محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{ٱلنَّبِيُّ أَوۡلَىٰ بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ مِنۡ أَنفُسِهِمۡۖ وَأَزۡوَٰجُهُۥٓ أُمَّهَٰتُهُمۡۗ وَأُوْلُواْ ٱلۡأَرۡحَامِ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلَىٰ بِبَعۡضٖ فِي كِتَٰبِ ٱللَّهِ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُهَٰجِرِينَ إِلَّآ أَن تَفۡعَلُوٓاْ إِلَىٰٓ أَوۡلِيَآئِكُم مَّعۡرُوفٗاۚ كَانَ ذَٰلِكَ فِي ٱلۡكِتَٰبِ مَسۡطُورٗا} (6)

{ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ } أي في كل شيء من أمور الدين والدنيا . فيجب عليهم أن يكون أحب إليهم من أنفسهم ، وحكمه أنفذ عليهم من حكمها ، وحقه آثر لديهم من حقوقها ، وشفقتهم عليه أقدم من شفقتهم عليها . وأن يبذلوها دونه ، ويجعلوها فداءه إذا أعضل خطب ، ووقاءه إذا لحقت حرب . وأن لا يتبعوا ما تدعوهم إليه نفوسهم ، ولا ما تصرفهم عنه . ويتبعوا كل ما دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصرفهم عنه ، لأن كل ما دعا إليه فهو إرشاد لهم إلى نيل النجاة والظفر بسعادة الدارين . وما صرفهم عنه ، فأخذ بحجزهم لئلا يتهافتوا فيما يرمي بهم إلى الشقاوة وعذاب النار . أفاده الزمخشري :

وهذا كما قال تعالى {[6134]} : { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما } وفي ( الصحيح ) : ( والذي نفسي بيده ! لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين ) . { وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } أي في وجوب تعظيمهن واحترامهن ، وتحريم نكاحهن . وفيما عدا ذلك كالأجنبيات ، ولذا لما قال ابن كثير : ولكن لا تجوز الخلوة بهن . ولا ينتشر التحريم إلى بناتهن وأخواتهن بالإجماع . وإن سمى بعض العلماء بناتهن ، أخوات المؤمنين ، كما هو منصوص الشافعي رضي الله عنه في ( المختصر ) وهو من باب إطلاق العبارة ، لا إثبات الحكم . وهو يقال لمعاوية وأمثاله ، خال المؤمنين ، فيه قولان : وعن الشافعي : أنه يقال ذلك . وهل يقال له صلى الله عليه وسلم : أبو المؤمنين ، فيه قولان : فصح عن عائشة المنع ، وهو أصح الوجهين للشافعية لقوله تعالى : { ما كان محمد أبا أحد من رجالكم } وروي عن أبي بن كعب وابن عباس رضي الله عنهما ، أنهما قرآ : { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم } . وروي نحو هذا عن معاوية ومجاهد وعكرمة والحسن . واستأنسوا عليه بالحديث الذي رواه أبو داود {[6135]} عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنما أنا لكم بمنزلة الوالد ، أعلمكم . فإذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها ولا يستطيب بيمينه ) . أفاده ابن كثير .

{ وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ } أي ذوو القرابات { بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ } أي فيما فرضه ، أو فيما أوحاه إلى نبيه عليه السلام { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ } بيان لأولي الأرحام أو صلة ل { أولي } { إِلَّا أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم } أي إخوانكم المؤمنين والمهاجرين غير الرحم { مَّعْرُوفًا } أي من صدقة ومواساة وهدية ووصية . فإن بسط اليد في المعروف مما حث الله عباده عليه ، ويشارك فيه مع ذوي القربى غيرهم .

تنبيه :

قال في ( الإكليل ) : استدل بقوله تعالى : { وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ } الآية ، من ورث ذوي الأرحام . انتهى .

وهو استدلال متين . وليس مع المخالف ما يقاومه . بل فهم كثيرون أن المعني بها ، أن القرابات أولى بالتوارث من المهاجرين والأنصار ، وأنها ناسخة لما كان قبلها من التوارث بالحلف والمؤاخاة ، التي كانت بينهم . ذهابا إلى ما روي عن الزبير وابن عباس : ( أن المهاجري كان يرث الأنصاري ، دون قربانه وذوي رحمه . للأخوة التي آخى بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم . حتى أنزل الله الآية . فرجعنا إلى مواريثنا ) .

إلا أن الاستدلال بذلك هو من عموم الأولوية . لا أنها خاصة بالمدعي فيها ، كما أسلفنا بيانه مرارا { كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا } أي في القرآن . أو في قضائه وحكمه وما كتبه وفرضه ، مقررا لا يعتريه تبديل ولا تغيير .


[6134]:(4 / النساء / 65).
[6135]:أخرجه في: 1 - كتاب الطهارة 4 – باب كراهية استقبال القبلة عند قضاء الحاجة، حديث رقم 8.