} يجوز أن يكون بياناً لأولى الأرحام، أي: الأقرباء من هؤلاء بعضهم أولى بأن يرث بعضاً من الأجانب. ويجوز أن يكون لابتداء الغاية. أي: أولو الأرحام بحق القرابة أولى بالميراث من المؤمنين بحق الولاية في الدين، ومن المهاجرين بحق الهجرة.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{النبي أولى بالمؤمنين...} أزال الله تعالى بها أحكاماً كانت في صدر الإسلام منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي على ميت عليه دين، فذكر الله تعالى أنه {أولى بالمؤمنين من أنفسهم} فجمع هذا أن المؤمن يلزم أن يحب النبي أكثر من نفسه حسب حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ويلزمه أن يمتثل أوامره أحبت نفسه ذلك أو كرهت.
{وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا كان ذلك في الكتاب مسطورا} إشارة إلى الميراث، وقوله: {إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا} إشارة إلى الوصية، يعني إن أوصيتم فغير الوارثين أولى، وإن لم توصوا فالوارثون أولى بميراثكم وبما تركتم.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
"النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم"، وهذا يشمل الرجال والنساء ضرورة.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما نهى سبحانه عن التبني، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد تبنى زيد بن حارثة مولاه لما اختاره على أبيه وأمه، علل سبحانه النهي فيه بالخصوص بقوله دالاً على أن الأمر أعظم من ذلك: {النبي} أي الذي ينبئه الله بدقائق الأحوال في بدائع الأقوال، ويرفعه دائماً في مراقي الكمال، ولا يريد أن يشغله بولد ولا مال {أولى بالمؤمنين} أي الراسخين في الإيمان، فغيرهم أولى في كل شيء من أمور الدين والدنيا لما حازه من الحضرة الربانية {من أنفسهم} فضلاً عن آبائهم في نفوذ حكمه فيهم ووجوب طاعته عليهم، فهو يتصرف فيهم تصرف الآباء بل الملوك بل أعظم بهذا السبب الرباني، فأيّ حاجة له إلى السبب الجسماني.
{وأزواجه} أي اللاتي دخل بهن لما لهن من حرمته {أمهاتهم} أي المؤمنين من الرجال خاصة دون النساء، لأنه لا محذور من جهة النساء، وذلك في الحرمة والإكرام، والتعظيم والاحترام، وتحريم النكاح دون جواز الخلوة والنظر وغيرهما من الأحكام، والتعظيم بينهن وبين الأمهات في ذلك أصلاً، فلا يحل انتهاك حرمتهن بوجه ولا الدنو من جنابهن بنوع نقص، لأن حق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته أعظم من حق الوالد على ولده، وهو حي في قبره و هذا أمر جعله الله وهو الذي إذا جعل شيئاً كان، لأن الأمر أمره والخلق خلقه، وهو العالم بما يصلحهم وما يفسدهم، ولما أخبر أن هذا الحكم في كتاب الله، أعاد التنبيه على ذلك تأكيداً قلعاً لهذا الحكم الذي تقرر في الأذهان بتقريره سبحانه فيما مضى فقال مستأنفاً: {كان ذلك} أي الحكم العظيم {في الكتاب} أي القرآن في آخر سورة الأنفال {مسطوراً} بعبارة تعمه.
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
خلاصة ذلك: إنه تعالى علم شفقة رسوله صلى الله عليه وسلم على أمته، وشدة نصحه لهم، فجعله أولى بهم من أنفسهم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
بعد ذلك يقرر إبطال نظام المؤاخاة كما أبطل نظام التبني، ونظام المؤاخاة لم يكن جاهليا؛ إنما هو نظام استحدثه الإسلام بعد الهجرة، لمواجهة حالة المهاجرين الذين تركوا أموالهم وأهليهم في مكة؛ ومواجهة الحالة كذلك بين المسلمين في المدينة ممن انفصلت علاقاتهم بأسرهم نتيجة لإسلامهم.. وذلك مع تقرير الولاية العامة للنبي [صلى الله عليه وسلم] وتقديمها على جميع ولايات النسب؛ وتقرير الأمومة الروحية بين أزواجه [صلى الله عليه وسلم] وجميع المؤمنين.
