فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{ٱلنَّبِيُّ أَوۡلَىٰ بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ مِنۡ أَنفُسِهِمۡۖ وَأَزۡوَٰجُهُۥٓ أُمَّهَٰتُهُمۡۗ وَأُوْلُواْ ٱلۡأَرۡحَامِ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلَىٰ بِبَعۡضٖ فِي كِتَٰبِ ٱللَّهِ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُهَٰجِرِينَ إِلَّآ أَن تَفۡعَلُوٓاْ إِلَىٰٓ أَوۡلِيَآئِكُم مَّعۡرُوفٗاۚ كَانَ ذَٰلِكَ فِي ٱلۡكِتَٰبِ مَسۡطُورٗا} (6)

{ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ } أي هو أحق بهم ، وأرأف ، وأشفق في كل ما دعاهم إليه من أمور الدين والدنيا ، فإن نفوسهم تدعوهم إلى ما فيه هلاكهم ، وهو يدعوهم إلى ما فيه نجاتهم ، فيجب عليهم أن يؤثروه بما أراده من أموالهم ، وإن كانوا محتاجين إليها ، ويجب عليهم أن يحبوه زيادة على حبهم أنفسهم ، ويجب عليهم أن يقدموا حكمه عليهم على حكمهم لأنفسهم . وبالجملة فإذا دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم لشيء ودعتهم أنفسهم إلى غيره ، وجب عليهم أن يقدموا ما دعاهم إليه ويؤخروا ما دعتهم أنفسهم إليه ، ويجب عليهم أن

يطيعوا فوق طاعتهم لأنفسهم ويقدموا طاعته على ما تميل إليه أنفسهم وتطلبه خواطرهم .

وقيل : المراد بأنفسهم في الآية بعضهم فيكون المعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم أولى بالمؤمنين من بعضهم ببعض ، وقيل هي خاصة بالقضاء أي هو أولى بهم من أنفسهم فيما قضى بينهم ، وقيل أولى بهم في الجهاد بين يديه وبذل النفس دونه . وقيل : أولى بهم أي أرأف بهم وأعطف عليهم وأنفع لهم كقوله بالمؤمنين رؤوف رحيم .

وفي قراءة ابن مسعود ( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم ) وقال مجاهد : كل نبي أبو أمته ولذلك صار المؤمنون إخوة لأن النبي صلى الله عليه وسلم أبوهم في الدين ، والأول أولى .

وقد أخرج البخاري وغيره عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة اقرأوا إن شئتم : { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم } فأيما مؤمن ترك مالا فلترثه عصبته من كانوا فإن ترك دينا أو ضياعا فليأتني فأنا مولاه ) .

وقد ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين ) .

وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والنسائي عن بريدة قال : غزوت مع علي اليمن فرأيت منه جفوة ، فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرت عليا فنقصته فرأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم تغير وقال : يا بريدة ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم قلت بلى يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من كنت مولاه فعلي مولاه ) .

{ وَأَزْوَاجُهُ } صلى الله عليه وسلم سواء دخل بهن أو لا وسواء مات عنهن أو طلقهن { أُمَّهَاتُهُمْ } أي مثل أمهاتهم في الحكم بالتحريم ومنزلات منزلتهن في استحقاق التعظيم ، فلا يحل لأحد أن يتزوج بواحدة منهن ، كما لا يحل له أن يتزوج بأمه ، فهذه الأمومة مختصة بتحريم النكاح لهن تحريما مؤبدا ، وبالتعظيم لجنابهن لا في النظر إليهن ، والخلوة بهن فإنه حرام في حقهن ، كما في حق سائر الأجانب ، وتخصيص المؤمنين يدل على أنهن لسن أمهات نساء{[1376]} المؤمنين ، ولا بناتهن أخوات المؤمنين ولا إخوتهن أخوال المؤمنين .

وقال القرطبي : الذي يظهر لي أنهن أمهات الرجال والنساء تعظيما لحقهن على الرجال والنساء كما يدل عليه قوله : { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم } وهذا يشمل الرجال والنساء ضرورة ، قال : ثم إن في مصحف أبي بن كعب وأزواجه أمهاتهم ، وهو أب لهم ، وقرأ ابن عباس بعد لفظ أنفسهم ، وهو أب وأزواجه أمهاتهم .

