قوله تعالى : { ولنبلونكم } . أي ولنختبرنكم يا أمة محمد ، واللام لجواب القسم تقديره والله لبيلونكم والابتلاء من الله لإظهار المطيع من العاصي ، لا ليعلم شيئاً لم يكن عالماً به .
قوله تعالى : { بشيء من الخوف } . قال ابن عباس يعني خوف العدو .
قوله تعالى : { والجوع } . يعني القحط .
قوله تعالى : { ونقص من الأموال } . بالخسران والهلاك .
قوله تعالى : { والأنفس } . يعني بالقتل والموت ، وقيل بالمرض والشيب .
قوله تعالى : { والثمرات } . يعني الجوائح في الثمار ، وحكي عن الشافعي أنه قال : الخوف خوف الله تعالى ، والجوع صيام رمضان ، ونقص من الأموال أداء الزكاة والصدقات ، والأنفس الأمراض ، والثمرات موت الأولاد ، لأن ولد الرجل ثمرة قلبه .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد ابن سمعان ، أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني ، أخبرنا حميد بن زنجويه أخبرنا الحسن بن موسى ، أخبرنا حماد بن سلمة ، عن أبي سنان قال : دفنت ابني سناناً وأبو طلحة الخولاني على شفير القبر فلما أردت الخروج أخذ بيدي فأخرجني فقال : ألا أبشرك ؟ : حدثني الضحاك بن عروة عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته : أقبضتم ولد عبدي ؟ قالوا نعم ، قال أقبضتم ثمرة فؤاده ؟ قالوا نعم ، قال : فماذا قال عبدي ؟ قالوا : استرجع وحمدك . قال : ابنوا له بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد " .
قوله تعالى : { وبشر الصابرين } . على البلايا والرزايا ، ثم وصفهم فقال : { الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون } .
{ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ }
أخبر تعالى أنه لا بد أن يبتلي عباده بالمحن ، ليتبين الصادق من الكاذب ، والجازع من الصابر ، وهذه سنته تعالى في عباده ، لأن السراء لو استمرت لأهل الإيمان ، ولم يحصل معها محنة ، لحصل الاختلاط الذي هو فساد ، وحكمة الله تقتضي تمييز أهل الخير من أهل الشر . هذه فائدة المحن ، لا إزالة ما مع المؤمنين من الإيمان ، ولا ردهم عن دينهم ، فما كان الله ليضيع إيمان المؤمنين ، فأخبر في هذه الآية أنه سيبتلي عباده { بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ } من الأعداء { وَالْجُوعِ } أي : بشيء يسير منهما ، لأنه لو ابتلاهم بالخوف كله ، أو الجوع ، لهلكوا ، والمحن تمحص لا تهلك .
{ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ } وهذا يشمل جميع النقص المعتري للأموال من جوائح سماوية ، وغرق ، وضياع ، وأخذ الظلمة للأموال من الملوك الظلمة ، وقطاع الطريق وغير ذلك .
{ وَالْأَنْفُسِ } أي : ذهاب الأحباب من الأولاد ، والأقارب ، والأصحاب ، ومن أنواع الأمراض في بدن العبد ، أو بدن من يحبه ، { وَالثَّمَرَاتِ } أي : الحبوب ، وثمار النخيل ، والأشجار كلها ، والخضر ببرد ، أو برد ، أو حرق ، أو آفة سماوية ، من جراد{[113]} ونحوه .
فهذه الأمور ، لا بد أن تقع ، لأن العليم الخبير ، أخبر بها ، فوقعت كما أخبر ، فإذا وقعت انقسم الناس قسمين : جازعين وصابرين ، فالجازع ، حصلت له المصيبتان ، فوات المحبوب ، وهو وجود هذه المصيبة ، وفوات ما هو أعظم منها ، وهو الأجر بامتثال أمر الله بالصبر ، ففاز بالخسارة والحرمان ، ونقص ما معه من الإيمان ، وفاته الصبر والرضا والشكران ، وحصل [ له ] السخط الدال على شدة النقصان .
وأما من وفقه الله للصبر عند وجود هذه المصائب ، فحبس نفسه عن التسخط ، قولا وفعلا ، واحتسب أجرها عند الله ، وعلم أن ما يدركه من الأجر بصبره أعظم من المصيبة التي حصلت له ، بل المصيبة تكون نعمة في حقه ، لأنها صارت طريقا لحصول ما هو خير له وأنفع منها ، فقد امتثل أمر الله ، وفاز بالثواب ، فلهذا قال تعالى : { وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ } أي : بشرهم بأنهم يوفون أجرهم بغير حساب . ف{ الصابرين } ، هم الذين فازوا بالبشارة العظيمة ، والمنحة الجسيمة .
ثم يمضي السياق في التعبئة لمواجهة الأحداث ، وفي تقويم التصور لحقيقة الأحداث :
( ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات . وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا : إنا لله وإنا إليه راجعون ) . .
ولا بد من تربية النفوس بالبلاء ، ومن امتحان التصميم على معركة الحق بالمخاوف والشدائد ، وبالجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات . . لا بد من هذا البلاء ليؤدي المؤمنون تكاليف العقيدة ، كي تعز على نفوسهم بمقدار ما أدوا في سبيلها من تكاليف . والعقائد الرخيصة التي لا يؤدي أصحابها تكاليفها لا يعز عليهم التخلي عنها عند الصدمة الأولى . فالتكاليف هنا هي الثمن النفسي الذي تعز به العقيدة في نفوس أهلها قبل أن تعز في نفوس الآخرين . وكلما تألموا في سبيلها ، وكلما بذلوا من أجلها . . كانت أعز عليهم وكانوا أضن بها . كذلك لن يدرك الآخرون قيمتها إلا حين يرون ابتلاء أهلها بها وصبرهم على بلائها . . إنهم عندئذ سيقولون في أنفسهم : لو لم يكن ما عند هؤلاء من العقيدة خيرا مما يبتلون به وأكبر ما قبلوا هذا البلاء ، ولا صبروا عليه . . وعندئذ ينقلب المعارضون للعقيدة باحثين عنها ، مقدرين لها ، مندفعين إليها . . وعندئذ يجيء نصر الله والفتح ويدخل الناس في دين الله أفواجا . .
ولا بد من البلاء كذلك ليصلب عود أصحاب العقيدة ويقوى . فالشدائد تستجيش مكنون القوى ومذخور الطاقة ؛ وتفتح في القلب منافذ ومسارب ما كان ليعلمها المؤمن في نفسه إلا تحت مطارق الشدائد . والقيم والموازين والتصورات ما كانت لتصح وتدق وتستقيم إلا في جو المحنة التي تزيل الغبش عن العيون ، والران عن القلوب .
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ( 155 )
وقوله تعالى : { ولنبلونكم } الآية ، أمر تعالى بالاستعانة بالصبر وأخبر أنه مع الصابرين( {[1434]} ) ، ثم اقتضت الآية بعدها من فضل الشهداء ما يقوي الصبر عليهم ويخفف المصيبة ، ثم جاء بعد ذلك من هذه الأمور التي لا تتلقى إلا بالصبر أشياء تعلم أن الدنيا دار بلاء ومحن ، أي فلا تنكروا فراق الإخوان والقرابة ، ثم وعد الصابرين أجراً ، وقال عطاء والجمهور : إن الخطاب في هذه الآية لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وقيل : الخطاب لقريش وحل ذلك بهم فهي آية للنبي صلى الله عليه وسلم( {[1435]} ) .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : والأول أظهر ، { ولنبلونكم بشيء } معناه لنمتحننكم ، وحركت الواو لالتقاء الساكنين ، وقيل : الفعل مبني وهو مع النون الثقيلة بمنزلة خمسة عشر ، و { الخوف } يعني من الأعداء في الحروب ، و { الجوع } الجدب والسنة ، وأما الحاجة إلى الأكل فإنما اسمها الغرث ، وقد استعمل فيه المحدثون الجوع اتساعاً( {[1436]} ) ، ونقص الأموال : بالجوائح والمصائب ، { والأنفس } : بالموت والقتل ، { والثمرات } : بالعاهات ونزع البركة ، فالمراد بشيء من هذا وشيء من هذا( {[1437]} ) فاكتفى بالأول إيجازاً ولذلك وحد ، وقرأ الضحاك { بأشياء } على الجمع ، والمعنى قريب بعضه من بعض ، وقال بعض العلماء : إنما المراد في هذه الآية مؤن الجهاد وكلفه ، فالخوف من العدو والجوع به وبالأسفار إليه ونقص الأموال بالنفقات فيه والأنفس بالقتل والثمرات بإصابة العدو لها أو بالغفلة عنها بسبب الجهاد .