اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{۞قَالَتِ ٱلۡأَعۡرَابُ ءَامَنَّاۖ قُل لَّمۡ تُؤۡمِنُواْ وَلَٰكِن قُولُوٓاْ أَسۡلَمۡنَا وَلَمَّا يَدۡخُلِ ٱلۡإِيمَٰنُ فِي قُلُوبِكُمۡۖ وَإِن تُطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ لَا يَلِتۡكُم مِّنۡ أَعۡمَٰلِكُمۡ شَيۡـًٔاۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ} (14)

قوله تعالى{[52164]} : { قَالَتِ الأعراب آمَنَّا } الآية . لما قالت تعالى : { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أَتْقَاكُمْ } [ الحجرات : 13 ] والاتّقاء لا يكون إلا بعد حصُول التقوى وأصله الإيمان والاتِّقاء من الشِّرك قالت الأعراب يكون لنا النسب الشريف يكون{[52165]} لنا الشرف قال{[52166]} الله تعالى : ليس الإيمان بالقول إنما بالقلب ، فما آمنتم فإن الله خبير بعلم ما في «الصدور » ولكن قولوا أسلمنا أي أنْقَدْنَا{[52167]} وأَسْلَمْنَا{[52168]} . قيل : نزلت في نَفَرٍ من بني أسد بن خزيمة ، قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سَنةٍ مُجَدِبَةٍ ، فأظهروا الإِسلام ولم يكونوا مؤمنين في السر طالبين الصدقة فأفسدوا طرق المدينة بالقاذورات وكانوا يغتدون{[52169]} وَيُروحُون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولون : أَتَتْكَ العرب بأنفسها على ظهور رَوَاحِلهَا ، وجئناك بالأثقال والعِيَال والذَّرارِي ولم نُقاتِلكَ كما قاتَلَكَ بنُو فلان يَمُنُّون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويريدون الصدقة ، ويقولون أَعْطِنَا ، فانزل الله تعالى فيهم هذه الآية . وقال السدي : نزلت في الأعراب الذين الله تعالى في سورة الفتح وهم جُهَيْنَةُ ومُزَيْنَةُ وأَسْلَمُ ، وأشْجَعُ وغِفَار وكانوا يقولون : آمنًّا ليأمَنُوا على أنفسهم وأموالهم فلما استنفروا إلى الحديبية تخلفوا فأنزل الله تعالى : { قَالَتِ الأعراب آمَنَّا } صدقنا { قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا } أنقَذْنا{[52170]} واسْتَسْلَمْنَا مخالفَة القتل والسَّبْي{[52171]} .

قال ابن الخطيب : وقد بينا أن ذلك كالتاريخ للنزول لا للاختصاص بهم ، فكل من أظهر فعل التقوى أراد أن يصير له ما للمتقي من الإكرام ولا يحصل له ذلك لأن التقوى من عمل القلب{[52172]} .

قوله : «وَلَمَّا يَدْخُلْ » هذه الجملة مستأنفة ، أخبر تعالى بذلك . وجعلها الزمخشري حالاً مستقرّة في : «قَولُوا »{[52173]} وقد تقدم الكلام في «لما » وما تدل عليه ، والفرق بينها وبين «لم » في البقرة عند قوله تعالى : { وَلَمَّا يَأْتِكُم } [ البقرة : 214 ] .

وقال الزمخشري : فإن قلت : هو بعد قوله : «لَمْ تُؤمِنُوا » : يشبه التكرير من غير استقلال بفائدة متجدِّدة ! .

قلت : ليس كذلك ، فإن فائدة قوله : لم تُؤْمِنُوا هو تكذيب دعواهم . وقوله : «وَلَمَّا يَدْخُل » توقيت لِمَا أمروا به أن يقولوه . ثم قال : «ولما{[52174]} في «لمّا » من معنى التوقيع دليل على أن هؤلاء قد آمنوا فيم بعده »{[52175]} ، قال أبو حيان : فلا أدري من أي وجه يكون النفي{[52176]} بِلَمَّا يقع بعد ؟ !{[52177]} . قال شهاب الدين : لأنَّها لنفي قَدْ فَعل ، وقَدْ للتَّوَقع .

