التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي  
{ٱلنَّبِيُّ أَوۡلَىٰ بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ مِنۡ أَنفُسِهِمۡۖ وَأَزۡوَٰجُهُۥٓ أُمَّهَٰتُهُمۡۗ وَأُوْلُواْ ٱلۡأَرۡحَامِ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلَىٰ بِبَعۡضٖ فِي كِتَٰبِ ٱللَّهِ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُهَٰجِرِينَ إِلَّآ أَن تَفۡعَلُوٓاْ إِلَىٰٓ أَوۡلِيَآئِكُم مَّعۡرُوفٗاۚ كَانَ ذَٰلِكَ فِي ٱلۡكِتَٰبِ مَسۡطُورٗا} (6)

ثم بين - سبحانه - ما يجب على المؤمنين نحو نبيهم صلى الله عليه وسلم ونحو أزواجه ، وما يجب للأقارب فيها بينهم ، فقال - تعالى - : { النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ . . . } .

أى : النبى صلى الله عليه وسلم أحق بالمؤمنين بهم من أنفسهم وأولى فى المحبة والطاعة ، فإذا ما دعاهم إلى أمر ، ودعتهم أنفسهم إلى خلافه ، وجب أن يؤثروا ما دعاهم إليه ، على ما تدعوهم إليه أنفسهم ، لأنه صلى الله علي وسلم لا يدعوهم إلا إلى ما ينفعهم ، أما أنفسهم فقد تدعوهم إلى ما يضرهم .

وفى الحديث الصحيح الذى رواه الإِمام مسلم عن أبى هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن مثلى ومثل أمتى ، كمثل رجل استوقد نارا ، فجعلت الدواب والفراش يقعن فيه - أى فى الشئ المستوقد - وأنا آخذ بِحُجزكم - أى : وأنا آخذ بما يمنعكم من السقوط كملابسكم ومعاقد الإِزار - وأنتم تقحمون فيه " أى : وأنتم تحاولون الوقوع فيما يحرقكم - . قال القرطبى : قال العلماء : الحجزة : السراويل ، والمعقد للإِزار ، فإذا أراد الرجل إمساك من يخاف سقوطه أخذ بذلك الموضع منه ، وهذا مثل لاجتهاد نبينا صلى الله عليه وسلم فى نجاتنا ، وحرصه على تخليصنا من الهلكات التى بين أيدينا ، فهو أولى بنا من أنفسنا .

وقال الإِمام ابن كثير . قد علم الله - تعالى - شفقة رسوله صلى الله عليه وسلم على أمته ، ونصحه لهم : فجعله أولى بهم من أنفسهم ، وحكمه فيهم مقدما على اختيارهم لأنفسهم .

وفى الصحيح " والذى نفسى بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين " .

وروى البخارى عن هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به فى الدنيا والآخرة . اقرءوا إن شئتم : { النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ } فأيما مؤمن ترك مالا فليرثه عصبته من كانوا ، فإن ترك دينا أو ضياعا فليأتنى فأنا مولاه " .

وروى الإِمام أحمد عن جابر عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول : " أنا أولى بكل مؤمن من نفسه فأيما رجل مات وترك دينا فإلى ، ومن ترك مالا فلورثته " .

وقال الآلوسى : وإذا كان صلى الله عليه وسلم بهذه المثابة فى حق المؤمنين ، يجب عليهم أن يكون أحب إليهم من أنفسهم ، وحكمه - عليه الصلاة والسلام - عليهم أنفذ من حكمها ، وحقه آثر لديهم من حقوقها ، وشفقتهم عليه أقدم من شفقتهم عليها .

وسبب نزول الآية - على ما قيل - ما روى من أنه صلى الله عليه وسلم أراد غزوة تبوك ، فأمر الناس بالخروج : فقال أناس منهم : نستأذن آباءنا وأمهاتنا فنلزت . ووجه دلالتها على السبب أنه صلى الله عليه وسلم إذا كان أولى من أنفسهم ، فهو أولى من الأبوين بالطريق الأولى .

ثم بين - سبحانه - منزلة أزواجه صلى الله عليه وسلم بالنسبة للمؤمنين فقال : { وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } أى : وأزواجه صلى الله عليه وسلم بمنزلة أمهاتكم - أيها المؤمنون - فى الاحترام والإِكرام ، وفى حرمة الزواج بهن .

