الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن ابي طالب - مكي ابن أبي طالب  
{۞قَالَتِ ٱلۡأَعۡرَابُ ءَامَنَّاۖ قُل لَّمۡ تُؤۡمِنُواْ وَلَٰكِن قُولُوٓاْ أَسۡلَمۡنَا وَلَمَّا يَدۡخُلِ ٱلۡإِيمَٰنُ فِي قُلُوبِكُمۡۖ وَإِن تُطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ لَا يَلِتۡكُم مِّنۡ أَعۡمَٰلِكُمۡ شَيۡـًٔاۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ} (14)

ثم قال : { قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا } [ 14 ] .

أي : قالت جماعة الأعراب صدقنا بالله وبرسوله ، قل لهم يا محمد لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا وخضعنا {[64500]} وتذللنا .

والإسلام في اللغة الخضوع والتذلل {[64501]} لأمر الله جل ذكره والتسليم له {[64502]} .

والإيمان : التصديق بكل ما جاء من عند الله .

وللإسلام موضع آخر وهو الاستسلام خوف القتل ، قد يقع {[64503]} الإسلام بمعنى الإيمان وقد يكون بمعنى الاستسلام {[64504]} . والإيمان والإسلام يتعرفان على وجهين إيمان ظاهر / لا باطن معه نحو قوله : { ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين } {[64505]} وإيمان باطن وظاهر وهو المتقبل {[64506]} ، وإسلام ظاهر لا باطن معه {[64507]} كالذي في هذه السورة .

والإسلام أعم من الإيمان لأن الإسلام ما صدق به باطن [ ونطق به الظاهر والإيمان ما صدق به الباطن ] {[64508]} ، فإن كان الإسلام ظاهرا غير باطن فليس بإيمان إنما هو استسلام ولا هو إسلام صحيح .

وهذه الآية نزلت في أعراب من بني أسد ، وهم من المؤلفة قلوبهم أسلموا بألسنتهم خوف القتل والسباء ولم تصدق قلوبهم ألسنتهم {[64509]} .

فرد الله عليهم قولهم " آمنا " إذ لم يصدقوه بقلوبهم ، وقال بل قولوا أسلمنا : أي : استسلمنا في الظاهر خوف القتل ، فالإسلام/قول ، والإيمان قول وعمل .

قال الزهري : الإسلام قول والإيمان عمل {[64510]} .

قال ابن زيد قوله : { قل لم تؤمنوا } أي : لم تصدقوا قولكم {[64511]} بعملكم {[64512]} .

ثم أخبر تعالى بصفة المؤمنين فقال : { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا } [ 15 ] .

قال النخعي {[64513]} : ولكن قولوا أسلمنا : أي : استسلمنا .

وعن ابن عباس : أن هذه الآية نزلت في أعراب أرادوا أن يتسموا باسم الهجرة قبل أن يهاجروا فأعلمهم الله عز وجل {[64514]} أن لهم أسماء {[64515]} الأعراب لا أسماء المهاجرين {[64516]} .

وقيل إنهم منوا على النبي صلى الله عليه وسلم بإيمانهم فأعلمهم الله عز وجل {[64517]} أن هذا ليس {[64518]} من خلق المؤمنين إنما هو من خلق من استسلم خوف السباء {[64519]} والقتل {[64520]} ، ولو دخل الإيمان في قلوبهم ما منوا {[64521]} به ، ودليله قوله بعد ذلك { يمنون عليك أن أسلموا } {[64522]} .

وقال قتادة : لم تعم هذه الآية كل الأعراب ، بل فيهم {[64523]} المؤمنون حقا ، إنما نزلت في حي من أحياء العرب امتنوا بإسلامهم على نبي الله فقالوا آمنا ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان {[64524]} .

ثم قال تعالى ذكره : { ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } .

أي : ولما يدخل العلم بشرائع الإيمان وحقائقه في قلوبكم ، وهو نفي قد دخل .

ثم قال : { وإن تطيعوا الله ورسوله لايلتكم من أعمالكم شيئا } .

أي : إن أطعتم الله ورسوله فيما تؤمرون {[64525]} به لا ينقصكم الله ( من ثواب أعمالكم شيئا في الآخرة ) {[64526]} ولا يظلمكم {[64527]} .

قال ابن زيد معناه : " إن تصدقوا قلوبكم بفعلكم يقبل ذلك منكم ، وتجازوا عليه " {[64528]} . يقال : ألته {[64529]} ويألته ولاته يليته {[64530]} لغتان بمعنى : نقصه ، فمن قرأ " لايلتكم " فهو من لات يليت {[64531]} ، وتصديقها في {[64532]} المصحف أنها {[64533]} بغير ألف بعد الياء ، ولو كانت همزة لم تختصر {[64534]} من الخط {[64535]} .

