قوله تعالى : { فلما أحس عيسى } أي وجد ، قال الفراء ، وقال أبو عبيدة : عرف ، وقال مقاتل : رأى .
قوله تعالى : { منهم الكفر } وأرادوا قتله استنصر عليهم .
قوله تعالى : { قال من أنصاري إلى الله } . قال السدي : كان سبب ذلك أن عيسى عليه السلام لما بعثه الله عز وجل إلى بني إسرائيل وأمره بالدعوة نفته بنو إسرائيل وأخرجوه ، فخرج هو وأمه يسيحان في الأرض ، فنزل في قرية على رجل فأضافهما ، وأحسن إليهما ، وكان لتلك المدينة جبار متعد ، فجاء ذلك الرجل يوماً مهتماً حزيناً ، فدخل منزله ومريم عند امرأته فقالت لها مريم : ما شان زوجك ؟ أراه كئيباً ، قالت : لا تسأليني ، قالت : أخبريني لعل الله يفرج كربته ، قالت : إن لنا ملكاً يجعل على كل رجل منا يوماً أن يطعمه وجنوده ، ويسقيهم الخمر ، فإن لم يفعل عاقبه ، واليوم نوبتنا وليس لذلك عندنا سعة ، قالت : فقولي له لا يهتم ، فإني آمر ابني فيدعو له فيكفي ذلك ، فقالت مريم لعيسى عليه السلام في ذلك ، فقال عيسى : إن فعلت ذلك وقع شر ، قالت فلا تبال فإنه قد أحسن إلينا وأكرمنا ، فقال عيسى عليه السلام : فقولي له إذا اقترب ذلك فاملأ قدورك وخوابيك ماء ثم أعلمني ففعل ذلك ، فدعا الله تعالى عيسى عليه السلام ، فتحول ماء القدور مرقاً ولحماً ، وماء الخوابي خمراً لم ير الناس مثله قط ، فلما جاء الملك أكل ، فلما شرب الخمر ، قال : من أين هذا الخمر ؟ قال : من أرض كذا ، قال الملك : فإن خمري من تلك الأرض ، وليست مثل هذه ، قال : هي من أرض أخرى ، فلما خلط على الملك وشدد عليه فقال : أنا أخبرك ، عندي غلام لا يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه ، وأنه دعا الله فجعل الماء خمراً ومرقا ولحما ، وكان للملك ابن يريد أن يستخلفه فمات قبل ذلك بأيام ، وكان أحب الخلق إليه ، فقال : أن رجلاً دعا الله حتى جعل الماء خمراً ليجاء به إلي حتى يحيي ابني ، فدعا عيسى فكلمه في ذلك فقال عيسى لا تفعل ، فإنه إن عاش وقع شر ، قال الملك : لا أبالي أليس أراه حيا ؟ فقال عيسى : إن أحييته تتركوني وأمي نذهب حيث نشاء ؟ قال : نعم ، فدعا الله فعاش الغلام ، فلما رآه أهل مملكته قد عاش تبادروا إلى السلاح وقالوا : أكلنا هذا حتى إذا دنا موته يريد أن يستخلف عليها ابنه فيأكلنا كما أكلنا أبوه ، فاقتتلوا فذهب عيسى وأمه ، فمر بالحواريين وهو يصطادون السمك ، فقال : ما تصنعون ؟ فقالوا : نصطاد السمك قال : أفلا تمشون حتى نصطاد الناس ؟ قالوا : ومن أنت ، قال : عيسى ابن مريم ، عبد الله ورسوله ، من أنصاري إلى الله ؟ فآمنوا به وانطلقوا معه . قوله تعالى ( من أنصاري إلى الله ) . قال السدي وابن جريج : مع الله تعالى تقول العرب : الذود إلى الذود إبل ، أي مع الذوذ ، كما قال الله تعالى : ( ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم ) . وقال الحسن وأبو عبيدة : " إلى " بمعنى " في " أي من أعواني في الله ، أي في ذات الله وسبيله ، وقيل " إلى " في موضعها معناه من يضم نصرته إلى نصرة الله لي ، واختلفوا في الحواريين . قال مجاهد والسدي : كانوا صيادين يصطادون السمك ، سمواً حواريين لبيض ثيابهم ، وقيل : كانوا ملاحين ، وقال الحسن : كانوا قصارين ، سموا بذلك لأنهم كانوا يحورون الثياب أي يبيضونها . وقال عطاء : سلمت مريم عيسى عليه السلام إلى أعمال شتى ، فكان آخر ما دفعته إلى الحواريين ، وكانوا قصارين وصباغين ، فدفعته إلى رئيسهم ليتعلم منه فاجتمع عنده ثياب وعرض له سفر ، فقال لعيسى : إنك قد تعلمت هذه الحرفة وأنا خارج في سفر ، ولا أرجع إلى عشرة أيام ، وهذه ثياب الناس مختلفة الألوان ، وقد علمت على كل واحد منها بخيط على اللون الذي يصبغ به ، فأحب أن تكون فارغاً منها وقت قدومي ، وخرج فطبخ عيسى حباً واحداً ، على لون واحد ، وأدخل جميع الثياب وقال لها : كوني بإذن الله على ما أريد منك ؟ فقدم الحواري والثياب كلها في الحب ، فقال : ما فعلت ؟ فقال : فرغت ، قال : أين هي ؟ قال : في الحب ، قال : كلها ؟ قال :نعم . قال : لقد أفسدت تلك الثياب ، فقال : قم فانظر ، فأخرج عيسى ثوباً أحمر ، وثوباً اصفر وثوباً أخضر ، إلى أن أخرجها على الألوان التي أرادها ، فجعل الحواري يتعجب ويعلم أن ذلك من الله ، فقال للناس : تعالوا فانظروا فآمن به هو وأصحابه فهم الحواريون .
وقال الضحاك : سموا حواريين لصفاء قلوبهم ، وقال ابن المبارك : سموا به لما عليهم من اثر العبادة ونورها ، وأصل الحور عند العرب شدة البياض ، يقال : رجل أحور وامرأة حوراء أي شديدة بياض العين . وقال الكلبي وعكرمة : الحواريون هم الأصفياء ، وهم كانوا أصفياء عيسى عليه السلام ، وكانوا اثني عشر رجلاً ، قال روح بن أبي القاسم :سألت قتادة عن الحواريين . قال : هم الذين تصلح لهم الخلافة . وعنه أيضا أنه قال : الحواريون هم الوزراء ، وقال الحسن : الحواريون الأنصار ، والحواري الناصر ، والحواري في كلام العرب خاصة الرجل الذي يستعين به فيما ينويه .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا احمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا الحميدي ، أخبرنا سفيان ، أخبرنا محمد بن المنكدر قال : سمعت جابربن عبد الله رضي الله عنهما يقول : ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس يوم الخندق فانتدب الزبير ثم ندبهم فانتدب الزبير ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن لكل نبي حوارياً وحواريي قال سفيان : الحواري الناصر ، قال المعمر : قال قتادة : إن الحواريين كلهم من قريش ، أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وحمزة ، وجعفر ، وأبو عبيدة بن الجراح ، وعثمان بن مظعون ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وقاص ، وطلحة بن عبيد الله ، والزبير بن العوام ، رضي الله عنهم أجمعين .
قوله تعالى : { قال الحواريون نحن أنصار الله } أعوان دين الله ورسوله .
{ فلما أحس عيسى منهم الكفر } أي : رأى منهم عدم الانقياد له ، وقالوا هذا سحر مبين ، وهموا بقتله وسعوا في ذلك { قال من أنصاري إلى الله } من يعاونني ويقوم معي بنصرة دين الله { قال الحواريون } وهم الأنصار { نحن أنصار الله } أي : انتدبوا معه وقاموا بذلك .
وقالوا : { آمنا بالله } { واشهد بأنا مسلمون } أي : الشهادة النافعة ، وهي الشهادة بتوحيد الله وتصديق رسوله مع القيام بذلك .
