قوله تعالى : { قالت الأعراب آمنا } الآية ، نزلت في نفر من بني أسد بن خزيمة قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنة مجدبة فأظهروا الإسلام ولم يكونوا مؤمنين في السر ، فأفسدوا طرق المدينة بالقاذورات ، وأغلوا أسعارها وكانوا يغدون ويروحون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون : أتتك العرب بأنفسها على ظهور رواحلها ، وجئناك بالأثقال والعيال والذراري ، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان ، يمنون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويريدون الصدقة ، ويقولون : أعطنا ، فأنزل الله فيهم هذه الآية . وقال السدي : نزلت في الأعراب الذين ذكرهم الله في سورة الفتح ، وهم أعراب جهينة ومزينة وأسلم وأشجع وغفار ، كانوا يقولون : آمنا ليأمنوا على أنفسهم وأموالهم ، فلما استنفروا إلى الحديبية تخلفوا ، فأنزل الله عز وجل هذه الآية فيهم : { قالت الأعراب آمنا } صدقنا . { قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا } انقدنا واستسلمنا مخافة القتل والسبي ، { ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } فأخبر أن حقيقة الإيمان التصديق بالقلب ، وأن الإقرار باللسان وإظهار شرائعه بالأبدان لا يكون إيماناً دون التصديق بالقلب والإخلاص . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا محمد بن غرير الزهري ، حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن صالح ، عن ابن شهاب ، أخبرني عامر بن سعد ، عن أبيه قال : أعطى النبي صلى الله عليه وسلم رهطاً وأنا جالس فيهم ، قال : فترك النبي صلى الله عليه وسلم فيهم رجلاً ولم يعطه وهو أعجبهم إلي ، فقمت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فساررته ، فقلت : مالك عن فلان ؟ والله إني لأراه مؤمناً ، قال : أو مسلماً ، قال : فسكت قليلاً ثم غلبني ما أعلم منه ، فقلت : يا رسول الله ما لك عن فلان فوالله إني لأراه مؤمناً ؟ قال : أو مسلماً ؟ فسكت قليلا ، ثم غلبني ما أعلم منه ، فقلت : يا رسول الله ما لك عن فلان ؟ فوالله إني لأراه مؤمنا قال : أو مسلما ؟ قال : { إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه خشية أن يكب في النار على وجهه " . فالإسلام هو الدخول في السلم وهو الانقياد والطاعة ، يقال : أسلم الرجل إذا دخل في السلم كما يقال : أشتى الرجل إذا دخل في الشتاء ، وأصاف إذا دخل في الصيف ، وأربع إذا دخل في الربيع ، فمن الإسلام ما هو طاعة على الحقيقة باللسان ، والأبدان والجنان ، كقوله عز وجل لإبراهيم عليه السلام : { أسلم قال أسلمت لرب العالمين } ( البقرة-131 ) ، ومنه ما هو انقياد باللسان دون القلب ، وذلك قوله : { ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } { وإن تطيعوا الله ورسوله } ظاهراً وباطناً سراً وعلانية . قال ابن عباس تخلصوا الإيمان ، { لا يلتكم } قرأ أبو عمرو { يألتكم } بالألف كقوله تعالى : { وما ألتناهم } ( الطور-21 ) ، والآخرون بغير ألف ، وهما لغتان ، معناهما : لا ينقصكم ، يقال : ألت يألت ألتاً ولات يليت ليتاً إذا نقص ، { من أعمالكم شيئاً } أي لا ينقص من ثواب أعمالكم شيئاً ، { إن الله غفور رحيم } .
{ 14-18 } { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم * يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }
يخبر تعالى عن مقالة الأعراب ، الذين دخلوا في الإسلام في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، دخولاً من غير بصيرة ، ولا قيام بما يجب ويقتضيه الإيمان ، أنهم ادعوا مع هذا وقالوا : آمنا أي : إيمانًا كاملاً ، مستوفيًا لجميع أموره هذا موجب هذا الكلام ، فأمر الله رسوله ، أن يرد عليهم ، فقال : { قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا } أي : لا تدعوا لأنفسكم مقام الإيمان ، ظاهرًا ، وباطنًا ، كاملاً .
{ وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا } أي : دخلنا في الإسلام ، واقتصروا على ذلك .
{ و } السبب في ذلك ، أنه { لَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } وإنما آمنتم خوفًا ، أو رجاء ، أو نحو ذلك ، مما هو السبب في إيمانكم ، فلذلك لم تدخل بشاشة الإيمان في قلوبكم ، وفي قوله : { وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } أي : وقت هذا الكلام ، الذي صدر منكم فكان فيه إشارة إلى أحوالهم بعد ذلك ، فإن كثيرًا منهم ، من الله عليهم بالإيمان الحقيقي ، والجهاد في سبيل الله ، { وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ } بفعل خير ، أو ترك شر { لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا } أي : لا ينقصكم منها ، مثقال ذرة ، بل يوفيكم إياها ، أكمل ما تكون لا تفقدون منها ، صغيرًا ، ولا كبيرًا ، { إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } أي : غفور لمن تاب إليه وأناب ، رحيم به ، حيث قبل توبته .
وفي ختام السورة تأتي المناسبة لبيان حقيقة الإيمان وقيمته ، في الرد على الأعراب الذين قالوا : ( آمنا )وهم لا يدركون حقيقة الإيمان . والذين منوا على رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أنهم أسلموا وهم لا يقدرون منة الله على عباده بالإيمان :
( قالت الأعراب : آمنا . قل لم تؤمنوا ، ولكن قولوا أسلمنا . ولما يدخل الإيمان في قلوبكم . وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا ، إن الله غفور رحيم . إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ، ثم لم يرتابوا ، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ، أولئك هم الصادقون . قل : أتعلمون الله بدينكم ? والله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ، والله بكل شيء عليم . يمنون عليك أن أسلموا . قل : لا تمنوا علي إسلامكم ، بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين . إن الله يعلم غيب السماوات والأرض ، والله بصير بما تعملون ) . .
قيل : إنها نزلت في أعراب بني أسد . قالوا : آمنا . أول ما دخلوا في الإسلام . ومنوا على رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قالوا : يا رسول الله أسلمنا وقاتلتك العرب ولم نقاتلك . فأراد الله أن يعلمهم حقيقة ما هو قائم في نفوسهم وهم يقولون هذا القول . وأنهم دخلوا في الإسلام استسلاما ، ولم تصل قلوبهم بعد إلى مرتبة الإيمان . فدل بهذا على أن حقيقة الإيمان لم تستقر في قلوبهم . ولم تشربها أرواحهم : ( قل : لم تؤمنوا . ولكن قولوا : أسلمنا . ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ) . .
ومع هذا فإن كرم الله اقتضى أن يجزيهم على كل عمل صالح يصدر منهم لا ينقصهم منه شيئا . فهذا الإسلام الظاهر الذي لم يخالط القلب فيستحيل إيمانا واثقا مطمئنا . هذا الإسلام يكفي لتحسب لهم أعمالهم الصالحة فلا تضيع كما تضيع أعمال الكفار . ولا ينقص من أجرها شيء عند الله ما بقوا على الطاعة والاستسلام : ( وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا ) . ذلك أن الله أقرب إلى المغفرة والرحمة ، فيقبل من العبد أول خطوة ، ويرضى منه الطاعة والتسليم إلى أن يستشعر قلبه الإيمان والطمأنينة : ( إن الله غفور رحيم ) . .
