قوله تعالى : { أو من كان ميتاً فأحييناه } ، قرأ نافع { ميتاً } ، { ولحم أخيه ميتاً } [ الحجرات :12 ] و{ الأرض الميتة أحييناها } [ يس :33 ] بالتشديد فيهن ، وقرأ الآخرون بالتخفيف { فأحييناه } ، أي : كان ضالاً فهديناه ، كان ميتاً بالكفر فأحييناه بالإيمان . قوله تعالى : { وجعلنا له نوراً } ، يستضيء به .
قوله تعالى : { يمشي به في الناس } ، على قصد السبيل ، قيل : النور هو الإسلام ، لقوله تعالى : { يخرجهم من الظلمات إلى النور } [ البقرة : 257 ] ، وقال قتادة : هو كتاب الله ، بينه من الله مع المؤمن ، بها يعمل وبها يأخذ وإليها ينتهي .
قوله تعالى : { كمن مثله في الظلمات } ، المثل صلة ، أي : كمن هو في الظلمات .
قوله تعالى : { ليس بخارج منها } ، يعني : من ظلمة الكفر .
قيل : نزلت هذه الآية في رجلين بأعيانهما ، ثم اختلفوا فيهما ، قال ابن عباس : { جعلنا له نوراً } يريد حمزة بن عبد المطلب ، { كمن مثله في الظلمات } يريد أبا جهل بن هشام ، وذلك أن أبا جهل رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بفرث ، فأخبر حمزة بما فعل أبو جهل ، وهو راجع من قنصه ، وبيده قوس ، وحمزة لم يؤمن بعد ، فأقبل غضبان حتى رمى أبا جهل بالقوس وهو يتضرع إليه ، ويقول : يا أبا يعلي ، أما ترى ما جاء به ؟ سفه عقولنا ، وسب آلهتنا ، وخالف آباءنا ، فقال حمزة : ومن أسفه منكم ؟ تعبدون الحجارة من دون الله ، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، فأنزل الله هذه الآية . وقال الضحاك : نزلت في عمر بن الخطاب وأبي جهل . وقال عكرمة والكلبي : نزلت في عمار بن ياسر وأبي جهل .
قوله تعالى : { كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون } ، من الكفر والمعصية . قال ابن عباس : يريد زين لهم الشيطان عبادة الأصنام .
{ 122 - 124 } { أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ }
يقول تعالى : { أَوَمَنْ كَانَ } من قبل هداية الله له { مَيْتًا } في ظلمات الكفر ، والجهل ، والمعاصي ، { فَأَحْيَيْنَاهُ } بنور العلم والإيمان والطاعة ، فصار يمشي بين الناس في النور ، متبصرا في أموره ، مهتديا لسبيله ، عارفا للخير مؤثرا له ، مجتهدا في تنفيذه في نفسه وغيره ، عارفا بالشر مبغضا له ، مجتهدا في تركه وإزالته عن نفسه وعن غيره . أفيستوي هذا بمن هو في الظلمات ، ظلمات الجهل والغي ، والكفر والمعاصي .
{ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا } قد التبست عليه الطرق ، وأظلمت عليه المسالك ، فحضره الهم والغم والحزن والشقاء . فنبه تعالى العقول بما تدركه وتعرفه ، أنه لا يستوي هذا ولا هذا كما لا يستوي الليل والنهار ، والضياء والظلمة ، والأحياء والأموات .
فكأنه قيل : فكيف يؤثر من له أدنى مسكة من عقل ، أن يكون بهذه الحالة ، وأن يبقى في الظلمات متحيرا : فأجاب بأنه { زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } فلم يزل الشيطان يحسن لهم أعمالهم ، ويزينها في قلوبهم ، حتى استحسنوها ورأوها حقا . وصار ذلك عقيدة في قلوبهم ، وصفة راسخة ملازمة لهم ، فلذلك رضوا بما هم عليه من الشر والقبائح . وهؤلاء الذين في الظلمات يعمهون ، وفي باطلهم يترددون ، غير متساوين .