ومن بشارة الملائكة لمريم بابنها المنتظر ، وصفاته ورسالته ومعجزاته وكلماته ، هذه التي ذكرت ملحقة بالبشارة . . ينتقل السياق مباشرة إلى إحساسه - عليه السلام - بالكفر من بني إسرائيل ، وإلى طلبه الأنصار لإبلاغ دين الله :
( فلما أحس عيسى منهم الكفر قال : من أنصاري إلى الله ؟ قال الحواريون : نحن أنصار الله ، آمنا بالله ، واشهد بأنا مسلمون . ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين ) .
وهنا فجوة كبيرة في السياق . فإنه لم يذكر أن عيسى قد ولد بالفعل ؛ ولا أن أمه واجهت به القوم فكلمهم في المهد ؛ ولا أنه دعا قومه وهو كهل ؛ ولا أنه عرض عليهم هذه المعجزات التي ذكرت في البشارة لأمه [ كما جاء في سورة مريم ] . . وهذه الفجوات ترد في القصص القرآني ، لعدم التكرار في العرض من جهة ، وللاقتصار على الحلقات والمشاهد المتعلقة بموضوع السورة وسياقها من جهة أخرى . .
والأن لقد أحس عيسى الكفر من بني إسرائيل - بعد ما أراهم كل تلك المعجزات التي لا تتهيأ لبشر ؛ والتي تشهد بأن الله وراءها ، وأن قوة الله تؤيدها ، وتؤيد من جاءت على يده . ثم على الرغم من أن المسيح جاء ليخفف عن بني إسرائيل بعض القيود والتكاليف . .
( قال : من أنصاري إلى الله ) ؟ . .
من أنصاري إلى دين الله ودعوته ومنهجه ونظامه ؟ من أنصاري إلى الله لأبلغ إليه ، وأؤدي عنه ؟
ولا بد لكل صاحب عقيدة ودعوة من أنصار ينهضون معه ، ويحملون دعوته ، ويحامون دونها ، ويلغونها إلى من يليهم ، ويقومون بعده عليها . .
( قال الحواريون : نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون ) .
فذكروا الإسلام بمعناه الذي هو حقيقة الدين ، وأشهدوا عيسى - عليه السلام - على إسلامهم هذا وانتدابهم لنصرة الله . . أي نصرة رسوله ودينه ومنهجه في الحياة .
{ فلما أحس عيسى منهم الكفر } تحقق كفرهم عنده تحقق ما يدرك بالحواس . { قال من أنصاري إلى الله } ملتجئا إلى الله تعالى أو ذاهبا أو ضاما إليه ، ويجوز أن يتعلق الجار ب{ أنصاري } مضمنا معنى الإضافة ، أي من الذين يضيفون أنفسهم إلى الله تعالى في نصري . وقيل إلى ها هنا بمعنى ( مع ) أو ( في ) أو ( اللام ) . { قال الحواريون } حواري الرجل خاصته من الحور وهو البياض الخالص ، ومه الحواريات للحضريات لخلوص ألوانهن . سمي به أصحاب عيسى عليه الصلاة والسلام لخلوص نيتهم ونقاء سريرتهم . وقيل كانوا ملوكا يلبسون البيض استنصر بهم عيسى عليه الصلاة والسلام من اليهود . وقيل قصارين يحورون الثياب أي يبيضونها . { نحن أنصار الله } أي أنصار دين الله . { آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون } لتشهد لنا يوم القيامة حين تشهد الرسل لقومهم وعليهم .
آذَنَ شرطُ لَما بجمل محذوفة ، تقديرها : فوُلِد عيسى ، وكَلم الناس في المهد بما أخبرت به الملائكة مريم ، وكلم الناس بالرسالة . وأراهم الآيات الموعودَ بها ، ودعاهم إلى التصديق به وطاعته ، فكفروا به ، فلما أحسّ منهم الكفر قال إلى آخره . أي أحسّ الكفر من جماعة من الذين خاطبهم بدعوته في قوله : { وأطيعون } [ آل عمران : 50 ] أي سمع تكذيبهم إياه وأُخبر بتمالئهم عليه . « ومنهم » متعلق بأحسّ . وضمير منهم عائد إلى معلوم من المقام يفسره وصف الكفر .
