{ ويل للمطففين } يعني الذين ينقصون المكيال والميزان ويبخسون حقوق الناس . قال الزجاج : إنما قيل للذي ينقص المكيال والميزان : مطفف ، لأنه لا يكاد يسرق في المكيال والميزان إلا الشيء اليسير الطفيف .
أخبرنا أبو بكر يعقوب بن أحمد بن محمد بن علي الصيرفي ، حدثنا أبو محمد الحسن بن أحمد المخلدي ، أنبأنا أبو حامد أحمد بن محمد بن الحسن الحافظ ، حدثنا عبد الرحمن بن بشر ، حدثنا علي بن الحسين بن واقد ، حدثني أبي ، حدثني يزيد النحوي أن عكرمة حدثه عن ابن عباس قال : " لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة كانوا من أخبث الناس كيلاً ، فأنزل الله عز وجل : { ويل للمطففين } فأحسنوا الكيل " . وقال السدي : " قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وبها رجل يقال له : أبو جهينة ، ومعه صاعان ، يكيل بأحدهما ، ويكتال بالآخر ، فأنزل الله هذه الآية " . فالله تعالى جعل الويل للمطففين .
{ 1 - 6 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ }
{ وَيْلٌ } كلمة عذاب ، ووعيد{[1373]} { لِلْمُطَفِّفِينَ }
سورة المطففين مكية وآياتها ست وثلاثون
هذه السورة تصور قطاعا من الواقع العملي الذي كانت الدعوة تواجهه في مكة - إلى جانب ما كانت تستهدفه من إيقاظ القلوب ، وهز المشاعر ، وتوجيهها إلى هذا الحدث الجديد في حياة العرب وفي حياة الإنسانية ، وهو الرسالة السماوية للأرض ، وما تتضمنه من تصور جديد شامل محيط .
هذا القطاع من الواقع العملي تصوره السورة في أولها ، وهي تتهدد المطففين بالويل في اليوم العظيم ، ( يوم يقوم الناس لرب العالمين ) . . كما تصوره في ختامها وهي تصف سوء أدب الذين أجرموا مع الذين آمنوا ، وتغامزهم عليهم ، وضحكهم منهم ، وقولهم عنهم : ( إن هؤلاء لضالون ! ) .
وهذا إلى جانب ما تعرضه من حال الفجار وحال الأبرار ؛ ومصير هؤلاء وهؤلاء في ذلك اليوم العظيم .
وهي تتألف من أربعة مقاطع . . يبدأ المقطع الأول منها بإعلان الحرب على المطففين : ( ويل للمطففين . الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون ؛ وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون . ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم ? يوم يقوم الناس لرب العالمين ? ) . .
ويتحدث المقطع الثاني عن الفجار في شدة وردع وزجر ، وتهديد بالويل والهلاك ، ودمغ بالإثم والاعتداء ، وبيان لسبب هذا العمى وعلة هذا الانطماس ، وتصوير لجزائهم يوم القيامة ، وعذابهم بالحجاب عن ربهم ، كما حجبت الآثام في الأرض قلوبهم ، ثم بالجحيم مع الترذيل والتأنيب : كلا . إن كتاب الفجار لفي سجين . وما أدراك ما سجين ? كتاب مرقوم . ويل يومئذ للمكذبين ! الذين يكذبون بيوم الدين . وما يكذب به إلا كل معتد أثيم ، إذا تتلى عليه آياتنا قال : أساطير الأولين . كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون . كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون . ثم إنهم لصالوا الجحيم . ثم يقال : هذا الذي كنتم به تكذبون . .
والمقطع الثالث يعرض الصفحة المقابلة . صفحة الأبرار . ورفعة مقامهم . والنعيم المقرر لهم . ونضرته التي تفيض على وجوههم . والرحيق الذي يشربون وهم على الأرائك ينظرون . . وهي صفحة ناعمة وضيئة : ( كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين . وما أدراك ما عليون ? كتاب مرقوم ، يشهده المقربون . إن الأبرار لفي نعيم ، على الأرائك ينظرون ، تعرف في وجوههم نضرة النعيم ، يسقون من رحيق مختوم ، ختامه مسك - وفي ذلك فليتنافس المتنافسون - ومزاجه من تسنيم . عينا يشرب بها المقربون ) . .
والمقطع الأخير يصف ما كان الأبرار يلاقونه في عالم الغرور الباطل من الفجار من إيذاء وسخرية وسوء أدب . ليضع في مقابله ما آل إليه أمر الأبرار وأمر الفجار في عالم الحقيقة الدائم الطويل :
( إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون ، وإذا مروا بهم يتغامزون ، وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين . وإذا رأوهم قالوا : إن هؤلاء لضالون . وما أرسلوا عليهم حافظين . فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون على الأرائك ينظرون . هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون ? ) . .
