ثم قال : { قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا } [ 14 ] .
أي : قالت جماعة الأعراب صدقنا بالله وبرسوله ، قل لهم يا محمد لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا وخضعنا {[64500]} وتذللنا .
والإسلام في اللغة الخضوع والتذلل {[64501]} لأمر الله جل ذكره والتسليم له {[64502]} .
والإيمان : التصديق بكل ما جاء من عند الله .
وللإسلام موضع آخر وهو الاستسلام خوف القتل ، قد يقع {[64503]} الإسلام بمعنى الإيمان وقد يكون بمعنى الاستسلام {[64504]} . والإيمان والإسلام يتعرفان على وجهين إيمان ظاهر / لا باطن معه نحو قوله : { ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين } {[64505]} وإيمان باطن وظاهر وهو المتقبل {[64506]} ، وإسلام ظاهر لا باطن معه {[64507]} كالذي في هذه السورة .
والإسلام أعم من الإيمان لأن الإسلام ما صدق به باطن [ ونطق به الظاهر والإيمان ما صدق به الباطن ] {[64508]} ، فإن كان الإسلام ظاهرا غير باطن فليس بإيمان إنما هو استسلام ولا هو إسلام صحيح .
وهذه الآية نزلت في أعراب من بني أسد ، وهم من المؤلفة قلوبهم أسلموا بألسنتهم خوف القتل والسباء ولم تصدق قلوبهم ألسنتهم {[64509]} .
فرد الله عليهم قولهم " آمنا " إذ لم يصدقوه بقلوبهم ، وقال بل قولوا أسلمنا : أي : استسلمنا في الظاهر خوف القتل ، فالإسلام/قول ، والإيمان قول وعمل .
قال الزهري : الإسلام قول والإيمان عمل {[64510]} .
قال ابن زيد قوله : { قل لم تؤمنوا } أي : لم تصدقوا قولكم {[64511]} بعملكم {[64512]} .
ثم أخبر تعالى بصفة المؤمنين فقال : { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا } [ 15 ] .
قال النخعي {[64513]} : ولكن قولوا أسلمنا : أي : استسلمنا .
وعن ابن عباس : أن هذه الآية نزلت في أعراب أرادوا أن يتسموا باسم الهجرة قبل أن يهاجروا فأعلمهم الله عز وجل {[64514]} أن لهم أسماء {[64515]} الأعراب لا أسماء المهاجرين {[64516]} .
وقيل إنهم منوا على النبي صلى الله عليه وسلم بإيمانهم فأعلمهم الله عز وجل {[64517]} أن هذا ليس {[64518]} من خلق المؤمنين إنما هو من خلق من استسلم خوف السباء {[64519]} والقتل {[64520]} ، ولو دخل الإيمان في قلوبهم ما منوا {[64521]} به ، ودليله قوله بعد ذلك { يمنون عليك أن أسلموا } {[64522]} .
وقال قتادة : لم تعم هذه الآية كل الأعراب ، بل فيهم {[64523]} المؤمنون حقا ، إنما نزلت في حي من أحياء العرب امتنوا بإسلامهم على نبي الله فقالوا آمنا ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان {[64524]} .
ثم قال تعالى ذكره : { ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } .
أي : ولما يدخل العلم بشرائع الإيمان وحقائقه في قلوبكم ، وهو نفي قد دخل .
ثم قال : { وإن تطيعوا الله ورسوله لايلتكم من أعمالكم شيئا } .
أي : إن أطعتم الله ورسوله فيما تؤمرون {[64525]} به لا ينقصكم الله ( من ثواب أعمالكم شيئا في الآخرة ) {[64526]} ولا يظلمكم {[64527]} .
قال ابن زيد معناه : " إن تصدقوا قلوبكم بفعلكم يقبل ذلك منكم ، وتجازوا عليه " {[64528]} . يقال : ألته {[64529]} ويألته ولاته يليته {[64530]} لغتان بمعنى : نقصه ، فمن قرأ " لايلتكم " فهو من لات يليت {[64531]} ، وتصديقها في {[64532]} المصحف أنها {[64533]} بغير ألف بعد الياء ، ولو كانت همزة لم تختصر {[64534]} من الخط {[64535]} .
ومن قرأ " يألتكم " فهو من ألت {[64536]} يألت {[64537]} .
فأما قوله : { وما ألتناهم من عملهم } {[64538]} فهو من ألت {[64539]} يألت ، ( ولو جاء على اللغة {[64540]} ) الأخرى لقيل ، وما ألتناهم . وهذه لغة هذيل .
وبذلك قرأ ابن مسعود وأبي {[64541]} ، وهذه القراءة شاهدة لقراءة {[64542]} من قرأ هنا
" يلتكم " من لات يليت {[64543]} ، لكنها مخالفة للخط ؛ لأن الخط في " والطور {[64544]} " بألف قبل اللام ، لكن من جعله هنا من لات {[64545]} وفي " الطور {[64546]} " فإنما جمع بين اللغتين واتبع الخط في الموضعين ، ومثله مما أجمع عليه قوله : { فهي تملى عليه } {[64547]} {[64548]} ، فهذا من أملى يملي {[64549]} .
ثم قال في موضع آخر : { فليملل وليه } {[64550]} ، فهذا من أمثال {[64551]} يقال أملى عليه وأمال {[64552]} عليه : لغتان ، ومثله قوله : { سوف نصليهم نارا } {[64553]} فهذا من أمليت {[64554]} .
وقال في موضع آخر : { ثم الجحيم صلوه } {[64555]} فهذا من صليت .
ومثله قوله {[64556]} : { كيف يبديء الله الخلق } {[64557]} من أبدأ ، وقال : { كيف بدأ الخلق } {[64558]} من بدأته {[64559]} ، يقال : أبدأة وبدأه لغتان {[64560]} .
وقد قرأ ابن كثير {[64561]} : ألتناهم {[64562]} بكسر اللام ، وهي لغة أيضا . يقال : ألت {[64563]} يألت وألت يألت {[64564]} .
ثم قال : { إن الله غفور رحيم } .
أي : غفور للذنوب لمن تاب منها رحيم أن يعذب أحدا {[64565]} بعد توبته .