عن عائشة أن امرأة قالت لها يا أمه ، فقالت : ( أنا أم رجالكم ولست أم نسائكم ) . وعن أم سلمة قالت أنا : ( أم الرجال منكم والنساء ) .

وعن بجالة قال : مر عمر بن خطاب بغلام وهو يقرأ في المصحف : وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم ، فقال : يا غلام حكها ، فقال : هذا مصحف أبي فذهب إليه فسأله ، فقال : إنه كان يلهيني القرآن ويلهيك الصفق في الأسواق وهن فيما وراء ذلك كالإرث ونحوه كالأجنبيات – ولهذا لم يتعد التحريم إلى بناتهن ثم بين سبحانه أن القرابة أولى ببعضهم البعض فقال :

{ وَأُوْلُو الأَرْحَامِ } جمع رحم وهو القرابة { بَعْضُهُمْ أَوْلَى } أي أحق { بِبَعْضٍ } في الميراث ، وقد تقدم تفسير هذه الآية في آخر سورة الأنفال وهي ناسخة لما كان في صدر الإسلام من التوارث بالهجرة والموالاة . قال قتادة : لما نزل قوله سبحانه في سورة الأنفال { والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولا يتهم من شيء حتى يهاجروا } فتوارث المسلمون بالهجرة ثم نسخ ذلك بهذه الآية ، وكذا قال غيره .

ويحتمل أن يكون النسخ بآية الأنفال وهو قوله { وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ } قال الشهاب : وهذا الاحتمال أولى ، لأن سورة الأنفال متقدمة نزولا على هذه السورة فنسبة النسخ إليها أولى ، وتكون هذه الآية مؤكدة لتلك ، وقيل إن هذه الآية ناسخة للتوارث بالحلف والمؤاخاة في الدين ، وقيل معنى الآية لا توارث بين المسلم والكافر ولا بين المهاجر وغير المهاجر .

{ فِي كِتَابِ اللهِ } أي هذه الأولوية وهذا الاستحقاق كائن وثابت فيه والمراد بالكتاب اللوح المحفوظ أو القرآن ، أو آية المواريث { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ } المعنى إن ذوي القرابات من المؤمنين والمهاجرين بعضهم أولى ببعض ، أو أولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض من المؤمنين والمهاجرين الذين هم أجانب .

وقيل إن معنى الآية : { وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ } إلا ما يجوز لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم من كونهن كالأمهات في تحريم النكاح ، وفي هذا من الضعف ما لا يخفى { إِلا } هذا الاستثناء إما متصل من أعم العام ، والتقدير أولى ببعض في كل شيء من الإرث وغيره إلا .

{ أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفًا } من صدقة أو وصية فإن ذلك جائز ، قال قتادة ، والحسن ، وعطاء ، ومحمد بن الحنفية قال ابن الحنفية نزلت في إجازة الوصية لليهودي والنصراني ، فالكافر ولي في النسب لا في الدين فتجوز الوصية له ، قال في الخازن : إن الله لما نسخ التوارث بالحلف ، والإخاء ، والهجرة ، أباح أن يوصي الرجل لمن تولاه بما أحب من ثلث ماله ، ويجوز أن يكون الاستثناء منقطعا ، والمعنى لكن فعل المعروف للأولياء لا بأس به وضمن ( تفعلوا ) معنى توصلوا أو تسدوا ، فعدي بإلي . وقال مجاهد : أراد بالمعروف النصرة وحفظ الحرمة بحق الإيمان والهجرة { كَانَ ذَلِكَ } أي نسخ الميراث بالهجرة والمحالفة والمعاقدة ورده إلى ذوي الأرحام من القرابات { فِي الْكِتَابِ } أي في اللوح المحفوظ ، أو في التوراة أو في القرآن { مَسْطُورًا } مكتوبا .


[1376]:إن أبسط مبادئ اللغة تقتضي شمول الذكران والإناث للتغليب، وهي قضية من البداهة حيث لا تحتاج إلى هذه الفنقيلات اللجوج فإذا قال الله {يا أيها الذين آمنوا} تناول نداؤه اللائي آمن، وإذا قال: (إنما المؤمنون إخوة) دل على إخوة المؤمنات فأزواجه صلى الله عليه وآله وسلم أمهات المؤمنات كما هن أمهات ذكران المؤمن. المطيعي.