ومن قرأ " يألتكم " فهو من ألت {[64536]} يألت {[64537]} .

فأما قوله : { وما ألتناهم من عملهم } {[64538]} فهو من ألت {[64539]} يألت ، ( ولو جاء على اللغة {[64540]} ) الأخرى لقيل ، وما ألتناهم . وهذه لغة هذيل .

وبذلك قرأ ابن مسعود وأبي {[64541]} ، وهذه القراءة شاهدة لقراءة {[64542]} من قرأ هنا

" يلتكم " من لات يليت {[64543]} ، لكنها مخالفة للخط ؛ لأن الخط في " والطور {[64544]} " بألف قبل اللام ، لكن من جعله هنا من لات {[64545]} وفي " الطور {[64546]} " فإنما جمع بين اللغتين واتبع الخط في الموضعين ، ومثله مما أجمع عليه قوله : { فهي تملى عليه } {[64547]} {[64548]} ، فهذا من أملى يملي {[64549]} .

ثم قال في موضع آخر : { فليملل وليه } {[64550]} ، فهذا من أمثال {[64551]} يقال أملى عليه وأمال {[64552]} عليه : لغتان ، ومثله قوله : { سوف نصليهم نارا } {[64553]} فهذا من أمليت {[64554]} .

وقال في موضع آخر : { ثم الجحيم صلوه } {[64555]} فهذا من صليت .

ومثله قوله {[64556]} : { كيف يبديء الله الخلق } {[64557]} من أبدأ ، وقال : { كيف بدأ الخلق } {[64558]} من بدأته {[64559]} ، يقال : أبدأة وبدأه لغتان {[64560]} .

وقد قرأ ابن كثير {[64561]} : ألتناهم {[64562]} بكسر اللام ، وهي لغة أيضا . يقال : ألت {[64563]} يألت وألت يألت {[64564]} .

ثم قال : { إن الله غفور رحيم } .

أي : غفور للذنوب لمن تاب منها رحيم أن يعذب أحدا {[64565]} بعد توبته .