وطَلَبُ النصرِ لإظهار الدعوة لله ، موقفٌ من مواقف الرسل ، فقد أخبر الله عن نوح { فدعا رَبه أنّي مغلوب فانتصر } وقال موسى : { واجعل لي وزيراً من أهلي } [ طه : 29 ] وقد عرض النبي صلى الله عليه وسلم نفسه على قبائل العرب لينصروه حتى يُبلغ دعوة ربّه .
وقوله : { قال من أنصاري إلى الله } لعله قاله في ملإ بني إسرائيل إبْلاغاً للدعوة ، وقطعاً للمعذرة . والنصر يشمل إعلان الدين والدعوة إليه . ووصل وصْفَ { أنصاري } بإلى إما على تضمين صفة أنصار معنى الضم أي مَن ضامون نصرهم إياي إلى نصر الله إياي ، الذي وعدني به ؛ إذ لا بدّ لحصول النصر من تحصيل سببه كما هي سنّة الله : قال تعالى : { إن تنصروا الله ينصركم } [ محمد : 7 ] على نحو قوله تعالى : { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } [ النساء : 2 ] أي ضامِّينها فهو ظرف لغو ، وإما على جعله حالاً من ياء المتكلم والمعنَى في حال ذهابي إلى الله ، أي إلى تبليغ شريعته ، فيكون المجرور ظرفاً مستقراً . وعلى كلا الوجهين فالكون الذي اقتضاه المجرور هو كون من أحوال عيسى عليه السلام ولذلك لم يأت الحواريون بمثله في قولهم نحن أنصار الله .
والحواريون : لقب لأصحاب عيسى ، عليه السلام : الذين آمنوا به ولازموه ، وهو اسم معرَّب من النبطية ومفرده حواري قاله في الإتقان عن ابن حاتم عن الضحّاك ولكنه ادّعى أنّ معناه الغسال أى غسّال الثياب .
وفسّره علماء العربية بأنه من يكون من خاصّة من يضاف هو إليه ومن قرابته .
وغلب على أصحاب عيسى وفي الحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم " لكل نبيِّء حَوَارِيٌّ وحَوارِيّ الزُّبَيْر بنُ العوام " .
وقد أكثر المفسرون وأهل اللغة في احتمالات اشتقاقه واختلاف معناه وكلّ ذلك إلصاق بالكلمات التي فيها حروف الحاء والواو والراء لا يصحّ منه شيء .
والحواريون اثنا عشر رجلا وهم : سَمْعَان بطرس ، وأخوه أندراوس ، ويوحنا بن زبْدي ، وأخوه يعقوب وهؤلاء كلّهم صيادو سَمك ومتَّى العشَّار وتوما وفيليبس ، وبرثو لماوس ، ويعقوب بن حلفي ، ولباوس ، وسمعان القانوى ، ويهوذا الأسخريوطي .
وكان جواب الحواريين دالاّ على أنهم علموا أنّ نصر عيسى ليس لذاته بل هو نصر لدين الله ، وليس في قولهم : { نحن أنصار الله } ما يفيد حصراً لأنّ الإضافة اللفظية لا تفيد تعريفاً ، فلم يحصل تعريف الجزأين ، ولكنّ الحواريين بادروا إلى هذا الانتداب .
وقد آمن مع الحواريّين أفراد متفرّقون من اليهود ، مثل الذين شفى المسيح مرضاهم ، وآمن به من النساء أمّه عليها السلام ، ومريم المجدلية ، وأم يوحنا ، وحماة سمعان ، ويوثا امرأة حوزي وكيل هيرودس ، وسوسة ، ونساء أخر ولكنّ النساء لا تطلب منهنّ نصره .