تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير  
{۞قَالَتِ ٱلۡأَعۡرَابُ ءَامَنَّاۖ قُل لَّمۡ تُؤۡمِنُواْ وَلَٰكِن قُولُوٓاْ أَسۡلَمۡنَا وَلَمَّا يَدۡخُلِ ٱلۡإِيمَٰنُ فِي قُلُوبِكُمۡۖ وَإِن تُطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ لَا يَلِتۡكُم مِّنۡ أَعۡمَٰلِكُمۡ شَيۡـًٔاۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ} (14)

يقول تعالى منكرا على الأعراب الذين أول ما دخلوا في الإسلام ادعوا لأنفسهم مقام الإيمان ، ولم يتمكن الإيمان في قلوبهم بعد : { قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } . وقد استفيد من هذه الآية الكريمة : أن الإيمان أخص من الإسلام كما هو مذهب أهل السنة والجماعة ، ويدل عليه حديث جبريل ، عليه السلام ، حين سأل عن الإسلام ، ثم عن الإيمان ، ثم عن الإحسان ، فترقى من الأعم إلى الأخص ، ثم للأخص منه .

قال{[27229]} الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا مَعْمَر ، عن الزهري ، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص ، عن أبيه قال : أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالا ولم يعط رجلا منهم شيئًا ، فقال سعد : يا رسول الله ، أعطيت فلانًا وفلانا ولم تُعط فلانًا شيئًا ، وهو مؤمن ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أو مسلم " حتى أعادها سعد ثلاثا ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : " أو مسلم " ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إني لأعطي رجالا وأدع من هو أحب إليّ منهم فلم أعطيه شيئًا ؛ مخافة أن يكبوا في النار على وجوههم " .

أخرجاه في الصحيحين من حديث الزهري ، به{[27230]} .

فقد فرق النبي صلى الله عليه وسلم بين المسلم والمؤمن ، فدل على أن الإيمان أخص من الإسلام . وقد قررنا ذلك بأدلته في أول شرح كتاب الإيمان من " صحيح البخاري " ولله الحمد والمنة . ودل ذلك على أن ذاك الرجل كان مسلما ليس منافقًا ؛ لأنه تركه من العطاء ووكله إلى ما هو فيه من الإسلام ، فدل هذا على{[27231]} أن هؤلاء الأعراب المذكورين في هذه الآية ليسوا بمنافقين ، وإنما هم مسلمون لم يستحكم الإيمان في قلوبهم ، فادعوا لأنفسهم مقاما أعلى مما وصلوا إليه ، فأدبوا في ذلك . وهذا معنى قول ابن عباس وإبراهيم النخعي ، وقتادة ، واختاره ابن جرير . وإنما قلنا هذا لأن البخاري ، رحمه الله ، ذهب إلى أن هؤلاء كانوا منافقين يُظهرون الإيمان وليسوا كذلك . وقد روي عن سعيد بن جبير ، ومجاهد ، وابن زيد أنهم قالوا في قوله : { وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا } أي : استسلمنا خوف القتل والسباء . قال مجاهد : نزلت في بني أسد بن خزيمة . وقال قتادة : نزلت في قوم امتنوا بإيمانهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم .

والصحيح الأول ؛ أنهم قوم ادعوا لأنفسهم مقام الإيمان ، ولم يحصل لهم بعد ، فأدبوا وأعلموا أن ذلك لم يصلوا إليه بعد ، ولو كانوا منافقين لعنفوا وفضحوا ، كما ذكر المنافقون في سورة براءة . وإنما قيل لهؤلاء تأديبًا : { قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } أي : لم تصلوا إلى حقيقة الإيمان بعد .

ثم قال : { وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ [ شَيْئًا ] } {[27232]} أي : لا ينقصكم من أجوركم شيئا ، كقوله : { وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ } [ الطور : 21 ] .

وقوله : { إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } أي : لمن تاب إليه وأناب .


[27229]:- (1) في ت: "وروى".
[27230]:- (2) المسند (1/176) وصحيح البخاري برقم (27) وصحيح مسلم برقم (150).
[27231]:- (3) في ت: "إلى".
[27232]:- (4) زيادة من ت.