الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{ٱلنَّبِيُّ أَوۡلَىٰ بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ مِنۡ أَنفُسِهِمۡۖ وَأَزۡوَٰجُهُۥٓ أُمَّهَٰتُهُمۡۗ وَأُوْلُواْ ٱلۡأَرۡحَامِ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلَىٰ بِبَعۡضٖ فِي كِتَٰبِ ٱللَّهِ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُهَٰجِرِينَ إِلَّآ أَن تَفۡعَلُوٓاْ إِلَىٰٓ أَوۡلِيَآئِكُم مَّعۡرُوفٗاۚ كَانَ ذَٰلِكَ فِي ٱلۡكِتَٰبِ مَسۡطُورٗا} (6)

قوله عزّ وجلّ : { النَّبِيُّ أَوْلَى } أحقّ { بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } أنْ يحكم فيهم بما شاء فيجوز حكمه عليهم .

قال ابن عبّاس وعطا : يعني إذا دعاهم النبيّ ( عليه السلام ) إلى شيء ودعتهم أنفسهم إلى شيء كانت طاعة النبيّ أولى بهم من طاعة أنفسهم ، وقال مقاتل : يعني طاعة النبي ( عليه السلام ) أولى من طاعة بعضكم لبعض ، وقال ابن زيد : النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ كما أنتَ أولى بعبدك ، فما قضى فيهم من أمر ، جار ، كما أنّ كلّ ما قضيت على عبدك جار . وقيل : إنّه ( عليه السلام ) أولى بهم في امضاء الأحكام وإقامة الحدود عليهم لما فيه من مصلحة الخلق والبعد من الفساد . وقيل : إنّه أولى بهم في الحمل على الجهاد وبذل النفس دونه ، وقالت الحكماء : النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ، لاِنَّ أنفسهم تدعوهم إلى ما فيه هلاكهم ، والنبيّ يدعوهم إلى ما فيه نجاتهم ، وقال أبو بكر الورّاق : لأنّ النبيّ يدعوهم إلى العقل ، وأنفسهم تدعوهم إلى الهوى ، وقال بسام بن عبدالله العراقي : لأنَّ أنفسهم تحترس من نار الدُّنيا ، والنبيّ يحرسهم من نار العُقبى .

وروى سُفيان عن طلحة عن عطاء عن ابن عبّاس أنّه كان يقرأ { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } وهو أب لهم .

وروى سفيان عن عمرو عن بجالة أو غيره قال : مَرَّ عمر بن الخطّاب بغلام وهو يقرأ في المصحف { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ، وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُم } وهو أب لهم . فقال : يا غلام حُكّها . قال : هذا مصحف أبي ، فذهب إليه فسأله ، فقال : إنّه كان يلهيني القرآن ويُلهيكَ الصفق في الأسواق . وقال عكرمة : أُخبرت أنّه كان في الحرف الأوّل : وهو أبوهم .

أخبرني أبو عبد الله بن فنجويه الدينوري قال : أخبرني أبو بكر بن مالك القطيعي ، عن عبد الله بن أحمد بن حنبل ، عن أبي قال : أخبرني أبو عامر وشريح قالا : قال [ فليح ] بن سليمان ، عن هلال بن علي عن عبد الرحمن بن أبي عميرة ، عن النبيّ صلّى الله عليه ، قال : " ما من مؤمن إلاّ وأنا أولى به في الدنيا والآخرة ، اقرؤا إن شئتم { النَّبِىُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ } فأيّما مؤمن هلك وترك مالاً فليرثه عصبته مَنْ كانوا ، وإن ترك دَيناً أو ضياعاً فليأتني فإنّي أنا مولاه " .

{ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } يعني كأُمّهاتهم في الحرمة ، نظيره قوله تعالى : { وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ } أي كالسماوات ، وإنّما أراد الله تعالى تعظيم حقّهن وحرمتهن ، وإنّه لا يجوز نكاحهن لا في حياة النبيّ صلّى الله عليه إنْ طلّق ولا بعد وفاته ، هنّ حرام على كلّ مؤمن كحرمة أُمّهِ ، ودليل هذا التأويل أنَّه لا يحرم على الولد رؤية الأُمّ ، وقد حرّم الله رؤيتهنّ على الأجنبيين ، ولا يرثنّهم ولا يرثونهنّ ، فعلموا أنّهن أُمّهات المؤمنين من جهة الحرمة ، وتحريم نكاحهنّ عليهم .

روى سفيان ، عن خراش ، عن الشعبي ، عن مسروق قال : قالت امرأة لعائشة : يا أُمّاه ، فقالت : أنا لستُ بأُمَ لكِ إنّما أنا أُمّ رجالكم .

قوله : { وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ } يعني في الميراث .

قال قتادة : كان المسلمون يتوارثون بالهجرة ، وكان لا يرث الأعرابي المسلم من المهاجر شيئاً ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وخلط المؤمنين بعضهم ببعض فصارت المواريث بالملك والقرابات .

وقال الكلبي : آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الناس ، وكان يؤاخي بين الرجلين ، فإذا مات أحدهما ورثه الباقي منهما دون عصبته وأهله ، فمكثوا بذلك ما شاء الله حتّى نزلت هذه الآية : { وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ } { فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } الذين آخى رسول الله بينهم { وَالْمُهَاجِرِينَ } فنسخت هذه الآية الموارثة بالمؤاخاة والهجرة ، وصارت للأدنى فالأدنى من القرابات ، وقيل : أراد إثبات الميراث بالإيمان والهجرة .

ثمّ قال : { إِلاَّ أَن تَفْعَلُواْ إِلَى أَوْلِيَآئِكُمْ مَّعْرُوفاً } يعني : إلاّ أَنْ توصوا لذوي قرابتكم من المشركين فتجوز الوصية لهم ، وإنْ كانوا من غير أهل الإيمان والهجرة ، وهذا قول محمد بن الحنفية وقتادة وعطاء وعكرمة . وقال ابن زيد ومقاتل : يعني : إلاّ أنْ توصوا لاِوليائكم من المهاجرين . وقال مجاهد : أراد بالمعروف النُصرة وحفظ الحرمة لحقّ الإيمان والهجرة { كَانَ ذَلِكَ } الذي ذكرت من أنَّ أُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْض ، وأنَّ المشرك لا يرث المسلم { فِي الْكِتَابِ } في اللوح المحفوظ { مَسْطُوراً } مكتوباً . وقال القرظي : في التوراة .