[64500]:ع: "أي خضعنا".
[64501]:ع: "والتذليل".
[64502]:انظر: إعراب النحاس 4/216.
[64503]:ع: "وأكثر ما يقع".
[64504]:انظر: إعراب النحاس 4/216 وباب "سلم" في لسان العرب 2/192-193، ومفردات الراغب 240، وتفسير الغريب 416.
[64505]:البقرة:7.
[64506]:ع: "والتقبيل": وهو تحريف.
[64507]:ساقط من ع.
[64508]:ساقط من ح.
[64509]:انظر: جامع البيان 26/89، وتفسير القرطبي 16/348، وأسباب النزول 296، وتفسير الغريب 416.
[64510]:انظر: جامع البيان 26/89، والدر المنثور 7/583.
[64511]:ح: "قلوبكم".
[64512]:انظر: جامع البيان 26/90.
[64513]:إبراهيم بن يزيد بن قيس بن الأسود، أبو عمران النخعي: من أكابر التابعين صلاحا وصدقا ورواية وحفظا للحديث، من أهل الكوفة مات مختفيا من الحجاج، كان إماما مجتهدا، قرأ على الأسود بن يزيد وعلقمة بن قيس، وقرأ عليه سليمان الأعمش وطلحة بن مصرف، توفي سنة 96 هـ. انظر: طبقات ابن سعد 6/270، وحلية الأولياء 4/219، والوافي بالوفيات 6/169، وغاية النهاية 1/29، والأعلام 1/80.
[64514]:ساقط من ع.
[64515]:ع: "الاسم": وهو تحريف.
[64516]:انظر: جامع البيان 26/90، وتفسير القرطبي 16/348، والدر المنثور 7/584.
[64517]:ساقط من ع.
[64518]:ح: "ليس هو".
[64519]:ع: "السبا".
[64520]:انظر: جامع البيان 26/90.
[64521]:ع: "آمنوا به": وهو تحريف.
[64522]:الحجرات: 17.
[64523]:ع: "منهم".
[64524]:انظر: الدر المنثور 7/583.
[64525]:ح: "تأمرون": وهو خطأ.
[64526]:ع: "شيئا في الآخرة من ثواب أعمالكم".
[64527]:انظر: العمدة 278، وتفسير الغريب 416.
[64528]:انظر: جامع البيان 26/91.
[64529]:ح: "يإلته".
[64530]:ح: "يليت".
[64531]:ع: "يلية": وهو تحريف.
[64532]:ع: إنما في".
[64533]:ساقط من ع.
[64534]:ع : "يختصر".
[64535]:انظر: الكشف 2/284، والحجة 676، والتبيان في إعراب القرآن 2/1172.
[64536]:ع: "ألاة": وهو تحريف.
[64537]:انظر: الكشف 2/284، والحجة 676، وغريب القرآن وتفسيره 165.
[64538]:الطور: 19.
[64539]:ع: "الألة"، وهو تحريف.
[64540]:ع: "ولو جعل اللغة" وهو تحريف.
[64541]:أبي بن كعب بن قيس بن عبيد، من بني النجار، من الخزرج، أبو المنذر، صحابي أنصاري، كان قبل الإسلام حبرا من أحبار اليهود، مطلعا على الكتب القديمة، ولم أسلم كان من كتاب الوحي، وشهد بدرا واحدا والخندق، والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكتب كتاب الصلح لأهل بيت المقدس، أمره عثمان بجمع القرآن، فاشترك في جمعه، وله في الصحيحين، وغيرهما 164 حديثا. قرأ عليه القرآن من الصحابة ابن عباس وأبو هريرة وعبد الله بن السائب، وتوفي 61 هـ. انظر: صفة الصفوة 1/474، وغاية النهاية 1/31، والأعلام 1/82.
[64542]:ساقط من ع.
[64543]:ع: "لالة يلية": وهو تحريف.
[64544]:ع: "فالطور".
[64545]:ع: "ألاة".
[64546]:ع: "ألاة".
[64547]:ح: "تملا": وهو خطأ.
[64548]:الفرقان: 5.
[64549]:انظر: هذا التوجيه في الكشف 2/284، والحجة 676.
[64550]:البقرة: 281.
[64551]:ع: "أمل".
[64552]:ع: "أمل".
[64553]:النساء: 55.
[64554]:ع: "أملية": وهو خطأ.
[64555]:الحاقة: 31.
[64556]:ساقط من ع.
[64557]:العنكبوت: 19.
[64558]:العنكبوت: 18.
[64559]:ع: "أبدأت".
[64560]:انظر: الصحاح 1/35، واللسان 1/170، والقاموس المحيط 1/7.
[64561]:عبد الله بن كثير الداري المكي، أبو معبد: أحد القراء السبعة، كان قاضي الجماعة بمكة، وكانت حرفته العطارة، وهو فارسي الأصل، مولده ووفاته بمكة، روى القراءة عنه قنبل والبزي، توفي سنة 120 هـ. انظر: الجرح والتعديل 5/144، ووفيات الأعيان 3/41، وسير أعلام النبلاء 5/318، والأعلام 4/115.
[64562]:في ع: "وما ألتناهم".
[64563]:في ع: "ألة".
[64564]:انظر: الكشف 2/284، الحجة 682، وجاء في معاني الفراء 3/74: وقوله تعالى: {لايلتكم} لا ينقصكم، ولا يظلمكم من أعمالكم شيئا وهي من لات يليت، والقراء مجمعون عليها، وقد قرأ بعضهم لا يألتكم، ولست أشتهيها لأنها بغير ألف كتبت في المصاحف وليس هذا بموضوع يجوز فيه سقوط الهمز، ألا ترى قوله{ياتون} و {يأمرون} و {ياكلون} لم تلق الألف في شكل منه لأنها ساكنة، وإنما تلقى الهمزة إذا سكن ما قبلها فإذا سكنت هي تبتت فلم تسقط، وإنما اجتزأ على قراءتها "يألتكم" أنه وجد {وما ألتناكم من عملهم من شيء} في موضع، فأخذ ذا من ذلك، فالقرآن يأت باللغتين المختلفتين، ألا ترى قوله: {تملى عليه} [الفرقان: آية 5] وهو في موضع آخر: {فليكتب وليملل} [البقرة آية: 281] ولم تحمل إحداهما على الأخرى فتتفقا، ولات يليت، وألت يألت: لغتان". وفي اللسان مادة "ألت" 1/82 وألته أيضا حبسه عن وجهه وصرف مثل لاته يليته وهما لغتان، وألته ماله وحقه يألته ألتا، وألاته، وآلته إياه: نقصه وفي التنزيل العزيز {وما ألتناهم من عملهم من شيء} قال الفراء: الألت: النقى، وفيه لغة أخرى: وما لتناهم بكسر اللام (...) ويقال: لات يليت، وألت يألت، وبها نزل القرآن. وراجع أيضا الصحاح نفس المادة 1/241. والقاموس المحيط 1/142.
[64565]:ع: "أحد".