والسورة في عمومها تمثل جانبا من بيئة الدعوة ، كما تمثل جانبا من أسلوب الدعوة في مواجهة واقع البيئة ، وواقع النفس البشرية . . . وهذا ما سنحاول الكشف عنه في عرضنا للسورة بالتفصيل . .
( ويل للمطففين : الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون ، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون . ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم : يوم يقوم الناس لرب العالمين ? ) . .
تبدأ السورة بالحرب يعلنها الله على المطففين : ( ويل للمطففين ) . . والويل : الهلاك . وسواء كان المراد هو تقرير أن هذا أمر مقضي ، أو أن هذا دعاء . فهو في الحالين واحد فالدعاء من الله قرار . .
قال النسائي وابن ماجة : أخبرنا محمد بن عقيل - زاد ابن ماجة : وعبد الرحمن بن بشر - قالا حدثنا علي بن الحسين بن واقد ، حدثني أبي ، عن يزيد - هو ابن أبي سعيد النحوي ، مولى قريش - عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : لما قدم نبي الله صلى الله عليه وسلم المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا فأنزل الله : { وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ } فحسنَّوا الكيلَ بعد ذلك{[29826]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا جعفر بن النضر بن حماد ، حدثنا محمد بن عبيد ، عن الأعمش ، عن عمرو بن مُرّة ، عن عبد الله بن الحارث ، عن هلال بن طلق قال : بينا أنا أسير مع ابن عمر فقلت : من أحسن الناس هيئةً وأوفاه كيلا ؟ أهل مكة أو المدينة ؟ قال : حق لهم ، أما سمعت الله يقول : { وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ }
وقال ابن جرير : حدثنا أبو السائب ، حدثنا ابن فضيل ، عن ضرار ، عن عبد الله المكتب ، عن رجل ، عن عبد الله قال : قال له رجل : يا أبا عبد الرحمن ، إن أهل المدينة ليوفون الكيل . قال : وما يمنعهم أن يوفوا الكيل وقد قال الله عز وجل : { وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ } حتى بلغ : { يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } {[29827]} .
فالمراد بالتطفيف هاهنا : البَخْس في المكيال والميزان ، إما بالازدياد إن اقتضى من الناس ، وإما بالنقصان إن قَضَاهم ؛ ولهذا فسر تعالى المطففين الذين وعدهم بالخَسَار والهَلاك وهو الويل ، بقوله : { الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ }
بسم الله الرحمن الرحيم ويل للمطففين التطفيف البخس في الكيل والوزن لأن ما يبخس طفيف أي حقير روي أن أهل المدينة كانوا أخبث الناس كيلا فنزلت فأحسنوه وفي الحديث خمس بخمس ما نقض العهد قوم إلا سلط الله عليهم عدوهم وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر وما ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت ولا طففوا الكيل إلا منعوا النبات وأخذوا بالسنين ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم القطر .
بسم الله الرحمن الرحيم سورة المطففين وهي مكية في قول جماعة من المفسرين واحتجوا لذكر الأساطير وهذا على أن تطفيف الكيل والوزن كان بمكة حسبما هو في كل أمة لا سيما مع كفرهم . وقال ابن عباس والسدي والنقاش وغيره :السورة مدنية قال السدي : كان بالمدينة رجل يكنى أبا جهينة له مكيالان يأخذ بالأوفى ويعطي بالأنقص فنزلت السورة فيه يقال إنها أول سورة نزلت بالمدينة وقال ابن عباس أيضا فيما روي عنه نزل بعضها بمكة ونزل أمر التطفيف بالمدينة لأنهم كانوا أشد الناس فسادا في هذا المعنى فأصلحهم الله تعالى بهذه السورة وقال آخرون نزلت السورة بين مكة والمدينة وذلك ليصلح الله تعالى أمرهم قبل ورود رسوله عليهم قال القاضي أبو محمد وامر الكيل والوزن وكيد جدا وتصرفه في المدن ضروري في الأموال التي هي حرام بغير حق والفساد فيه كبير لا تنفع فيما وقع منه التوبة ولا يخلص إلا رد المظلمة إلى صاحبها وقال مالك بن دينار احتضر جار لي فجعل يقول جبلان من نار فقلت له ما هذا فقال لي يا أخي كان لي مكيالان آخذا بالوافي وأعطي بالناقص وقال عكرمة أشهد على كل كيال أو وزان انه في النار وقال بعض العرب لا تلتمسوا المروءة ممن مروءته في رؤوس المكاييل وألسنة الموازين
{ ويل } معناه : الثبور والحزن والشقاء الأدوم ، وقد روي عن ابن مسعود وغيره أن وادياً في جهنم يسمى «ويلاً » ورفع { ويل } على الابتداء ، ورفع على معنى ثبت لهم واستقر وما كان في حيز الدعاء والترقب فهو منصوب نحو قولهم : رعياً وسقياً ، و «المطفف » : الذي ينقص الناس حقوقهم ، والتطفيف : النقصان أصله في الشيء الطفيف وهو النزر ، والمطفف إنما يأخذ بالميزان شيئاً طفيفاً ، وقال سلمان : الصلاة مكيال ، فمن أوفى وفي له ، ومن طفف فقد علمتم ما قال الله في المطففين ، وقال بعض العلماء : يدخل التطفيف في كل قول وعمل ، ومنه قول عمر طففت ، ومعناه : نقصت الأجر والعمل وكذا قال مالك رحمه الله : يقال لكل شيء وفاء وتطفيف فقد جاء بالنقيضين ، وقد ذهب بعض الناس إلى أن التطفيف هو تجاوز الحد في وفاء ونقصان ، والمعنى والقرائن بحسب قول قول تبين المراد وهذا عند جد صحيح
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
مكية في قول ابن مسعود والضحاك ويحيى بن سلام. ومدنية في قول الحسن وعكرمة ومقاتل. قال مقاتل: هي أول سورة نزلت بالمدينة. وقال ابن عباس وقتادة: مدنية إلا ثماني آيات من قوله تعالى: "إن الذين أجرموا " إلى آخرها مكي. وقال الكلبي وجابر بن زيد: قد نزلت بين مكة والمدينة...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وهي مكية في قول جماعة من المفسرين، واحتجوا لذكر الأساطير وهذا على أن تطفيف الكيل والوزن كان بمكة حسبما هو في كل أمة لا سيما مع كفرهم. وقال ابن عباس والسدي والنقاش وغيره:السورة مدنية قال السدي: كان بالمدينة رجل يكنى أبا جهينة له مكيالان يأخذ بالأوفى ويعطي بالأنقص، فنزلت السورة فيه، يقال إنها أول سورة نزلت بالمدينة. وقال ابن عباس أيضا فيما روي عنه: نزل بعضها بمكة ونزل أمر التطفيف بالمدينة، لأنهم كانوا أشد الناس فسادا في هذا المعنى فأصلحهم الله تعالى بهذه السورة. وقال آخرون: نزلت السورة بين مكة والمدينة، وذلك ليصلح الله تعالى أمرهم قبل ورود رسوله عليهم... وأمر الكيل والوزن وكيد جدا وتصرفه في المدن ضروري في الأموال التي هي حرام بغير حق والفساد فيه كبير لا تنفع فيما وقع منه التوبة ولا يخلص إلا رد المظلمة إلى صاحبها...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :
قال السيوطي بسند صحيح عن ابن عباس قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كانوا من أخبث الناس كيلاً، فأنزل الله {ويل للمطففين} فأحسنوا الكيل بعد ذلك...
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
قال المهايمي: سميت به دلالة على أن من أخل بأدنى حقوق الخلق استحق أعظم ويل من الحق. فكيف من أخل بأعظم حقوق الحق من الإيمان به وبآياته ورسله؟ وهي مكية على الأظهر فإن سياقها يؤيد أنها كأخواتها اللائي نزلن بمكة لا سيما خاتمتها فإنها صفات المستهزئين الذين كانوا بمكة وحملها على المنافقين بالمدينة بعيد إذ لم يبلغ بهم الحال ذلك، وأما ما رواه النسائي وابن ماجة كما في ابن كثير عن ابن عباس لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا فأنزل الله {ويل للمطففين} فأحسنوا الكيل " فقد ذكرنا مرارا أن معنى الإنزال في إطلاق السلف لا يكون مقصورا أن كذا سبب النزول بل إن كذا مما نزل فيه ذلك، كأن أهل المدينة تلي عليهم ما سبق إنزاله في مكة، وقيل لهم أنزل الله حظر ما أنتم عليه والوعيد فيه فأقلعوا وهذا ظاهر لمن له أنس بعلم الآثار وملكة فيه ومنه يعلم أن قول بعضهم نزلت بمكة إلا قصة التطفيف وقول آخر إن كل نوع من المكي والمدني منه آيات مستثناة منشؤه الحيرة في المطابقة بين ظاهر ما يتبادر من المأثور في سبب النزول وبين ما يدل عليه السياق من خلافه وبالوقوف على عرف السلف يزول الإشكال ويتضح الحال...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذه السورة تصور قطاعا من الواقع العملي الذي كانت الدعوة تواجهه في مكة -إلى جانب ما كانت تستهدفه من إيقاظ القلوب، وهز المشاعر، وتوجيهها إلى هذا الحدث الجديد في حياة العرب وفي حياة الإنسانية، وهو الرسالة السماوية للأرض، وما تتضمنه من تصور جديد شامل محيط...