قالوا : وأما ما عدا ذلك كالنظر إليهن ، والخلوة بهن ، وإرثهن . فهن كالأجنبيات .

ثم بين - سبحانه - أن التوارث إنما يكون بين الأقارب فقال - تعالى - { وَأُوْلُو الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله مِنَ المؤمنين والمهاجرين إِلاَّ أَن تفعلوا إلى أَوْلِيَآئِكُمْ مَّعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِي الكتاب مَسْطُوراً } .

والمراد بأولى الأرحام : الأقارب الذين تربط بينهم رابطة الرحم كالآباء والأبناء والإِخوة ، والأخوات .

وقوله : { فِي كِتَابِ الله } متعلق بقوله { أولى } أو بمحذوف على أنه حال من الضمير فى { أولى } .

والمراد بالمؤمنين والمهاجرين . من لا تربط بينهم وبين غيرهم رابطة قرابة .

قال ابن كثير : وقد أورد ابن أبى حاتم عن الزبير بن العوام قال : أنزل الله - عز وجل - فينا خاصة معشر قريش والأنصار : { وَأُوْلُو الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ } وذلك أنا معشر قريش ، لما قدمنا المدينة قدمناه ولا أموال لنا ، فوجدنا الأنصار نعم الإِخوان ، فواخيناهم ووارثناهم . . حتى أنزل الله هذه الآية فينا معشر قريش والأنصار خاصة ، فرجعنا إلى مواريثنا .

وشبيه بهذه الآية فى وجوب أن يكون التوارث بحسب قرابة الدم ، قوله - تعالى - فى آخر آية من سورة الأنفال : { والذين آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فأولئك مِنكُمْ وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } والاستثناء فى قوله - سبحانه - : { إِلاَّ أَن تفعلوا إلى أَوْلِيَآئِكُمْ مَّعْرُوفاً } رجح بعضهم أنه استثناء منقطع . وقوله { أَن تفعلوا } مبتدأ ، وخبره محذوف .

والمراد بالكتاب فى قوله { كَانَ ذَلِكَ فِي الكتاب مَسْطُوراً } القرآن الكريم ، أو اللوح المحفوظ .

والمعنى : وأولو الأرحام وهم الأقارب ، بعضهم أولى ببعض فى التوارث فيما بينهم ، وفى تبادل المنافع بعضهم مع بعض ، وهذه الأولية والأحقية ثابتة فى كتاب الله - تعالى - حيث بين لكم فى آيات المواريث التى بسورة النساء ، كيفية تقسيم التركة بين الأقارب ، وهم بهذا البيان أولى فى ميراث الميت من المؤمنين والمهاجرين الذين لا تربطهم بالميت صلة القرابة .

هذا هو حكم الشرع فيما يتعلق بالتوارث ، لكن إذا أردتم - أيها المؤمنون - أن تقدموا إلى غير أقاربكم من المؤمنين معروفا ، كأن توصوا له ببعض المال فلا بأس ، ولا حرج عليكم فى ذلك .

وهذا الحكم الذى بيناه لكم فيما يتعلق بالتوارث بين الأقارب ، كان مسطورا ومكتوبا فى اللوح المحفوظ ، وفى آيات القرآن التى سبق نزولها ، فاعملوا بما شرعناه لكم ، واتركوا ما نهيناكم عنه .

قال الشوكانى ما ملخصه : قوله : { إِلاَّ أَن تفعلوا إلى أَوْلِيَآئِكُمْ مَّعْرُوفاً } هذا الاستثناء إما متصل من أعم العام ، والتقدير : وأولو الأرحام بعضهم اولى ببعض فى كل شئ من الإِرث وغيره ، إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا ، من صدقة أو وصية ، فإن ذلك جائز .

وإما منقطع . والمعنى : لكن فعل المعروف للأولياء لا بأس به .

والإِشارة بقوله : { كَانَ ذَلِكَ } تعود إلى ما تقدم ذكره . أى : كان نسخ الميراث بالهجرة والمخالفة والمعاقدة ، ورده إلى ذوى الأرحام من القرايات { فِي الكتاب مَسْطُوراً } أى : فى اللوح المحفوظ ، أو فى القرآن مكتوبا .

وبذلك نرى الآية الكريمة قد وضحت ما يجب على المؤمنين نحو نبيهم ، وما يجب عليهم نحو أزواجه ، وما يجب عليهم نحو أقاربهم فيما يتعلق بالتوارث .