فمنهم : القادة ، والرؤساء ، والمتبوعون ، ومنهم : التابعون المرءوسون ، والأولون ، منهم الذين فازوا بأشقى الأحوال ، ولهذا قال :
بعد ذلك يجيء شوط كامل عن طبيعة الكفر وطبيعة الإيمان . وعن قدر الله في أن يجعل في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها . وعن الكبر الذي يحيك في نفوس هؤلاء المجرمين الأكابر . ويمنعهم من الإسلام . ويختم الشوط بالتصوير الرائع الصادق لحالة الإيمان التي يشرح الله لها الصدر ، وحالة الكفر التي يجعل الصدر فيها ضيقاً حرجاً مكروب الأنفاس ! . . فيتصل هذا الشوط كله بموضوع التحريم والتحليل في الذبائح اتصال الأصل القاعدي بالفرع التطبيقي ؛ ويدل على عمق هذا الفرع وشدة علاقته بالأصل الكبير :
( أو من كان ميتاً فأحييناه ، وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ؟ كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون . وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها ، وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون . وإذا جاءتهم آية قالوا : لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله . الله أعلم حيث يجعل رسالته . سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون . فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ، ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجاً كأنما يصعد في السماء ، كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون ) .
إن هذه الآيات في تصوير طبيعة الهدى وطبيعة الإيمان إنما تعبر تعبيراً حقيقياً واقعياً عن حقيقة واقعية كذلك . إن ما يبدو فيها من تشبيه ومجاز إنما هو لتجسيم هذه الحقيقة في الصورة الموحية المؤثرة ؛ ولكن العبارة في ذاتها حقيقية .
إن نوع الحقيقة التي تعبر هذه الآيات عنها هو الذي يقتضي هذه الايقاعات التصويرية . فهي حقيقة ، نعم . ولكنها حقيقة روحية وفكرية . حقيقة تذاق بالتجربة . ولا تملك العبارة إلا أن تستحضر مذاق التجربة ولكن لمن ذاقها فعلا !
إن هذه العقيدة تنشئ في القلب حياة بعد الموت ؛ وتطلق فيه نوراً بعد الظلمات . حياة يعيد بها تذوق كل شيء ، وتصور كل شيء ، وتقدير كل شيء بحس آخر لم يكن يعرفه قبل هذه الحياة . ونوراً يبدو كل شيء تحت أشعته وفي مجاله جديداً كما لم يبد من قبل قط لذلك القلب الذي نوره الإيمان .
هذه التجربة لا تنقلها الألفاظ . يعرفها فقط من ذاقها . . والعبارة القرآنية هي أقوى عبارة تحمل حقيقة هذه التجربة . لأنها تصورها بألوان من جنسها ومن طبيعتها .
إن الكفر انقطاع عن الحياة الحقيقية الأزلية الأبدية ، التي لا تفنى ولا تغيض ولا تغيب . فهو موت . . وانعزال عن القوة الفاعلة المؤثرة في الوجود كله . . فهو موت . . وانطماس في أجهزة الاستقبال والاستجابة الفطرية . . فهو موت . .
والإيمان اتصال ، واستمداد ، واستجابة . . فهو حياة . .
إن الكفر حجاب للروح عن الاستشراق الاستشراف والاطلاع . . فهو ظلمة . . وختم على الجوارح والمشاعر . . فهو ظلمة . . وتيه في التيه وضلال . . فهو ظلمة . .
وإن الإيمان تفتح ورؤية ، وإدراك واستقامة . . فهو نور بكل مقومات النور . .
إن الكفر انكماش وتحجر . . فهو ضيق . . وشرود عن الطريق الفطري الميسر . . فهو عسر . . وحرمان من الاطمئنان إلى الكنف الآمن . . فهو قلق . .
