نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{۞قَالَتِ ٱلۡأَعۡرَابُ ءَامَنَّاۖ قُل لَّمۡ تُؤۡمِنُواْ وَلَٰكِن قُولُوٓاْ أَسۡلَمۡنَا وَلَمَّا يَدۡخُلِ ٱلۡإِيمَٰنُ فِي قُلُوبِكُمۡۖ وَإِن تُطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ لَا يَلِتۡكُم مِّنۡ أَعۡمَٰلِكُمۡ شَيۡـًٔاۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ} (14)

ولما أمر سبحانه بإجلال رسوله صلى الله عليه وسلم وإعظامه ، ونهى عن أذاه في نفسه أو في أمته ، ونهى عن التفاخر الذي هوسبب التقاطع والتداحر ، وختم بصفة الخبر ، دل عليها بقوله مشيراً-{[60919]} إلى أنه لا يعتد بشيء مما أمر به أو نهى عنه إلا مع الإخلاص فقال : { قالت الأعراب } أي أهل البادية من بني أسد وغيرهم الذين هم معدن الغلظة والجفاء-{[60920]} الذين تقدم تأديبهم{[60921]} في سورة الفتح ، وألحق التاء في فعلهم إشارة إلى ضعفهم في العزائم ، قال ابن برجان : هم قوم شهدوا شهادة الحق {[60922]}وهم لا{[60923]} يعلمون ما شهدوا به غير أن أنفسهم ليست-{[60924]} تنازعهم إلى التكذيب : { آمنا } أي-{[60925]} بجميع ما جئت به فامتثلنا ما أمرنا به في هذه السورة ولنا النسب الخالص ، فنحن أشرف من غيرنا من أهل المدر .

ولما كان الإيمان التصديق بالقلب فلا اطلاع عليه لآدمي إلا بإطلاعه سبحانه فكانوا كاذبين في دعواه ، قال : { قل } أي تكذيباً لهم مع مراعاة الأدب في عدم التصريح بالتكذيب : { لم تؤمنوا } أي لم تصدق قلوبكم لأنكم لو أمنتم لم تمنوا{[60926]} بإيمانكم لأن الإيمان التصديق بجميع ما لله من الكمال الذي منه أنه لولا منه بالهداية لم يحصل الإيمان ، فله ولرسوله - الذي كان ذلك على يديه - المن والفضل .

ولما كان التقدير ما كان {[60927]}الأصل في{[60928]} أن يكون الرد به وهو : فلا تقولوا : آمنا ، فإنه كذب ، وعدل عنه للاحتراز عن النهي عن القول بالإيمان ، عطف عليه قوله : { ولكن قولوا } لأنكم أسلمتم للدنيا لا للدين ، وعدل عنه لئلا تكون شهادة لهم بالإسلام {[60929]}في الجملة{[60930]} : { أسلمنا } أي أظهرنا الانقياد في الظاهر للأحكام الظاهرة فأمنا من أن نكون حزباً للمؤمنين وعوناً للمشركين ، يقول : أسلم الرجل - إذا دخل في السلم ، كما يقال : أشتى - إذا دخل في الشتاء ، ولم يقل : ولكن أسلمتم ، لما فيه من الشهادة لهم بالإسلام الملازم للإيمان المنفي عنه ، فكان يكون تناقضاً ، والآية من الاحتباك : نفي الإيمان الشرعي أولاً يدل على إثبات الإسلام اللغوي ثانياً ، والأمر بالقول بالإسلام-{[60931]} ثانياً يدل على النهي عن القول بالإيمان أولاً-{[60932]} .

ولما كانت " لم " غير مستغرقة ، عطف عليها ما يستغرق {[60933]}ما مضى من{[60934]} الزمان كله ليكون الحكم بعدم إيمانهم مكتنفاً بأمرهم بالاقتصاد على الإخبار بإسلامهم ، فقال معلماً بأن ما يجتهدون في إخفائه {[60935]}منكشف لديه{[60936]} " ألا يعلم من خلق " . { ولما يدخل{[60937]} } أي-{[60938]} إلى هذا الوقت { الإيمان } أي-{[60939]} المعرفة التامة { {[60940]}في قلوبكم{[60941]} } فلا يعد إقرار اللسان إيماناً إلا بمواطأة القلب ، فعصيتم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وأحبطتم أعمالكم ، والتعبير ب " لما " يفهم أنهم آمنوا بعد ذلك ، ويجوز أن يكون المراد بهذا النفي نفي التمكن في القلب ، لا نفي مطلق الدخول بدليل { إنما المؤمنون } دون { إنما-{[60942]} الذين آمنوا } .