{ قالت الأعراب آمنا } نزلت في نفر من بني أسد قدموا المدينة في سنة جدبة وأظهروا الشهادتين ، وكانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم أتيناك بالأثقال والعيال ، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان يريدون الصدقة ويمنون . { قل لم تؤمنوا } إذ الإيمان تصديق مع ثقة وطمأنينة قلب ، ولم يحصل لكم إلا لما مننتم على الرسول صلى الله عليه وسلم بالإسلام وترك المقاتلة كما دل عليه آخر السورة . { ولكن قولوا أسلمنا } فإن الإسلام انقياد ودخول في السلم وإظهار الشهادتين وترك المحاربة ، يشعر به وكان نظم الكلام أن يقول لا تقولوا آمنا { ولكن قولوا أسلمنا } ، أو لم تؤمنوا ولكن أسلمتم فعدل منه إلى هذا النظم احترازا من النهي عن القول بالإيمان والجزم بإسلامهم ، وقد فقد شرط اعتباره شرعا . { ولما يدخل الإيمان قلوبكم } توقيت ل { قولوا } فإنه حال من ضميره أي : { ولكن قولوا أسلمنا } ولم تواطئ قلوبكم ألسنتكم بعد . { وإن تطيعوا الله ورسوله } بالإخلاص وترك النفاق . { لا يلتكم من أعمالكم } لا ينقصكم من أجورها . { شيئا } من لات يليت ليتا إذا نقص ، وقرأ البصريان " لا يألتكم " من الألت وهو لغة غطفان . { إن الله غفور } لما فرط من المطيعين . { رحيم } بالتفضل عليهم .
قوله تعالى :{ قالت الأعراب آمنا } ، قال مجاهد : نزلت في بني أسد بن خزيمة ، وهي قبيلة كانت تجاور المدينة ، وكانوا قد أظهروا الإسلام ، وكانت نفوسهم-مع ذلك- دخلة{[10498]} ، إنما يحبون المغانم وعرض الدنيا ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : وذهبوا مرة إلى أن يتسموا بالمهاجرين ، فنزلت هذه الآية مسمية لهم بالأعراب ، مُعرفة لهم بذلك أقدارهم ، ومُخرجة ما في صدورهم من صورة معتقدهم ، وهم أعراب مخصوصون كما ذكرنا ، قال أبو حاتم عن ابن الزبير : سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يقرأ :{ قالت الأعراب } بغير همز ، فرد عليه بهمز وقطع . وقد أخبر الله تعالى أن في الأعراب على الجملة من يؤمن بالله واليوم الآخر ، فأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول لهؤلاء المُدّعين في الإيمان :{ لم تؤمنوا } ، أي لم تصدقوا بقلوبكم { ولكن قولوا أسلمنا } . والإسلام يقال بمعنيين ، أحدهما : الدين يعم الإيمان والأعمال ، وهو الذي في قوله : { إن الدين عند الله الإسلام }{[10499]} [ آل عمران : 19 ] والذي في قوله صلى الله عليه وسلم : «بني الإسلام على خمس »{[10500]} والذي في تعليم النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل حين قال له : ما الإسلام ؟ قال : ( بأن تعبد الله وحده ولا تشرك به شيئاً ، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا ){[10501]} ، والذي في قوله لسعد بن أبي وقاص : «أو مسلماً ، إني لأعطي الرجل وغيره أحب إليَّ منه »{[10502]} الحديث ، فهذا الإسلام ليس هو في قوله : { ولكن قولوا أسلمنا } والمعنى الثاني للفظ الإسلام : هو الاستسلام والإظهار الذي يستعصم به ويحقن الدم ، وهذا هو الإسلام في قوله : { ولكن قولوا أسلمنا } ، و { الإيمان } الذي هو التصديق أخص من الأول وأعم بوجه ، ثم صرح لهم بأن { الإيمان } لم يدخل قلوبهم ثم فتح لهم باب التوبة بقوله : { وإن تطيعوا الله } الآية ، وطاعة الله ورسوله في ضمنها الإيمان والأعمال .
وقرأ جمهور القراء : «لا يلتكم » من لات يليت إذا نقص ، يقال : لاته حقه إذا نقصه منه ، ولت السلطان إذا لم يصدقه فيما سأل عنه . وقرأ أبو عمرو والأعرج والحسن وعمرو : «لا يألتكم » من ألت يألت وهو بمعنى : لات ، وكذلك يقال : ألتِ بكسر اللام يألت ، ويقال أيضاً في معنى لات ، ألت يولت ولم يقرأ بهذه اللغة وباقي الآية ترجية .