وإن الإيمان انشراح ويسر وطمأنينة وظل ممدود . .
وما الكافر ؟ إن هو إلا نبتة ضالة لا وشائج لها في تربة هذا الوجود ولا جذور . . إن هو إلا فرد منقطع الصلة بخالق الوجود ، فهو منقطع الصلة بالوجود . لا تربطه به إلا روابط هزيلة من وجوده الفردي المحدود . في أضيق الحدود . في الحدود التي تعيش فيها البهيمة . حدود الحس وما يدركه الحس من ظاهر هذا الوجود !
إن الصلة بالله ، والصلة في الله ، لتصل الفرد الفاني بالأزل القديم والأبد الخالد . ثم تصله بالكون الحادث والحياة الظاهرة . . ثم تصله بموكب الإيمان والأمة الواحدة الضاربة في جذور الزمان . الموصولة على مدار الزمان . . فهو في ثراء من الوشائج ، وفي ثراء من الروابط . وفي ثراء من " الوجود " الزاخر الممتد اللاحب ، الذي لا يقف عند عمره الفردي المحدود .
ويجد الإنسان في قلبه هذا النور ، فتتكشف له حقائق هذا الدين ، ومنهجه في العمل والحركة ، تكشفا عجيبا . . إنه مشهد رائع باهر هذا الذي يجده الإنسان في قلبه حين يجد هذا النور . . مشهد التناسق الشامل العجيب في طبيعة هذا الدين وحقائقه . ومشهد التكامل الجميل الدقيق في منهجه للعمل وطريقته . إن هذا الدين لا يعود مجموعة معتقدات وعبادات وشرائع وتوجيهات . . إنما يبدو " تصميما " واحدا متداخلا متراكبا متناسقا . . متعاشقا يبدو حيا يتجاوب مع الفطرة وتتجاوب معه في ألفة عميقة وفي صداقة وثيقة ، وفي حب ودود !
ويجد الإنسان في قلبه هذا النور ؛ فتتكشف له حقائق الوجود ، وحقائق الحياة ، وحقائق الناس ، وحقائق الأحداث التي تجري في هذا الكون وتجري في عالم الناس . . تتكشف له في مشهد كذلك رائع باهر . . مشهد السنة الدقيقة التي تتوالى مقدماتها ونتائجها في نظام محكم ولكنه فطري ميسر . . ومشهد المشيئة القادرة من وراء السنة الجارية تدفع بالسنة لتعمل وهي من ورائها محيطة طليقة . . ومشهد الناس والأحداث وهم في نطاق النواميس وهي في هذا النطاق أيضاً .
ويجد الإنسان في قلبه هذا النور فيجد الوضوح في كل شأن وفي كل أمر وفي كل حدث . . يجد الوضوح في نفسه وفي نواياه وخواطره وخطته وحركته . ويجد الوضوح فيما يجري حوله سواء من سنة الله النافذة ، أو من أعمال الناس ونواياهم وخططهم المستترة والظاهرة ! ويجد تفسير الأحداث والتاريخ في نفسه وعقله وفي الواقع من حوله ، كأنه يقرأ من كتاب !
ويجد الإنسان في قلبه هذا النور ، فيجد الوضاءة في خواطره ومشاعره وملامحه ! ويجد الراحة في باله وحاله ومآله ! ويجد الرفق واليسر في إيراد الأمور وإصدارها ، وفي استقبال الأحداث واستدبارها ! ويجد الطمأنينة والثقة واليقين في كل حالة وفي كل حين !
وهكذا يصور التعبير القرآني الفريد تلك الحقيقة بإيقاعاته الموحية :
( أو من كان ميتا فأحييناه ، وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس ، كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ؟ ) .