ولما كان التقدير : فإن تؤمنوا{[60943]} يعلم الله ذلك من قلوبكم غنياً عن قولكم ، عطف عليه قوله ترغيباً لهم في التوبة : { وإن تطيعوا الله } أي الملك الذي من خالفه لم يأمن عقوبته { ورسوله } الذي طاعته من طاعته على ما أنتم عليه من الأمر الظاهري فتؤمن قلوبكم { لا يلتكم } أي ينقصكم ويبخسكم{[60944]} من لاته يليته ، وهي لغة أهل الحجاز ، وقرأ البصريان{[60945]} : {[60946]}يألتكم من الألت وهو{[60947]} النقص أيضاً ، وهي لغة أسد وغطفان ، وهما المخاطبون بهذه الآية المعاتبون بها ، قال أبو حيان{[60948]} : قال مجاهد : نزلت في بني أسد بن خزيمة - انتهى . فلذلك اختار أبو عمرو القراءة بها ، وعدل عن لغة الحجاز { من أعمالكم شيئاً } فلا حاجة إلى إخباركم عن إيمانكم بغير ما يدل عليه من الأقوال والأفعال ، قال ابن برجان : فعموم الناس وأكثر أهل الغفلة مسلمون غير مؤمنين ، فإن يعلموا علم ما شهدوا وعقدوا عليه عقداً{[60949]} علماً ويقيناً فهم المؤمنون . وفي الآية احتباك من وجه آخر : ذكر عدم الإيمان أولاً دليلاً على إثباته ثانياً ، وذكر توفير الأعمال ثانياً دليلاً {[60950]}على بخسها{[60951]} أو إحباطها أولاً ، وسره أنه نفى أساس الخير أولاً ورغب في الطاعة بحفظ ما تعبوا عليه-{[60952]} من الأعمال ثانياً{[60953]} .

ولما كان الإنسان مبنياً على النقصان ، فلو وكل إلى عمله هلك ، ولذهب عمله فيما يعتريه من النقص ، قال مستعطفاً لهم-{[60954]} إلى التوبة ، مؤكداً تنبيهاً على أنه مما يحق تأكيده{[60955]} لأن الخلائق-{[60956]} لا يفعلون مثله : { إن الله } أي الذي له صفات الكمال { غفور } أي ستور للهفوات والزلات لمن تاب وصحت نيته ، ولغيره إذا أراد ، فلا عتاب ولا عقاب { رحيم * } أي يزيد على الستر عظيم الإكرام .


[60919]:زيد من مد.
[60920]:زيد من مد.
[60921]:من مد، وفي الأصل: تذبذبهم.
[60922]:من مد، وفي الأصل: هم.
[60923]:من مد، وفي الأصل: هم.
[60924]:زيد من مد.
[60925]:زيد من مد.
[60926]:من مد، وفي الأصل: لم تؤمنوا.
[60927]:من مد، وفي الأصل: و.
[60928]:من مد، وفي الأصل: و.
[60929]:سقط ما بين الرقمين من مد.
[60930]:سقط ما بين الرقمين من مد.
[60931]:زيد من مد.
[60932]:زيد من مد.
[60933]:في مد: ماضي.
[60934]:في مد: ماضي.
[60935]:في الأصل: منكثفا يديه، وفي مد: منكثفا لديه.
[60936]:في الأصل: منكثفا يديه، وفي مد: منكثفا لديه.
[60937]:زيد في الأصل: الإيمان، ولم تكن الزيادة في مد فحذفناها.
[60938]:زيد من مد.
[60939]:زيد من مد.
[60940]:ليس ما بين الرقمين في الأصل.
[60941]:ليس ما بين الرقمين في الأصل.
[60942]:زيد من مد.
[60943]:من مد، وفي الأصل: لم تومنوا.
[60944]:من مد، وفي الأصل: يحبسكم.
[60945]:راجع نثر المرجان 6/676.
[60946]:من مد، وفي الأصل: يلتكم من الات وهي.
[60947]:من مد، وفي الأصل: يلتكم من الات وهي.
[60948]:في البحر المحيط 8/117.
[60949]:سقط من مد.
[60950]:من مد، وفي الأصل: بخرها.
[60951]:من مد، وفي الأصل: بخرها.
[60952]:زيد من مد.
[60953]:زيد في الأصل: انتهى، ولم تكن الزيادة في مد فحذفناها.
[60954]:زيد من مد.
[60955]:في مد: توكيده.
[60956]:زيد من مد.