كان من بين الوفود التي وفدت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنة تسع المسماة سنةَ الوفود ، وفْدُ بني أسدٍ بننِ خُزيمة وكانوا ينزلون بقرب المدينة ، وكان قدومهم المدينة عقب قدوم وفد بني تميم الذي ذُكر في أول السورة ، ووفَدَ بنُو أسد في عدد كثير وفيهم ضِرار بن الأزْوَر ، وطُلَيْحَة بن عبد الله ( الذي ادعى النبوءة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أيام الردة ) ، وكانت هذه السنة سنة جدب ببلادهم فأسلموا وكانوا يقولون للنبيء صلى الله عليه وسلم أتتك العرب بأنفسها على ظهور رواحلها وجئناك بالأثقال والعيال والذراري ولمْ نقاتلك كما قاتلك محارب خَصَفَةَ وهوازنُ وغَطفانَ . يفدون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويروحون بهذه المقالة ويمنُّون عليه ويريدون أن يَصرف إليهم الصدقات ، فأنزل الله فيهم هذه الآيات إلى آخر السورة لوقوع القصتين قصة وفد بني تميم وقصة وفد بني أسد في أيام متقاربة ، والأغراض المسكوَّة بالجَفاء متناسبة . وقال السدّي : نزلت في الأعراب المذكورين في سورة الفتح ( 11 ) في قوله تعالى : { سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا } الآية .
قالوا آمنا ليأمنوا على أنفسهم وأموالهم فلما استنفروا إلى الحديبية تخلفوا فنزلت هذه الآية .
والأعراب : سكان البادية من العَرب . وأحسب أنه لا يطلق على أهل البادية من غير العرب ، وهو اسم جمع لا مفرد له فيكون الواحد منه بياء النسبة أعرابي .
وتعريف { الأعراب } تعريف العهد لإعراب معينين وهم بنو أسد فليس هذا الحكم الذي في الآية حاقاً على جميع سكان البوادي ولا قال هذا القول غير بني أسد .
وهم قالوا آمنا حين كانوا في شك لم يتمكن الإيمان منهم فأنبأهم الله بما في قلوبهم وأعلمهم أن الإيمان هو التصديق بالقلب لا بمجرد اللسان لقصد أن يخلصوا إيمانهم ويتمكنوا منه كما بينه عقب هذه الآية بقوله : { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله } الآية .
والاستدراك بحرف ( لكن ) لرفع ما يتوهم من قوله : { لم تؤمنوا } أنهم جاؤوا مضمرين الغدْر بالنبي صلى الله عليه وسلم وإنما قال : { ولكن قولوا أسلمنا } تعليماً لهم بالفرق بين الإيمان والإسلام فإن الإسلام مَقرُّه اللسان والأعمالُ البدنية ، وهي قواعد الإسلام الأربعة : الصلاة والزكاة وصيام رمضان وحج الكعبة الوارد في حديث عمر عن سُؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان والساعة « الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله محمداً رسول الله وتقيم الصلاة وتأتي الزكاة وتصوم رمضان وتحُجّ البيت إن استطعتَ إليه سبيلا » فهؤلاء الأعراب لما جاءوا مظهرين الإسلام وكانت قلوبهم غير مطمئنة لعقائد الإيمان لأنهم حديثو عهد به كذبهم الله في قولهم { آمنَّا } ليعلموا أنهم لم يخف باطنهم على الله ، وأنه لا يتعدّ بالإسلام إلا إذا قارنه الإيمان ، فلا يغني أحدهما بدون الآخر ، فالإيمان بدون إسلام عناد ، والإسلام بدون إيمان نفاق ، ويجمعهما طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .
وكان مقتضى ظاهر نظم الكلام أن يقال : قل لم تؤمنوا ولكن أسلمتم ، أو أن يقال : قل لا تقولوا آمنا ولكن قولوا أسلمنا ، ليتوافق المستدرك عنه والاستدراك بحسب النظم المتعارف في المجادلات ، فعدل عن الظاهر إلى هذا النظم لأن فيه صراحة بنفي الإيمان عنهم فلا يحسبوا أنهم غالطوا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
واستغني بقوله : { لم تؤمنوا } عن أن يقال : لا تقولوا آمنا ، لاستهجان أن يخاطبوا بلفظ مُؤدّاه النهي عن الإعلان بالإيمان لأنهم مطالبون بأن يؤمنوا ويقولوا آمنا قولا صادقاً لا كاذباً فقيل لهم { لم تؤمنو } تكذيباً لهم مع عدم التصريح بلفظ التكذيب ولكن وقع التعريض لهم بذلك بعد في قوله : { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا } إلى قوله : { أولئك هم الصادقون } أي لا أنتم ولذلك جيء بالاستدراك محمولاً على المعنى .