كذلك كان المسلمون قبل هذا الدين . قبل أن ينفخ الإيمان في أرواحهم فيحييها ، ويطلق فيها هذه الطاقة الضخمة من الحيوية والحركة والتطلع والاستشراف . . كانت قلوبهم مواتا . وكانت أرواحهم ظلاما . . ثم إذا قلوبهم ينضح عليها الإيمان فتهتز ، وإذا أرواحهم يشرق فيها النور فتضيء ، ويفيض منها النور فتمشي به في الناس تهدي الضال ، وتلتقط الشارد ، وتطمئن الخائف ، وتحرر المستعبد ، وتكشف معالم الطريق للبشر وتعلن في الأرض ميلاد الإنسان الجديد . الإنسان المتحرر المستنير ؛ الذي خرج بعبوديته لله وحده من عبودية العبيد !
أفمن نفخ الله في روحه الحياة ، وأفاض على قلبه النور . . كمن حاله أنه في الظلمات ، لا مخرج له منها ؟ إنهما عالمان مختلفان شتان بينهما شتان ! فما الذي يمسك بمن في الظلمات والنور حوله يفيض ؟
( كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون ) . .
هذا هو السر . . إن هناك تزيينا للكفر والظلمة والموت ! والذي ينشئ هذا التزيين ابتداء هو مشيئة الله التي أودعت فطرة هذا الكائن الإنساني الاستعداد المزدوج لحب النور وحب الظلمة ، تبتليه بالاختيار للظلمة أو النور . فإذا اختار الظلمة زينت له ؛ ولج في الضلال حتى لا يخرج من الظلمة ولا يعود ، ثم إن هناك شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ، ويزينون للكافرين ما يعملون . . والقلب الذي ينقطع عن الحياة والإيمان والنور ، يسمع في الظلمة للوسوسة ؛ ولا يرى ولا يحس ولا يميز الهدى من الضلال في ذلك الظلام العميق ! . . وكذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون . .
هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن الذي كان ميتا ، أي : في الضلالة ، هالكًا حائرًا ، فأحياه الله ، أي : أحيا قلبه بالإيمان ، وهداه له ووفقه لاتباع رسله . { وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ } أي : يهتدي [ به ]{[11160]} كيف يسلك ، وكيف يتصرف به . والنور هو : القرآن ، كما رواه العَوْفي وابن أبي طلحة ، عن ابن عباس . وقال السُّدِّي : الإسلام . والكل صحيح .
{ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ }{[11161]} أي : الجهالات والأهواء والضلالات المتفرقة ، { لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا } أي : لا يهتدي إلى منفذ ، ولا مخلص{[11162]} مما هو فيه ، [ وفي مسند الإمام أحمد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الله خلق خلقه في ظلمة ثم رش عليهم من نوره فمن أصابه ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل " ]{[11163]} كما قال تعالى : { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ البقرة : 257 ] . و [ كما ]{[11164]} قال تعالى : { أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [ الملك : 22 ] ، وقال تعالى : { مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأعْمَى وَالأصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا أَفَلا تَذَكَّرُونَ } [ هود : 24 ] ، وقال تعالى : { وَمَا يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ * وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الأحْيَاءُ وَلا الأمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ * إِنْ أَنْتَ إِلا نَذِيرٌ } [ فاطر : 19 - 23 ] . والآيات في هذا كثيرة ، ووجه المناسبة في ضرب المثلين هاهنا بالنور والظلمات ، ما{[11165]} تقدم في أول السورة : { وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ } [ الأنعام : 1 ] .
وزعم{[11166]} بعضهم أن المراد بهذا المثل رجلان معينان ، فقيل : عمر بن الخطاب هو الذي كان ميتًا فأحياه الله ، وجعل له نورًا يمشي به في الناس . وقيل : عمار بن ياسر . وأما الذي في الظلمات ليس بخارج منها : أبو جهل عمرو بن هشام ، لعنه الله . والصحيح أن الآية عامة ، يدخل فيها كل مؤمن وكافر .
وقوله تعالى : { كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } أي : حسنا لهم ما هم فيه من الجهالة والضلالة ، قدرا من الله وحكمة بالغة ، لا إله إلا هو [ ولا رب سواه ]{[11167]} .
