البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{۞فَلَمَّآ أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنۡهُمُ ٱلۡكُفۡرَ قَالَ مَنۡ أَنصَارِيٓ إِلَى ٱللَّهِۖ قَالَ ٱلۡحَوَارِيُّونَ نَحۡنُ أَنصَارُ ٱللَّهِ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَٱشۡهَدۡ بِأَنَّا مُسۡلِمُونَ} (52)

الإحساس : الإدراك ببعض الحواس الخمس وهي : السمع والبصر والشم والذوق واللمس .

يقال : أحسست الشيء ، وحسست به .

وتبدل سينه ياء فيقال : حسيت به ، أو تحذف أولى سينيه في أحسست فيقول : أحست .

قال :

سوى ان العتاق من المطايا *** أحسن به فهن إليه شوس

وقال سيبويه : وما شذ من المضاعف ، يعني في الحذف ، فشبيه بباب : أقمت ، وذلك قولهم : أحست وأحسن يريدون : أحسست ، وأحسسن ، وكذلك يفعل بكل بناء تبنى لام الفعل فيه على السكون ولا تصل إليه الحركة ، فإذا قلت لم أحس لم تحذف .

الحواري : صفوة الرجل وخاصته .

ومنه قيل : الحضريات الحواريات لخلوص ألوانهنّ ونظافتهنّ قال أبو جَلْدة اليشكري :

فقل للحواريات يبكين غيرنا *** ولا تبكنا إلا الكلابُ النوابح

ومثله في الوزن : الحوالي ، للكثير الحيل ، وليست الياء فيهما للنسب ، وهو مشتق من : الحور ، وهو البياض .

حورت الثوب بيضته .

{ فلما أحسّ عيسى منهم الكفر } تقدّم ترتيب هذه الجملة على ما قبلها من الكلام ، وهل الحذف بعد قوله { صراط مستقيم } أو بعد قوله : { ورسولاً إلى بني إسرائيل } وذلك عند تفسير { ورسولاً إلى بني إسرائيل }

قال مقاتل : أحس ، هنا رأى من رؤية العين أو القلب وقال الفراء : أحسّ وجد وقال أبو عبيدة : عرف .

وقيل : علم وقيل : خاف .

والكفر : هنا جحود نبوّته وإنكار معجزاته ، و : منهم ، متعلق بأحس قيل : ويجوز أن يكون حالاً من الكفر .

{ قال مَن أنصاري إلى الله } لما أرادوا قتله استنصر عليهم ، قال مجاهد وقال غيره : إنه استنصر لما كفروا به وأخرجوه من قريتهم وقيل : استنصرهم لإقامة الحق .

قال المغربي : إنما قال عيسى : { من أنصاري إلى الله } بعد رفعه إلى السماء وعوده إلى الأرض ، وجمع الحواريين الأثني عشر ، وبثهم في الآفاق يدعون إلى الحق ، وما قاله من أن ذلك القول كان بعد ما ذكر بعيد جداً ، لم يذكره غيره ، بل المنقول .

والظاهر أنه قال ذلك قبل رفعه إلى السماء .

قال السدّي : من أعواني مع الله .

وقال الحسن : من أنصاري في السبيل إلى الله .

وقال أبو علي الفارسي معنى : إلى الله : لله ، كقوله : { يهدي إلى الحق } أي للحق وقيل : من ينصرني إلى نصر الله .

وقيل : من ينقطع معي إلى الله ، قاله ابن بحر وقيل : من ينصرني إلى أن أبين أمر الله وقال أبو عبيدة : من أعواني في ذات الله ؟ وقال ابن عطية : من أنصاري إلى الله .

عبارة عن حال عيسى في طلبه من يقوم بالدين ، ويؤمن بالشرع ويحميه ، كما كان محمد صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على القبائل ، ويتعرض للأحياء في المواسم .

انتهى وقال الزمخشري وإلى الله من صلة أنصاري ؟ مضمناً معنى الإضافة ، كأنه قيل : من الذين يضيفون أنفسهم إلى الله ينصرونني كما ينصرني ؟ أو يتعلق بمحذوف حالاً من الياء ، أي : من أنصاري ذاهباً إلى الله ملتجئاً إليه ؟ انتهى .

{ قال الحواريون } أي أصفياء عيسى .

قاله ابن عباس .

أو : خواصه ، قاله الفراء .

أو : البيض الثياب ، رواه ابن جبير عن ابن عباس .

أو : القصارون ، سموا بذلك لأنهم يجودون الثياب ، أي يبيضونها ، قاله الضحاك ، ومقاتل .

أو : المجاهدون ، أو : الصيادون ، قال لهم عيسى على نبينا وعليه السلام : ألا تمشون معي تصطادون الناس لله ؟ فأجابوا .

قال مصعب : كانوا اثني عشر رجلاً يسيحون معه ، يخرج لهم ما احتاجوا إليه من الأرض ، فقالوا : من أفضل منا ؟ نأكل من أين شئنا .

فقال عيسى : من يعمل بيده ؟ ويأكل من كسبه ؟ فصاروا قصَّارين وحكى ابن الأنباري : الحواريون : الملوك وقال الضحاك ، وأبو أرطاة : الغسالون وقال ابن المبارك : الحوار النور ، ونسبوا إليه لما كان في وجوههم من سيما العبادة ونورها وقال تاج القراء : الحواري : الصديق .

قيل : لما أراهم الآيات وضع لهم ألواناً شتى من حب واحد آمنوا به واتبعوه .

وقرأ الجمهور : الحواريون ، بتشديد الياء .

وقرأ إبراهيم النخعي ، وأبو بكر الثقفي ، بتخفيف الياء في جميع القرآن ، والعرب تستثقل ضمة الياء المكسور ما قبلها في مثل : القاضيون ، فتنقل الضمة إلى ما قبلها وتحذف الياء لالتقائها ساكنة مع الساكن بعدها ، فكان القياس على هذا أن يقال : الحوارون ، لكن أقرت الضمة ولم تنقل دلالة على أن التشديد مراد ، إذ التشديد يحتمل الضمة كما ذهب إليه الأخفش في : يستهزئون ، إذ أبدل الهمزة ياءً ، وحملت الضمة تذكراً لحال الهمزة المراد فيها .

{ نحن أنصار الله } أي : أنصار دينه وشرعه .

والداعي إليه .

{ آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون } لما ذكروا أنهم أنصار الله ذكروا مستنداً لإيمانهم ، لأن انقياد الجوارح تابعة لانقياد القلب وتصديقه ، والرسل تشهد يوم القيامة لقومهم ، وعليهم .

ودل ذلك على أن عيسى عليه السلام كان على دين الإسلام ، برأه الله من سائر الأديان كما برأ إبراهيم بقوله : { ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً }

الآية ، ويحتمل أن يكون : واشهد ، خطاباً لله تعالى أي : واشهد يا ربنا ، وفي هذا توبيخ لنصارى نجران ، إذ حكى الله مقالة أسلافهم المؤمنين لعيسى ، فليس كمقالهم فيه ، ودعوى الإلهية له .