فصل

قال ابن الخطيب : لَمْ ولَمَّا حَرْفَا نفي ، ومَا ، وإنْ ولاَ كذلك من حروف النفي ولَمْ ولَمَّا يجزمان وغيرهما من حروف النفي لا يجزم فما الفرق بينهما ؟ .

فالجواب : أن لم ولما يفعلان بالفعل ما لا يفعل به غيرهما ، فإنهما يَصْرِفَان معناه من الاستقبال إِلى النفي تقول : لَمْ يُؤْمِنْ أَمْسِ ، وآمَنَ اليَوْمَ ، ولا تقول : لاَ يُؤْمِنُ أَمْسِ ، فلما فعلا بالفعل ما لم يفعل به غيرهما جزم بهما .

فإن قيل : مع هذا : لم جزم بهما ؟ غاية ما في الباب أن الفرق حصل ولكن ما الدليل على وجوب الجزم بهما ؟ نقول : لأن الجزمَ والقَطْع يَحْصل في الأفعال الماضية ؛ لأنَّ من قال فقد حصل القطع بقيامه ولا يجوز أن يكون ما قام ، والأفعال المستقبلة إما متوقعة الحصول وإما ممكنة من غير تَوَقُّع ، فلا يمكن الجزم والقطع فيه ، فإذا كان «لَمَّا ولَمْ » يَقْلِبَان اللَّفظَ من الاستقبالِ إلى المُضِيِّ أفاد الجزم والقطع في المعنى فجعل له مناسباً والقطع في المعنى فجعل له مناسباً لمعناه وهو الجزم لفظاً ، وعلى هذا نقول : إذا كان السببُ في الجزم ما ذكرنا فلهذا قيل : الأمر يجزم ، لأن الآمرّ كأنه جزم على المأمور أن يفعله ولا يتركه ، فأتى بلفظ مجزوم تنبيهاً على أنّ الفعل لا بد من إيقاعه و «إنْ » في الشرط ك «لَمْ » لأن «إنْ » تغير معنى الفعل من المُضِيِّ إلى الاستقبال كما أن «لَمْ » تغيِّره من الاستقبال إلى المُضِي تقول : إِنْ أكْرَمْتَنِي أُكْرِمْكَ ، فلما كان «إنْ » مثلُ «لَمْ » في كونه حرفاً ، وفي لزوم الدخول على الأفعال وتغييرها صار جازماً للشبه اللَّفْظيِّ وأما الجزاء فجزم لِمَا ذَكَرْنا مِن المعنى ، فإن الجزاء يجزم لوقوعه عند وجود الشرط فجَزْمُهُ إِذَنْ إمَّا للْمعْنَى ، أو للشبه اللفظي{[52178]} .

فصل

أخبر الله تعالى أنَّ حقيقة الإيمان هو التصديق بالقلب ، وأن الإقرار باللِّسان وإظهار شرائعه بالإيمان لا يكون إيماناً دون التصديق بالقلب والإخلاص والإسلامُ هو الدخول في السِّلم ، وهو الانقياد والطاعة يقال : أسْلَمَ الرَّجُلُ إذا دخل في الإسلام والسِّلْم ، كما يقال أَشْتَى إذَا دَخَلَ في الشِّتَاء ، وأَصَافَ إذَا دخَلَ في الصَّيْفِ ، وأرْبَعَ إذا دخل في الرَّبِيع ، فمن الإسلام ما هو طاعة على الحقيقة باللسان والأبدان والجنان كقوله عز وجلّ لإبراهيم : { أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العالمين } [ البقرة : 131 ] ومنها : ما هو انقياد باللِّسان دون القلب وذلك قوله : { ولكن قولوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ } .

قال ابن الخطيب : المؤمن والمسلم واحد عن أهل السنة فيكون الفرق بين العام والخاص أن الإيمان لا يحصل إلا بالقلب والانقياد قد يحصل بالقلب وقد يحصل باللسان والإسلام أعم لكن العام في صورة الخاص متَّحد مع الخاص ولا يكون أمراً آخر غيره .

