نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{وَلَنَبۡلُوَنَّكُم بِشَيۡءٖ مِّنَ ٱلۡخَوۡفِ وَٱلۡجُوعِ وَنَقۡصٖ مِّنَ ٱلۡأَمۡوَٰلِ وَٱلۡأَنفُسِ وَٱلثَّمَرَٰتِۗ وَبَشِّرِ ٱلصَّـٰبِرِينَ} (155)

ولما كان من شأن الطين الذي منه البشر وما تولد منه أنه لا يخلص عن الشوائب إلا بعد معاناة شديدة ، ألا ترى أن الذهب أصفاه وهو لا يخلو عن الغش ولا يعرى عما خالطه من الدنس إلا بالامتحان بشديد النيران ! قال تعالى معلماً لهم بالتربية بما تحصل به التصفية بما تؤدي{[5771]} إليه مناصبة الكفار ومقارعة أهل دار البوار : { ولنبلونكم } عطفاً على ما أرشد إليه التقدير من نحو قوله : فلنأمركم بمقارعة كل {[5772]}من أمرناكم{[5773]} من قبل بمجاملته{[5774]} وليتمالأن عليكم أهل الأرض ولنبلونكم {[5775]}أي يصيبكم{[5776]} بأشياء{[5777]} إصابة تشبه{[5778]} فعل المختبر لأحوالكم ليظهر الصابر من الجزع{[5779]} . قال الحرالي{[5780]} : فالصبر الأول أي في { أن الله مع الصابرين } عن الكسل وعلى العمل ، والصبر الثاني أي في { وبشر الصابرين } على مصائب الدنيا ، فلذلك انتظم بهذه الآيات آية { ولنبلونكم } عطفاً وتجاوزاً لأمور يؤخذ بها من {[5781]}لم يجاهد{[5782]} في سبيل الله ضعفاً عن صبر النفس عن كره القتال

{ يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القتال وهو كره لكم{[5783]} }[ البقرة : 216 ] فمن لم يحمل الصبر الأول على الجهاد أخذ بأمور هي بلايا في باطنه تجاوزها الخطاب فانعطف عليها { ولنبلونكم بشيء من الخوف } وهو حذر النفس من أمور ظاهرة تضرها { والجوع } وهو غلبة الحاجة إلى الغذاء على{[5784]} النفس حتى تترامى لأجله فيما لا تتأمل عاقبته ، فإذا كان على غير غلبة مع حاجة فهو الغرث{[5785]} ، فلذلك في الجوع بلاء مّا والغرث{[5786]} عادة جارية . وقال أيضاً : الجوع فراغ الجسم عما به قوامه كفراغ النفس عن الأمنة التي لها قوام مّا ، فأفقدها القوامين في ذات نفسها بالخوف وفي بدنها بالجوع لما لم تصبر على كره الجهاد ، وقد كان ذلك لأهل الصبر عليه أهون من الصبر على الخوف والجوع ، وإنما كان أول نائلهم من هذا الابتلاء{[5787]} الخوف حيث خافوا الأعداء على أنفسهم فجاءهم إلى مواطنهم ، من لم يمش إلى طبيبه ليستريح جاء الطبيب لهلاكه ، وشتان بين خوف الغازي للعدو في عقره وبين خوف المحصر{[5788]} في أهله ، وكذلك{[5789]} شتان بين أرزاق المجاهد وتزويده{[5790]} وخير الزاد التقوى في سبيله لجهاده وبين جوع المتخلف في عيلته - انتهى{[5791]} . {[5792]}ونكر الشيء وما بعده حثاً على الشكر بالإشارة إلى أن كل ما أصاب منها ففي قدرة الله ما هو أعظم منه ، فعدم الإصابة به نعمة .

ولما كان الجوع قد يكون عن رياضة بين أنه عن حاجة بقوله : { ونقص } وهو التقاصر عن الكفاف { من الأموال } أي النعم التي كانت منها أغذيتهم . قال الحرالي : لأن ذلك عرف استعمالهم في لفظ المال . وقال أيضاً : والمال{[5793]} ما هو للمتمول بمنزلة الجزء{[5794]} منه عنده لماله لذلك منه ، فضاعف تعالى مثال{[5795]} البلاء في ذوات أنفسهم وأبدانهم ليقطع عنهم راحة تطلع الكفاية من الأموال في مقابلة ما ينال المجاهد من الغناء والرزق ، فالمجاهد آمن في جيشه متزود في رحله غانم من عدوه ، والمتخلف خائف في أهله جائع في عيلته ناقص المال من ذات يده - انتهى .

ولما كان ذلك قد يكون عن إفراط في الكثرة قال : { والأنفس }{[5796]} قال الحرالي : فيه إشعار بأن من جاهد كثر عدده{[5797]} ونما ولده ، وأن من تكاسل قل عدده ودرج خلفه ، وفي ضمنه إشعار بمنال{[5798]} المتكاسل{[5799]} حواصد{[5800]} من جوارف الآجال{[5801]} من الوباء والطاعون وغيره - انتهى . وقال : { والثمرات }{[5802]} التي هي أنفس الأشجار التي بها قوام أنفس الأبدان تخصيصاً لها بالذكر ، لأنها أعظم أموال الأنصار الذين هم من{[5803]} أخص الناس بهذا الذكر لا سيما في وقت نزول هذه الآيات وهو أول زمان الهجرة .