تقدم في هذه الآية السالفة ذكر قوم مؤمنين أمروا بترك الإثم وباطنه وغير ذلك ، وذكر قوم كافرين يضلون بأهوائهم وغير ذلك ، فمثل الله عز وجل في الطائفتين بأن شبه الذين آمنوا بعد كفرهم بأموات أحيوا ، هذا معنى قول ابن عباس ومجاهد وغيرهما ، وشبه الكافرين وحيرة جهلهم بقوم في ظلمات يترددون فيها ولا يمكنهم الخروج منها ليبين عز وجل الفرق بين الطائفتين والبون بين المنزلتين .
وقرأ جمهور الناس «أوَ من » بفتح الواو فهي ألف استفهام دخلت على واو عطف جملة على جملة ، و { من } بمعنى الذي ، وقرأ طلحة بن مصرف : «أفمن » بالفاء ، والمعنى قريب من معنى الواو ، والفاء في قوله { فأحييناه } عاطفة ، و { نوراً } أمكن ما يعنى{[5076]} به الإيمان و { يمشي به } يراد به جميع التصرف في الأفعال والأقوال ، قال أبو علي : ويحتمل أن يراد النور الذي يؤتاه المؤمنون يوم القيامة ، و { في الناس } متعلق ب { يمشي }{[5077]} ، ويصح أن يتعلق ب { كان ميتاً } وقوله تعالى : { كمن مثله } بمنزلة كمن هو ، والكاف في قوله { كذلك زين } متعلقة بمحذوف يدل ظاهر الكلام عليه ، تقديره وكما أحيينا المؤمنين وجعلنا لهم نوراً كذلك زين للكافرين ، ويحتمل أن يتعلق بقوله { كمن مثله } أي كهذه الحال هو التزيين ، وقرأ نافع وحده «ميِّتاً » بكسر الياء وشدها ، وقرأ الباقون «ميْتاً » بسكون الياء ، قال أبو علي : التخفيف كالتشديد ، والياء المحذوفة هي الثانية المنقلبة عن واو أعلت بالحذف كما أعلت بالقلب ، وقالت طائفة إن هذه الألفاظ التي مثل بها وإن كانت تعم كل مؤمن وكل كافر فإنما نزلت في مخصوصين ، فقال الضحاك : المؤمن الذي كان ميتاً فأحيي عمر بن الخطاب ، وحكى المهدوي عن بعضهم أنه حمزة بن عبد المطلب ، وقال عكرمة : عمار بن ياسر ، وقال الزجاج : جاء في التفسير أنه يعني به النبي عليه السلام .
قال القاضي أبو محمد : واتفقوا على أن الذي في الظلمات أبو جهل بن هشام ، إلى حاله وحال أمثاله هي الإشارة والتشبيه بقوله { وكذلك جعلنا في كل قرية } .
الواو في قوله : { أو من كان ميتاً } عاطفة لجملة الاستفهام على جملة : { وإن أطعتموهم إنَّكم لمشركون } [ الأنعام : 121 ] لتضمّن قوله : { وإن أطعتموهم } أنّ المجادلة ، المذكورة من قَبْلُ ، مجادلة في الدّين : بتحسين أحوال أهل الشّرك وتقبيح أحكام الإسلام الّتي منها : تحريم الميتة ، وتحريم ما ذُكر اسم غير الله عليه . فلمّا حَذر الله المسلمين من دسائس أولياء الشّياطين ومجادلتهم بقوله : { وإن أطعتموهم إنَّكم لمشركون } [ الأنعام : 121 ] أعقَب ذلك بتفظيع حال المشركين ، ووصَفَ حسن حالة المسلمين حين فارقوا الشّرك ، فجاء بتمثيلين للحالتين ، ونفَى مساواة إحداهما للأخرى : تنبيها على سوء أحوال أهل الشّرك وحسننِ حال أهل الإسلام .