وعدل عن أن يقال : ولكن أسلمتم إلى { قولوا أسلمنا } تعريضاً بوجوب الصدق في القول ليطابق الواقع ، فهم يشعرون بأن كذبهم قد ظهر ، وذلك مما يُتعير به ، أي الشأن أن تقولوا قولاً صادقاً .
وقوله : { ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } واقع موقع الحال من ضمير { لم تؤمنوا } وهو مبيّنٌ لمعنى نفي الإيمان عنهم في قوله : { لم تؤمنوا } بأنه ليس انتفاء وجود تصديق باللسان ولكن انتفاء رسوخه وعقد القلب عليه إذ كان فيهم بقية من ارتياب كما أشعر به مقابلته بقوله : { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا } .
واستعير الدخول في قوله : { ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } للتمكن وعدم التزلزل لأن الداخل إلى المكان يتمكن ويَسْتقر والخارج عنه يكون سريع المفارقة له مستوفزاً للانصراف عنه .
و ( لمّا ) هذه أخت ( لم ) وتدل على أن النفي بها متصل بزمان التكلم وذلك الفارق بينها وبين ( لم ) أختها . وهذه الدلالة على استمرار النفي إلى زمن التكلم تؤذن غالباً ، بأن النمفي بها متوقع الوقوع . قال في « الكشاف » « وما في ( لمّا ) من معنى التوقع دال على أن هؤلاء قد آمنوا فيما بعد » .
وهي دلالة من مستتبعات التراكيب . وهذا من دقائق العربية . وخالف فيه أبو حيان والزمخشري حجة في الذوق لا يدانيه أبو حيان ، ولهذا لم يكن قوله : { ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } تكريراً مع قوله : { لم يؤمنوا } .
وقوله : { وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئاً } إرشاد إلى دواء مرض الحال في قلوبهم من ضعف الإيمان بأنه إن يطيعوا الله ورسوله حَصل إيمانهم فإن مما أمر الله به على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بيان عقائد الإيمان بأن يقبلوا على التعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم مدة إقامتهم بالمدينة عوضاً عن الاشتغال بالمَنّ والتعريض بطلب الصدقات .
ومعنى { لا يلتكم } لا يُنقصكم ، يقال : لاته مثل باعه . وهذا في لغة أهل الحجاز وبني أسد ، ويقال : التَه ألَتاً مثل : أمره ، وهي لغة غطفان قال تعالى : { وما ألتناهم من عملهم من شيء } في سورة الطور ( 21 ) .
وقرأ بالأولى جمهور القراء وبالثانية أبو عمرو ويعقوب . ولأبي عمرو في تحقيق الهمزة فيها وتخفيفها ألفا روايتان فالدُّوري روى عنه تحقيق الهمزة والسوسي روى عنه تخفيفها .
وضمير الرفع في { يلتكم } عائد إلى اسم الله ولم يقل : لا يَلِتَاكم بضمير التثنية لأنّ الله هو متولي الجزاء دون الرسول صلى الله عليه وسلم .
والمعنى : إن أخلصتم الإيمان كما أمركم الله ورسوله تقبَّل الله أعمالكم التي ذكرتم من أنكم جئتم طائعين للإسلام من غير قتال .
وجملة { إن الله غفور رحيم } استئناف تعليم لهم بأن الله يتجاوز عن كذبهم إذا تابوا ، وترغيب في إخلاص الإيمان لأن الغفور كثير المغفرة شديدُها ، ومن فرط مغفرته أنه يجازي على الأعمال الصالحة الواقعة في حالة الكفر غيرَ معتدّ بها فإذا آمن عاملها جوزي عليها بمجرد إيمانه وذلك من فرط رحمته بعباده .
وترتيب { رحيم } بعد { غفور } لأن الرحمة أصل للمغفرة وشأن العلة أن تورد بعد المعلل بها .