الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{۞قَالَتِ ٱلۡأَعۡرَابُ ءَامَنَّاۖ قُل لَّمۡ تُؤۡمِنُواْ وَلَٰكِن قُولُوٓاْ أَسۡلَمۡنَا وَلَمَّا يَدۡخُلِ ٱلۡإِيمَٰنُ فِي قُلُوبِكُمۡۖ وَإِن تُطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ لَا يَلِتۡكُم مِّنۡ أَعۡمَٰلِكُمۡ شَيۡـًٔاۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ} (14)

{ قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا } الآية نزلت في نفر من بني أسد بن خزيمة ، ثمّ من بني الحلاف بن الحارث بن سعيد ، قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة في سنة جدبة ، وأظهروا شهادة أن لا إله إلاّ الله ، ولم يكونوا مؤمنين في السرّ ، وأفسدوا طرق المدينة بالعدوان ، وأغلوا أسعارها ، وكانوا يغدون ، ويروحون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولون : أتتك العرب بأنفسها على ظهور رواحلها ، وجئناك بالأفعال ، والعيال والذراري ، يمنون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان ، وبنو فلان ، ويريدون الصدقة ، ويقولون : أعطنا ، فأنزل الله سبحانه فيهم هذه الآية .

وقال السدي : نزلت في الأعراب الذين ذكرهم الله في سورة الفتح ، وهم أعراب مزينة ، وجهينة ، وأسلم ، وأشجع ، وغفار ، كانوا يقولون : آمنّا بالله ، ليأمنوا على أنفسهم ، وأموالهم ، فلمّا استُنفروا إلى الحديبية تخلّفوا ، فأنزل الله سبحانه : { قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا } أي انقَدنَا واستسلمنا مخافة القتل والسبي . { وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } فأخبر أنّ حقيقة الإيمان التصديق بالقلب ، وأنّ الإقرار به باللسان ، وإظهار شرائعه بالأبدان ، لا يكون إيماناً دون الإخلاص الذي محلّه القلب ، وأنّ الإسلام غير الإيمان .

يدلّ عليه ما أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله الجوزقي ، قرأه عليه محمّد بن زكريا في شهر ربيع الأوّل سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة ، قال : أخبرنا أبو العبّاس محمد بن الدغولي ، قال : حدّثنا محمّد بن الليث المروزي ، قال : حدّثنا عبدالله بن عثمان بن عبدان ، قال : حدّثنا عبد الله ابن المبارك ، قال : أخبرنا يونس ، عن الزهري .

قال : أخبرني عامر ، عن سعد بن أبي وقّاص " أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أُعطي رهطاً ، وسعد جالس فيهم ، فقال سعد : فترك رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً منهم ، فلم يعطه ، وهو أعجبهم إليّ . فقلت : يا رسول الله ما لك عن فلان ؟ فوالله إنّي لأراه مؤمناً ، فقال رسول الله : " أو مُسلماً " .

فسكت قليلاً ، ثمّ غلبني ما أعلم منه ، فقلت : يا رسول الله ما لك عن فلان ، فوالله إنّي لأراه مؤمناً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أو مُسلماً " .

فسكتُ قليلاً ، ثمّ غلبني ما أعلم منه ، فقلت : يا رسول الله ما لك عن فلان ، فوالله إنّي لأراه مؤمناً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أو مسلماً ، فإنّي لأعطي الرجل ، وغيره أحبّ إليّ منه خشية أن يكبّ في النار على وجهه " " .

فاعلم أنّ الإسلام الدخول في السلم ، وهو الطاعة والانقياد ، والمتابعة ، يقال : أسلم الرجل إذا دخل في السلم وهو الطاعة والانقياد والمتابعة . يقال : أسلم الرجل إذا دخل في السلم ، كما يقال : أشتى الرجل إذا دخل في الشتاء ، وأصاف إذا دخل في الصيف ، وأربع إذا دخل في الربيع ، وأقحط إذا دخل في القحط ، فمن الإسلام ما هو طاعة على الحقيقة باللسان والأبدان فالجنان ، كقوله عزّ وجلّ لإبراهيم :

{ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ } [ البقرة : 131 ] ، وقوله :

{ فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ } [ الذاريات : 35-36 ] .

ومنه ما هو انقياد باللسان دون القلب وذلك قوله : { وَلَكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا } بيانه قوله سبحانه : { وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } .

{ وَإِن تُطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } ظاهراً وباطناً ، سرّاً وعلانيّةً { لاَ يَلِتْكُمْ } ( بالألف ) أبو عمر ، ويعقوب ، واختاره أبو حاتم اعتباراً بقوله :

{ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ } [ الطور : 21 ] يقال ألت يألت ألتاً ، قال الشاعر :

أبلغ بني ثعل عني مغلغلة *** جهد الرسالة لا ألتاً ولا كذبا

وقرأ الآخرون ( يلتكم ) من لات يليت ليتاً ، كقول رؤبة :

وليلة ذات ندىً سريتُ *** ولم يلتني عن سراها ليتُ

ومعناهما جميعاً لا ينقصكم ، ولا يظلمكم . { مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }