النكت و العيون للماوردي - الماوردي  
{ٱلنَّبِيُّ أَوۡلَىٰ بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ مِنۡ أَنفُسِهِمۡۖ وَأَزۡوَٰجُهُۥٓ أُمَّهَٰتُهُمۡۗ وَأُوْلُواْ ٱلۡأَرۡحَامِ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلَىٰ بِبَعۡضٖ فِي كِتَٰبِ ٱللَّهِ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُهَٰجِرِينَ إِلَّآ أَن تَفۡعَلُوٓاْ إِلَىٰٓ أَوۡلِيَآئِكُم مَّعۡرُوفٗاۚ كَانَ ذَٰلِكَ فِي ٱلۡكِتَٰبِ مَسۡطُورٗا} (6)

قوله تعالى : { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ } فيه أربعة أوجه :

أحدها : أنه أولى بهم من بعضهم ببعض لإرساله إليهم وفرض طاعته عليهم ، قاله مقاتل بن حيان .

الثاني : أنه أولى بهم فيما رآه لهم بأنفسهم ، قاله عكرمة .

الثالث : أنه كان في الحرف الأول : هو أب لهم . وكان سبب نزولها أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد غزاة تبوك أمر الناس بالخروج فقال قوم منهم نستأذن آباءنا وأمهاتنا فأنزل الله فيهم هذه الآية ، حكاه النقاش .

الرابع : أنه أولى بهم في قضاء ديونهم وإسعافهم في نوائبهم على ما رواه عبد الرحمن بن أبي عمرة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَا مِن مُؤمنٍ إِلاَّ أَنَا أَولَى النَّاس بِهِ فِي الدُّنيَا وَالآخِرَةِ اقْرَؤُوا إِن شِئْتُم { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ } فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ تَرَكَ مَالاً فَلْتَرِثْهُ عُصْبَتُهُ مَن كَانُوا ، وَإِن تَرَكَ دَيناً أَوْ ضِيَاعاً فليأتني فَأَنَا مَوْلاَهُ {[2205]} " .

{ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } يعني من مات عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أزواجه هن كالأمهات في شيئين .

أحدهما : تعظيم حقهن .

الثاني : تحريم نكاحهن . وليس كالأمهات في النفقة والميراث .

واختلف في كونهن كالأمهات في المحرم وإباحة النظر على الوجهين :

أحدهما : هن محرم لا يحرم النظر إليهن لتحريم نكاحهن .

الثاني : أن النظر إليهن محرم لأن تحريم نكاحهن إنما كان حفظاً لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهن فكان من حفظ حقه تحريم النظر إليهن ولأن عائشة رضي الله عنها كانت إذا أرادت دخول رجل عليها أمرت أختها أسماء أن ترضعه ليصير ابناً لأختها من الرضاعة فيصير محرماً يستبيح النظر .

وأما اللاتي طلّقهن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته فقد اختلف في ثبوت هذه الحرمة لهن على ثلاثة أوجه :

أحدها : تثبت لهن هذه الحرمة تغليباً لحرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

الثاني : لا يثبت لهن ذلك بل هن كسائر النساء لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أثبت عصمتهن وقال : أزواجي في الدنيا هن أزواجي في الآخرة .

الثالث : أن من دخل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم منهن ثبتت حرمتها ويحرم نكاحها وإن طلقها حفاظاً لحرمته وحراسة لخلوته ومن لم يدخل بها لم تثبت لها هذه الحرمة ، وقد همّ عمر بن الخطاب برجم امرأة فارقها النبي صلى الله عليه وسلم فنكحت بعده فقالت : لم هذا وما ضرب عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حجاباً ولا سميت للمؤمنين أماً ، فكف عنها .

وإذا كان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين فيما ذكرناه فقد اختلف فيهن هل هن أمهات المؤمنات على وجهين :

أحدهما : أنهن أمهات المؤمنين والمؤمنات تعظيماً لحقهن على الرجال والنساء .

الثاني : أن هذا حكم يختص بالرجال المؤمنين دون النساء لاختصاص الحظر والإباحة بالرجال دون النساء . وقد روى الشعبي عن مسروق عن عائشة أن امرأة قالت لها يا أماه فقالت لست بأم لك أنما أم رجالكم .

{ وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجرِينَ } .

قيل إنه أراد بالمؤمنين الأنصار ، وبالمهاجرين قريشاً . وفيه قولان :

أحدهما : أن هذا ناسخ للتوارث بالهجرة حكى سعيد عن قتادة قال كان نزل في الأنفال { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتهِمْ مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا } فتوارث المسلمون بالهجرة فكان لا يرث الأعرابي المسلم من قريبه المهاجر المسلم شيئاً ثم نسخ ذلك في هذه السورة بقوله { وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُم أَوْلَى بِبَعْضٍ } .

الثاني : أن ذلك ناسخ للتوارث بالحلف والمؤاخاة في الدين روى هشام بن عمرة عن أبيه عن الزبير بن العوام قال أنزل فينا خاصة معشر قريش والأنصار لما قدمنا المدينة ، قدمنا ولا أموال لنا فوجدنا الأنصار نعم الإخوان فآخيناهم فأورثوا وأورثناهم ، فآخى أبو بكر خارجة بن زيد وآخيت أنا كعب بن مالك ، فلما كان يوم أُحد قتل كعب بن مالك فجئت فوجدت السلاح قد أثقله فوالله لقد مات ما ورثه غيري حتى أنزل الله هذه الآية فرجعنا إلى مواريثنا .

قوله تعالى : { فِي كِتَابِ اللَّهِ } فيه وجهان :

أحدهما : في القرآن ، قاله قتادة .

الثاني : في اللوح المحفوظ الذي قضى فيه أحوال خلقه ، قاله ابن بحر .

{ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ } يعني أن التوارث بالأنساب أولى من التوارث بمؤاخاة المؤمنين وبهجرة المهاجرين ما لم يختلف بالمتناسبيّن دين فإن اختلف بينهما الدين فلا توارث بينهما روى شهر بن حوشب عن أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لاَ يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتِينِ{[2206]} " .

{ إِلاَّ أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَّعْرُوفاً } فيه أربعة أوجه :

أحدها : أنه أراد الوصية للمشرك من ذوي الأرحام ، قاله قتادة .

الثاني : أنه عنَى الوصية للحلفاء الذي آخى بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار ، قاله مجاهد .

الثالث : أنه أراد الذين آخيتم تأتون إليهم معروفاً ، قاله مقاتل ابن حيان .

الرابع : أنه عنى وصية الرجل لإخوانه في الدين ، قاله السدي .

{ كَانَ ذَلِكَ فِي الْكَتَابِ مَسْطُوراً } فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : كان التوارث بالهجرة والمؤاخاة في الكتاب مسطوراً قبل النسخ .

والثاني : كان نسخه بميراث أولي الأرحام في الكتاب مسطوراً قبل التوارث .

الثالث : كان أن لا يرث مسلم كافرا في الكتاب مسطوراً .

وفي { الْكِتَابِ } أربعة أوجه :

أحدها : في اللوح المحفوظ ، قاله إبراهيم التيمي .

الثاني : في الذكر ، قاله مقاتل بن حيان .

الثالث : في التوراة أمر بني إسرائيل أن يصنعوا مثله في بني لاوي بن يعقوب ، حكاه النقاش .

الرابع : في القرآن ، قاله قتادة .


[2205]:رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي.
[2206]:رواه أبو داود رقم 2911، والترمذي رقم 2109.