والهمزة للاستفهام المستعمل في إنكار تَماثل الحالتين : فالحالة الأولى : حالة الّذين أسلموا بعد أن كانوا مشركين ، وهي المشبّهة بحال مَن كان ميّتاً مودَعاً في ظلمات ، فصار حيّاً في نورٍ واضحٍ ، وسار في الطّريق الموصّلة للمطلوب بين النّاس ، والحالة الثّانية : حالةُ المشرك وهي المشبّهة بحالة من هو في الظلمات ليس بخارج منها ، لأنَّه في ظلمات .
وفي الكلام إيجازُ حذفٍ ، في ثلاثة مواضع ، استغناء بالمذكور عن المحذوف : فقوله : { أو من كان ميتاً } معناه : أَحَال مَن كان ميّتاً ، أو صِفة مَن كان ميّتاً . وقوله : { وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس } يدلّ على أنّ المشبّه به حال مَن كان ميّتاً في ظُلمات . وقوله : كمن مثله في الظلمات تقديره : كمن مثله مثَل ميّت فما صدْق ( مَن ) ميّت بدليل مقابلته بميّت في الحالة المشبّهة ، فيعلم أنّ جزء الهيئة المشبّهة هو الميّت لأنّ المشبّه والمشبّه به سواء في الحالة الأصليّة وهي حالة كون الفريقين مشركين . ولفظ ( مثَل ) بمعنى حالة . ونفيُ المشابهة هنا معناه نفي المساواة ، ونفي المساواة كناية عن تفضيل إحدى الحالتين على الأخرى تفضيلاً لا يلتبس ، فذلك معنى نفي المشابهة كقوله : { قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظّلمات والنّور } [ الرعد : 16 ] وقوله { أفمَن كان مؤمناً كَمَن كان فاسقاً لا يستوون } [ السجدة : 18 ] . والكاف في قوله : { كمن مثله في الظلمات } كاف التّشبيه ، وهو تشبيه منفي بالاستفهام الإنكاري .
والكلام جار على طريقة تمثيل حال من أسْلَم وتخلَّص من الشرك بحال من كان ميّتا فأُحْيِي ، وتمثيللِ حال من هو باق في الشرك بحال ميت باق في قبره . فتضمّنت جملة : { أو من كان ميتاً } إلى آخرها تمثيل الحالة الأولى ، وجملة : { كمن مثله في الظلمات } الخ تمثيلَ الحالة الثّانية ، فهما حالتان مشبّهتان ، وحالتان مشبَّهٌ بهما ، وحصل بذكر كاف التّشبيه وهمزة الاستفهام الإنكاري أنّ معنى الكلام نفي المشابهة بين من أسلم وبين من بَقي في الشرك . كما حصل من مجموع الجملتين : أنّ في نظم الكلام تشبيهين مركَّبين .
ولكنّ وجودَ كاف التّشبيه في قوله : { كمن مثله } مع عدم التّصريح بذكر المشبَّهَيْن في التّركيبين أثارَا شُبهة : في اعتبار هذين التّشبيهين أهو من قبيل التّشبيه التّمثيلي ، أم من قبيل الاستعارة التّمثيلية ؛ فنحا القطب الرّازي في « شرح الكشاف » القبيلَ الأول ، ونحا التفتزاني القبيلَ الثّاني ، والأظهر ما نحاه التفتزاني : أنَّهما استعارتان تمثيليتان ، وأمّا كاف التّشبيه فهو متوجّه إلى المشابهة المنفيّة في مجموع الجملتين لا إلى مشابهة الحالين بالحالين ، فمورد كاف التّشبيه غير مورد تمثيل الحالين .
والمراد : ب { الظّلمات } ظلمةُ القبر لمناسبته للميِّت ، وبقرينة ظاهر { في } من حقيقة الظرفية وظاهر حقيقة فعل الخروج .
ولقد جاء التّشبيه بديعاً : إذ جعل حال المسلم ، بعد أن صار إلى الإسلام ، بحال من كان عديم الخير ، عديم الإفادة كالميّت ، فإنّ الشرك يحول دون التّمييز بين الحقّ والباطل ، ويصرف صاحبه عن السّعي إلى ما فيه خيره ونجاته ، وهو في ظلمة لو أفاق لم يعرف أين ينصرف ، فإذا هداه الله إلى الإسلام تغيرّ حاله فصار يميّز بين الحقّ والباطل ، ويعلم الصّالح من الفاسد ، فصار كالحي وصار يسعى إلى ما فيه الصّلاح ، ويتنكّب عن سبيل الفساد ، فصار في نور يمشي به في النّاس . وقد تبيّن بهذا التّمثيل تفضيل أهل استقامة العقول على أضدادِهم .
والباء في قوله : { يمشي به } باء السّببيّة . والنّاس المصرح به في الهيئة المشبه بها هم الأحياء الّذين لا يخلو عنهم المجتمع الإنساني . والنّاس المقدّر في الهيئة المشبهة هم رفقاء المسلم من المسلمين . وقد جاء المركب التّمثيلي تاماً صالحاً لاعتبار تشبيه الهيئة بالهيئة ، ولاعتبار تشبيه كلّ جزء من أجزاء الهيئة المشبّهة بجزء من أجزاء الهيئة المشبّهِ بها ، كما قد علمته وذلك أعلى التّمثيل .
وجملة : { ليس بخارج منها } حال من الضّمير المجرور بإضافة ( مَثل ) ، أي ظلمات لا يرجى للواقع فيها تنوّر بنور ما دام في حالة الإشراك .
وجملة : { كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون } استئناف بياني ، لأنّ التّمثيل المذكور قبلها يثير في نفس السّامع سُؤالاً ، أن يقول : كيف رضوا لأنفسهم البقاء في هذه الضّلالات ، وكيف لم يشعروا بالبَون بين حالهم وحال الّذين أسلموا ؛ فإذا كانوا قبل مجيء الإسلام في غفلة عن انحطاط حالهم في اعتقادهم وأعمالهم ، فكيف لمّا دعاهم الإسلام إلى الحقّ ونصب لهم الأدلَّة والبراهين بَقُوا في ضلالهم لم يقلعوا عنه وهمْ أهل عقول وفطنة فكان حقيقاً بأن يبيّن له السّبب في دوامهم على الضّلال ، وهو أنّ ما عملوه كان تزيّنه لهم الشّياطين ، هذا التّزيين العجيب ، الّذي لو أراد أحد تقريبه لم يجد ضلالاً مزيَّناً أوضح منه وأعجبَ فلا يشبَّه ضلالُهم إلاّ بنفسه على حدّ قولهم : ( والسّفاهة كاسمها ) .
واسم الإشارة في قوله : { كذلك زين للكافرين } مشار به إلى التّزيين المأخوذ من فعل { زين } أي مثلَ ذلك التّزيين للكافرين العجيب كيداً ودِقَّةً زيّن لهؤلاء الكافرين أعمالهم على نحو ما تقدّم في قوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أمّة وسطاً } في سورة البقرة ( 143 ) .
وحُذف فاعل التّزيين فبني الفعل للمجهول : لأنّ المقصود وقوع التّزيين لا معرفة مَن أوقعه . والمزيّن شياطينهم وأولياؤهم ، كقوله : { وكذلك زَيَّن لكثير من المشركين قتلَ أولادهم شركاؤُهم } [ الأنعام : 137 ] ، ولأنّ الشّياطين من الإنس هم المباشرون للتّزيين ، وشياطين الجنّ هم المُسَوّلون المزيّنون . والمراد بالكافرين المشركون الّذين الكلام عليهم في الآيات السّابقة إلى قوله : { وإنّ الشّياطين لَيُوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم } [ الأنعام : 121 ] .