وولاية النبي [صلى الله عليه وسلم] ولاية عامة تشمل رسم منهاج الحياة بحذافيرها، وأمر المؤمنين فيها إلى الرسول -عليه صلوات الله وسلامه- ليس لهم أن يختاروا إلا ما اختاره لهم بوحي من ربه:"لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به".
وتشمل مشاعرهم فيكون شخصه [صلى الله عليه وسلم] أحب إليهم من أنفسهم. فلا يرغبون بأنفسهم عنه؛ ولا يكون في قلوبهم شخص أو شيء مقدم على ذاته! جاء في الصحيح: "والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين". وفي الصحيح أيضا أن عمر -رضي الله عنه- قال: يا رسول الله، والله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي. فقال [صلى الله عليه وسلم]: "لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك". فقال: يا رسول الله والله لأنت أحب إلي من كل شيء حتى من نفسي. فقال [صلى الله عليه وسلم]:"الآن يا عمر".
وليست هذه كلمة تقال، ولكنها مرتقى عال، لا يصل إليه القلب إلا بلمسة لدنية مباشرة تفتحه على هذا الأفق السامي الوضيء؛ الذي يخلص فيه من جاذبية الذات وحبها المتوشج بالحنايا والشعاب. أو بمحاولة طويلة ومرانة دائمة، ويقظة مستمرة ورغبة مخلصة تستنزل عون الله ومساعدته. وهي الجهاد الأكبر كما سماه رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ويكفي أن عمر -وهو من هو- قد احتاج فيها إلى لفتة من النبي [صلى الله عليه وسلم] كانت هي اللمسة التي فتحت هذا القلب الصافي.
وتشمل الولاية العامة كذلك التزاماتهم. جاء في الصحيح.. والمعنى أنه يؤدي عنه دينه إن مات وليس له مال يفي بدينه؛ ويعول عياله من بعده إن كانوا صغارا.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والأنفس: الذوات، أي: هو أحق بالتصرف في شؤونهم من أنفسهم في تصرفهم في شؤونهم، ويجوز أن يكون المراد بالأنفس مجموع نوعهم كقوله: {إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم} [آل عمران: 164]، ويجوز أن يكون المراد بالأنفس الناس. والمعنى: أنه أولى بالمؤمنين من ولاية بعضهم لبعض، أي: من ولاية جميعهم لبعضهم على نحو قوله تعالى: {ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم} [البقرة: 85]، أي: يقتل بعضكم بعضاً، وقوله: {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً} [النساء: 29]، والوجه الأول أقوى وأعمّ في اعتبار حرمة النبي صلى الله عليه وسلم؛ وهو يفيد أولويته بمن عدا الأنفس من المؤمنين بدلالة فحوى الخطاب.
والمراد بأزواجه اللآتي تزوجهنّ بنكاح فلا يدخل في ذلك ملك اليمين، وقد قال الصحابة يوم قريظة حين تزوج النبي صلى الله عليه وسلم صفية بنت حيّي: أهي إحدى ما ملكت يمينه أم هي إحدى أمهات المؤمنين؟ فقالوا: ننظر، فإذا حجبها فهي إحدى أمهات المؤمنين وإذا لم يحجبها فهي ما ملكت يمينه، فلما بنى بها ضرب عليها الحجاب، فعلموا أنها إحدى أمهات المؤمنين، ولذلك لم تكن مارية القبطية إحدى أمهات المؤمنين، ويشترط في اعتبار هذه الأمومة أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم بنى بالمرأة، فأما التي طلقها قبل البناء مثل الجَونية وهي أسماء بنت النعمان الكِندية فلا تعتبر من أمهات المؤمنين.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
والظاهر من سياق الآية أنها لا تتحدث عن جانب التعاطف الذي يكلِّف المسلمين بتقديم أنفسهم فداءً عن نفسه إذا دار الأمر بينهم وبينه، وليست في مقام الأمر بطاعتهم له، أو في مقام تفضيل حكمه على حكم بعضهم على بعض، بل هي في مقام إثبات الولاية له عليهم، بحيث يملك منهم ما لا يملكونه من أنفسهم، لتأكيد جانب الحاكمية عليهم من قِبَله في ما جعله الله له من ولاية إلى جانب ما جعله له من النبوّة، وذلك من خلال التعبير عن المسألة من خلال فاعليته فيهم وسلطته عليهم بأكثر من سلطتهم على أنفسهم.