مثاله : الحَيَوَان أَعَمُّ من الإنسان ، لكن الحيوان في صورة الإنسان ( ليس{[52179]} ) أمراً ينفكُّ عن الإنسان ويجوز أن يكون ذلك الحيوانُ حيواناً ولا يكون إنساناً ، فالعام والخاص مختلفان في العموم متحدان في الوجود وكذلك المؤمن والمسلم .

وسيأتي بقية الكلام عن ذلك في الذَّاريات عند قوله : { فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ المؤمنين فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ المسلمين } [ الذاريات : 35 و36 ] إن شاء الله تعالى .

قال ابن الخطيب : وفي الآية إشارة إلى بيان حال المؤلَّفة إذا أسلموا ويكون إيمانهم ( ( بعد ) ضعيفاً{[52180]} ) قال{[52181]} لهم : لَمْ تؤمنوا لأن الإيمان إيقانٌ وذلك بعد لم يدخل في قلوبكم وسيدخل باطّلاعكم على محاسن الإسلام{[52182]} .

قوله : { وَإِن تُطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ } أي ظاهراً وباطناً سراً وعلانية . قال ابن عباس : تُخْلِصُوا الإيمان{[52183]} .

قوله : «لاَ يَلتكُمْ » قرأ أبو عمرو : «لا يألتكم » بالهمز{[52184]} من أَلَتَهُ يَأْلِتُهُ بالفتح في الماض والكسر والضم في المضارع لقوله : { وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ }{[52185]} [ الطور : 21 ] والسُّوسِيّ{[52186]} يبدل الهمزة ألفاً على أصله{[52187]} .

والباقون : «يُلِتْكُمْ » من لاَتَهُ يليتُه كَباعَهُ يَبِيعُهُ . وهما لغتان معناهما لا يَنْقُصُكُمْ ، فالأولى لغة غَطَفَان وأسدٍ والثانية لغة الحِجَاز ، يقال : أَلتَ يأْلُتُ أَلْتاً{[52188]} ، ولاَتَ يِليتُ لَيْتاً{[52189]} ، وقيل : هي من وَلَتَهُ يَلِتُهُ{[52190]} كوَعَدَهُ يَعِدُهُ ، فالمحذوف على القول الأولى عينٌ{[52191]} الكلمة ووزنها : يَفِلْكُمْ وعلى الثاني فاؤها{[52192]} ، ووزنها يَعِلْكُمْ ويقال أيضاً ألاَتَهُ ليتُه كأَبَاعَهُ يُبِيعُهُ وآلَتَهُ يُؤْلِتُهُ كآمن يُؤْمِنُ{[52193]} . وكلّها لغات في معنى نَقَصَهُ حَقَّهُ ، قال الحطيئة :

4504 أَبْلِغْ سَرَاة بَنِي{[52194]} سَعْدٍ مُغَلْغَلَةً{[52195]} *** جَهْدَ الرِّسَالَةِ لاَ أَلْتاً ولاَ كَذِبَا{[52196]}

وقال رؤبة :

4505 ولَيْلَةٍ ذَاتِ نَدًى سَرَيْتُ *** وَلَمْ يَلِتْنِي عَنْ سُرَاهَا لَيْتُ{[52197]}

أي لم يمنعني ويَحْبِسْنِي .

فصل

قال ابن الخطيب : معنى قوله : ( «لاَ يَلِتْكُمْ{[52198]} » ) لا يَنْقُصُكُم ، المراد منه أنكم إذا أتيتم بما يليق بضعِّفكُم من الحسنة فهو يؤتيكم به من الجزاء ؛ لأن من حمل إلى ملك فاكهة طيبةً يكون ثمنها في السوق درهماً فأعطاه الملك درهماً انتسب الملك إلى البخل ، وإما معناه ألاّ يُعْطِي مثل ذلك من غير نقص أي يعطي ما تتوقعون بأعمالكم من غير نقص{[52199]} .

ثم قال : { إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي يغفر لكم ما قدم سلق ويرحمكم بما أتيتم به{[52200]} .