ولما كان السياق مرشداً إلى أن التقدير : فأنذر من لم يصبر ، ولكنه طوى إشارة إلى إجلال الذين آمنوا عن أن يكون فيهم من لم يصبر عطف عليه إرشاداً إليه وحثاً على الصبر ثم الذكر الموجبين للنصر قوله : { وبشر الصابرين } وقال الحرالي : ولما كان هذا البلاء عن تكاسل من الصبر الأول كما قال تعالى :{ إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم{[5804]} }[ الرعد : 11 ] وكان مما{[5805]} يتداركه صبر عليه تدارك تعالى هذه الرتبة ببشرى{[5806]} الصابرين من هلكه ما ينال من لم يصبر على هذه المصيبة وضجر منها وتسخط فيها{[5807]} ، فكان للصابر الأول الصحبة بقوله : { إن الله مع الصابرين } .


[5771]:في ظ: يؤدي -كذا
[5772]:في ظ: من أتاكم
[5773]:في ظ: من أتاكم
[5774]:في م: بمحاملته
[5775]:العبارة من هنا إلى "الجزع" ليست في ظ
[5776]:في م ومد: نصيبكم
[5777]:من م ومد، وفي الأصل: باسنا
[5778]:من م ومد، وفي الأصل: نشبه
[5779]:زيد في م و ظ ومد "و"
[5780]:قال أبو حيان الأندلسي (1/ 400): وهذه الآية لها تعلق بقوله "واستعينوا بالصبر والصلاة –الآية" وقبلها "واشكروا لي" والشكر يوجب زيادة النعم والابتلاء بما ذكر ينافيه ظاهرا، وتوجيه أن إتمام الشرائع إتمام للنعمة وذلك يوجب الشكر، والقيام بتلك الشرائع لا يمكن إلا بتحمل المشاق فأمر فيها بالصبر، وأنه أنعم أولا فشكر وابتلى ثانيا فصبر، لينال درجتي الشكر والصبر فيكمل إيمانه، كما روى عنه عليه السلام: الإيمان نصفان: نصف صبر ونصف شكر
[5781]:في ظ: لم يكن يجاهد
[5782]:في ظ: لم يكن يجاهد
[5783]:سورة 2 آية 216.
[5784]:في م: عن
[5785]:من مد و ظ، وفي الأصل: الفرث، وفي م: العرث.
[5786]:من م و ظ ومد، وفي الأصل: الفرث
[5787]:في ظ: للابتلا
[5788]:من م و ظ ومد، وفي الأصل: الحصر
[5789]:زيد في الأصل: عيلته، ولم تكن الزيادة في م ومد و ظ فحذفناها
[5790]:من م ومد و ظ، وفي الأصل: تزيدوه.
[5791]:وفي البحر المحيط 1/ 450: وجاء هذا الترتيب في العطف على سبيل الترقي فأخبر أولا بالابتلاء بشيء من الخوف وهو توقع ما يرد من المكروه، ثم انتقل منه إلى الابتلاء بشيء من الجوع وهو أشد من الخوف بأي تفسير فسر به القحط أو الفقر أو الحاجة إلى الأكل... فبدأ أولا بالأموال ثم ترقى إلى الأنفس؛ وأما {الثمرات} فجاء كالتخصيص بعد التعميم لأنها تندرج تحت الأموال فلا ترقى فيها
[5792]:العبارة من هنا إلى "به نعمة" ليست في ظ
[5793]:زبد من م و ظ ومد
[5794]:في ظ فقط: الجزاء
[5795]:في م فقط: منال-كذا
[5796]:قال أبو حيان الأندلسي: {والأنفس} بالقتل والموت، وقال الشافعي: بالأمراض، وقيل بالشيب
[5797]:في م: عدوه - كذا
[5798]:من و ظ ومد، وفي الأصل: بمثال
[5799]:من م و ظ ومد، وفي الأصل: التكاسل.
[5800]:في ظ: حواسد
[5801]:من م و ظ ومد، وفي الأصل: الرجال
[5802]:وفي البحر المحيط 1/ 450 {والثمرات} يعني الجوائح في الثمرات وقلة النبات وانقطاع البركات، وقال القفال: قد يكون نقصها بالجدوب، وقد يكون بترك عمارة الضياع للاشتغال بالجهاد، وقد يكون بالإنفاق على من يرد من الوفود على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل بظهور العدو عليهم، وقال الشافعي: {والثمرات} موت الأولاد، لأن ولد الرجل ثمرة قلبه
[5803]:ليس في ظ.
[5804]:سورة 13 آية 11
[5805]:من م و ظ ومد، وفي الأصل: هما
[5806]:من م ومد و ظ. وفي الأصل: ليسرى -كذا
[5807]:من و م وظ ومد، وفي الأصل: فيهما