فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{ٱلنَّبِيُّ أَوۡلَىٰ بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ مِنۡ أَنفُسِهِمۡۖ وَأَزۡوَٰجُهُۥٓ أُمَّهَٰتُهُمۡۗ وَأُوْلُواْ ٱلۡأَرۡحَامِ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلَىٰ بِبَعۡضٖ فِي كِتَٰبِ ٱللَّهِ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُهَٰجِرِينَ إِلَّآ أَن تَفۡعَلُوٓاْ إِلَىٰٓ أَوۡلِيَآئِكُم مَّعۡرُوفٗاۚ كَانَ ذَٰلِكَ فِي ٱلۡكِتَٰبِ مَسۡطُورٗا} (6)

ثم ذكر سبحانه لرسوله مزية عظيمة وخصوصية جليلة لا يشاركه فيها أحد من العباد فقال : { النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ } أي هو أحقّ بهم في كلّ أمور الدين والدنيا ، وأولى بهم من أنفسهم فضلاً عن أن يكون أولى بهم من غيرهم ، فيجب عليهم أن يؤثروه بما أراده من أموالهم ، وإن كانوا محتاجين إليها ، ويجب عليهم أن يحبوه زيادة على حبهم أنفسهم ، ويجب عليهم أن يقدّموا حكمه عليهم على حكمهم لأنفسهم . وبالجملة فإذا دعاهم النبيّ صلى الله عليه وسلم لشيء ودعتهم أنفسهم إلى غيره وجب عليهم أن يقدّموا ما دعاهم إليه ويؤخروا ما دعتهم أنفسهم إليه ، ويجب عليهم أن يطيعوه فوق طاعتهم لأنفسهم ويقدّموا طاعته على ما تميل إليه أنفسهم وتطلبه خواطرهم . وقيل : المراد ب{ أنفسهم } في الآية بعضهم ، فيكون المعنى : أن النبيّ أولى بالمؤمنين من بعضهم ببعض . وقيل : هي خاصة بالقضاء ، أي هو أولى بهم من أنفسهم فيما قضى به بينهم . وقيل : أولى بهم في الجهاد بين يديه وبذل النفس دونه ، والأوّل أولى . { وأزواجه أمهاتهم } أي مثل أمهاتهم في الحكم بالتحريم ، ومنزلات منزلتهنّ في استحقاق التعظيم ؛ فلا يحلّ لأحد أن يتزوج بواحدة منهنّ كما لا يحلّ له أن يتزوج بأمه ، فهذه الأمومة مختصة بتحريم النكاح لهنّ وبالتعظيم لجنابهنّ ، وتخصيص المؤمنين يدلّ على أنهنّ لسن أمهات نساء المؤمنين ولا بناتهنّ أخوات المؤمنين ، ولا أخوتهنّ أخوال المؤمنين . وقال القرطبي : الذي يظهر لي أنهنّ أمهات الرجال والنساء تعظيماً لحقهنّ على الرجال والنساء كما يدلّ عليه قوله : { النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ } وهذا يشمل الرجال والنساء ضرورة . قال : ثم إن في مصحف أبيّ بن كعب : " وأزواجه أمهاتهم ، وهو أب لهم " ، وقرأ ابن عباس : " أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب وأزواجه أمهاتهم " .

ثم بين سبحانه أن القرابة أولى ببعضهم البعض فقال : { وَأُوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ } المراد بأولي الأرحام : القرابات ، أي هم أحقّ ببعضهم البعض في الميراث ، وقد تقدّم تفسير هذه الآية في آخر سورة الأنفال ، وهي ناسخة لما كان في صدر الإسلام من التوارث بالهجرة والموالاة . قال قتادة : لما نزل قوله سبحانه في سورة الأنفال : { والذين ءامَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ من وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حتى يُهَاجِرُواْ } [ الأنفال : 72 ] ، فتوارث المسلمون بالهجرة ، ثم نسخ ذلك بهذه الآية ، وكذا قال غيره .

وقيل : إن هذه الآية ناسخة للتوارث بالحلف والمؤاخاة في الدين ، و{ فِي كتاب الله } يجوز أن يتعلق بأفعل التفضيل في قوله : { أولى بِبَعْضٍ } لأنه يعمل في الظرف ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف هو حال من الضمير ، أي كائناً في كتاب الله . والمراد بالكتاب : اللوح المحفوظ أو القرآن أو آية المواريث ، وقوله : { مِنَ المؤمنين } يجوز أن يكون بياناً ل{ أولوا الأرحام } ، والمعنى : أن ذوي القرابات من المؤمنين { والمهاجرين } بعضهم أولى ببعض ، ويجوز أن يتعلق ب{ أولي } أي وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض من المؤمنين والمهاجرين الذين هم أجانب . وقيل إن معنى الآية : وأولوا الأرحام ببعضهم أولى ببعض : إلا ما يجوز لأزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم من كونهم كالأمهات في تحريم النكاح ، وفي هذا من الضعف ما لا يخفى .

{ إِلاَّ أَن تَفْعَلُواْ إلى أَوْلِيَائِكُمْ مَّعْرُوفاً } هذا الاستثناء إما متصل من أعمّ العام ، والتقدير : وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كل شيء من الإرث وغيره ، إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفاً ، من صدقة أو وصية فإن ذلك جائز . قاله قتادة والحسن وعطاء ومحمد بن الحنفية . قال محمد بن الحنفية : نزلت في إجازة الوصية لليهودي والنصراني . فالكافر وليّ في النسب لا في الدين ، فتجوز الوصية له ، ويجوز أن يكون منقطعاً ، والمعنى : لكن فعل المعروف للأولياء لا بأس به ، ومعنى الآية : أن الله سبحانه لما نسخ التوارث بالحلف والهجرة أباح أن يوصى لهم . وقال مجاهد : أراد بالمعروف النصرة وحفظ الحرمة بحق الإيمان والهجرة ، والإشارة بقوله : { كَانَ ذَلِكَ } إلى ما تقدّم ذكره ، أي كان نسخ الميراث بالهجرة والمحالفة والمعاقدة ، وردّه إلى ذوي الأرحام من القرابات { فِي الكتاب مَسْطُورًا } أي في اللوح المحفوظ ، أو في القرآن مكتوباً .

/خ6