[52164]:زيادة من الأصل.
[52165]:كذا في النسختين وفي الرازي: وإنما يكون لنا الشرف. وانظر الرازي 28/140.
[52166]:جواب لما أعلى.
[52167]:كذا في الرازي وفي النسختين: أنقذنا.
[52168]:وفيه: واستسلمنا بخلاف النسختين: وأسلمنا.
[52169]:في ب: يعتذرون تحريف.
[52170]:في ب أيضا وأ الأصل أنقذنا والتصحيح من روايات المفسرين كما كتبته أعلى على أن العقل والمعنى يحتمان أن تكون الكلمة انقذنا من الانقياد فعلا ماضيا.
[52171]:وانظر أسباب النزول تلك في البغوي والخازن 6/231 و232 والقرطبي 16/348.
[52172]:تفسير الإمام الرازي 28/140.
[52173]:الكشاف 3/570.
[52174]:في الكشاف: وما في لما. والتصحيح منه.
[52175]:الكشاف 3/570.
[52176]:في البحر: يكون ما نفي بلما.
[52177]:ولما إنما تنفي ما كان متصلا بزمان الإخبار ولا تدل على ما ذكر، وهي جواب لنفي قد فعل، وهب أن قد تدل على توقع الفعل فإذا نفي ما دل على التوقع فكيف يتوهم أنه يقع بعد؟ وانظر البحر 8/117 أقول: ومذهب أبي حيان ورأيه أن الجملة تلك وهي: "ولما يدخل الإيمان في قلوبكم" غير متصلة بما قبلها.
[52178]:وقد قال بتلك الكلمات الإمام الفخر في تفسيره 28/141 وانظر في معالم "لم ولما" المغني كما سبق وهمع الهوامع 1/215 و2/56 و57 وقطر الندى وبل الصدى 111و 112 و113 وشرح الكافية للإمام الرضي 2/351، وشرح الأشموني على الألفية بحاشية الصبان 4/5 و6 و7.
[52179]:تكملة من الرازي على النسختين بدليل نصب الخبر بعد.
[52180]:ما بين القوسين الكبيرين ساقط من أ الأصل وما بين الصغيرين ساقط من ب فقط.
[52181]:كذا في الرازي وأ وفي ب يقال.
[52182]:انظر تفسير الإمام 28/141 و142.
[52183]:نقله البغوي والخازن في تفسيريهما 6/232.
[52184]:وهي سبعية متواترة نقلها في السبعة ابن مجاهد 606 ومكي في المشكل 2/284 وهي قراءة اليزيدي والحسن أيضا. وانظر الإتحاف 398.
[52185]:من الطور 21.
[52186]:سبقت ترجمته.
[52187]:ولم أعثر على تلك القراءة. ومن المؤكد أنها شاذة وتصبح هكذا. يالتكم. وانظر قراءة أبي عمرو في الكشاف 3/50 ومعاني الفراء 3/4 والبحر المحيط 8/117.
[52188]:اللسان "ألت" 106.
[52189]:المرجع نفسه ليت.
[52190]:نفسه 4912.
[52191]:وهي اللام في الموزون.
[52192]:وهي الهمزة من الموزون.
[52193]:ذكرها صاحب اللسان "ألت" 107. وانظر معاني القرآن للزجاج 5/39 والفراء 3/74.
[52194]:ورد بني سعد وبني كعب وبني ثعل.
[52195]:كما ورد: مغلظة وهي الرسالة.
[52196]:له من البسيط وروايته كما في البحر ولكن باختلاف لفظ "مغلغلة" ففيه "مغلظة". وجهد الرسالة حقها والألت بسكون اللام وفتح الهمزة هو نقص الحق وهو الاستشهاد بالبيت. وانظر مجمع البيان 9/250 والبحر 8/104، والقرطبي 16/349 ومعاني الفراء 3/92 بلفظ بني ثعل وفتح القدير 5/68 والدر المنثور 7/584، والديوان 17.
[52197]:رجز لرؤبة وهو نفس الاستشهاد بالبيت السابق ولكن هنا بالليت والسابق بالألت وكله بمعنى نقص الحق، وليلة جرت على نزع الخافض والسرى ـ بضم السين ـ السير ليلا. وانظر اللسان "ليت" والبحر 8/104 والقرطبي 16/349 والمحتسب 2/291 وفتح القدير 5/68 ومجمع البيان 9/202.
[52198]:زيادة للسياق.
[52199]:وانظر تفسيره الكبير 28/142.
[52200]:نفسه 28/43.