.وهي تتألف من أربعة مقاطع.. يبدأ المقطع الأول منها بإعلان الحرب على المطففين: (ويل للمطففين. الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون؛ وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون. ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم؟ يوم يقوم الناس لرب العالمين؟).. ويتحدث المقطع الثاني عن الفجار في شدة وردع وزجر، وتهديد بالويل والهلاك، ودمغ بالإثم والاعتداء...
.والمقطع الثالث يعرض الصفحة المقابلة. صفحة الأبرار. ورفعة مقامهم. والنعيم المقرر لهم. ونضرته التي تفيض على وجوههم...والمقطع الأخير يصف ما كان الأبرار يلاقونه في عالم الغرور الباطل من الفجار من إيذاء وسخرية وسوء أدب. ليضع في مقابله ما آل إليه أمر الأبرار وأمر الفجار في عالم الحقيقة الدائم الطويل...
والسورة في عمومها تمثل جانبا من بيئة الدعوة، كما تمثل جانبا من أسلوب الدعوة في مواجهة واقع البيئة، وواقع النفس البشرية... وهذا ما سنحاول الكشف عنه في عرضنا للسورة بالتفصيل...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
سميت هذه السورة في كتب السنة وفي بعض التفاسير سورة ويل للمطففين، وكذلك ترجمها البخاري في كتاب التفسير من صحيحه، والترمذي في جامعه. وسميت في كثير من كتب التفسير والمصاحف سورة المطففين اختصارا. ولم يذكرها في الإتقان في عداد السور ذوات أكثر من اسم وسماها {سورة المطففين} وفيه نظر... وقال الكلبي وجابر بن زيد: نزلت بين مكة والمدينة فهي لذلك مكية، لأن العبرة في المدني بما نزل بعد الهجرة على المختار من الأقوال لأهل علم القرآن. قال ابن عطية: احتج جماعة من المفسرين على أنها مكية بذكر الأساطير فيها أي قوله {إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين}. والذي نختاره: أنها نزلت قبل الهجرة لأن معظم ما اشتملت عليه التعريض بمنكري البعث. ومن اللطائف أن تكون نزلت بين مكة والمدينة لأن التطفيف كان فاشيا في البلدين. وقد حصل من اختلافهم أنها: إما آخر ما أنزل بمكة، وإما أول ما أنزل بالمدينة، والقول بأنها نزلت بين مكة والمدينة قول حسن...
وكانت عادة فشت فيهم من زمن الشرك فلم يتفطن بعض الذين أسلموا من أهل المدينة لما فيه من أكل مال الناس. فأريد إيقاظهم لذلك، فكانت مقدمة لإصلاح أحوال المسلمين في المدينة مع تشنيع أحوال المشركين بمكة ويثرب بأنهم الذين سنوا التطفيف. وما أنسب هذا المقصد بأن تكون نزلت بين مكة والمدينة لتطهير المدينة من فساد المعاملات التجارية قبل أن يدخل إليها النبي صلى الله عليه وسلم لئلا يشهد فيها منكرا عاما فإن الكيل والوزن لا يخلو وقت عن التعامل بهما في الأسواق وفي المبادلات... أغراضها: اشتملت على التحذير من التطفيف في الكيل والوزن وتفظيعه بأنه تحيل على أكل مال الناس في حال المعاملة أخذا وإعطاء. وأن ذلك مما سيحاسبون عليه يوم القيامة. وتهويل ذلك اليوم بأنه وقوف عند ربهم ليفصل بينهم وليجازيهم على أعمالهم وأن الأعمال محصاة عند الله. ووعيد الذين يكذبون بيوم الجزاء والذين يكذبون بأن القرآن منزل من عند الله. وقوبل حالهم بضده من حال الأبرار أهل الإيمان ورفع درجاتهم وإعلان كرامتهم بين الملائكة والمقربين وذكر صور من نعيمهم. وانتقل من ذلك إلى وصف حال الفريقين في هذا العالم الزائل إذ كان المشركون يسخرون من المؤمنين ويلزمونهم ويستضعفونهم وكيف انقلب الحال في العالم الأبدي...
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
في السورة تنديد بالغشاشين في الكيل والميزان وإنذار بحساب الله. واستطراد إلى ذكر مصير المكذبين والمؤمنين يوم القيامة. وحكاية لسخرية الكفار بالمؤمنين في الدنيا وانقلاب الحال في الآخرة. وآيات السورة متوازنة منسجمة مما يسوغ القول: إنها نزلت دفعة واحدة. والمصحف الذي اعتمدناه يذكر أن هذه السورة آخر السور المكية نزولا. ومعظم روايات ترتيب النزول تذكر أنها من السور المتأخرة في النزول كذلك، ومنها ما يتفق مع المصحف بأنها الآخر نزولا. غير أن مضمونها وأسلوبها يثيران في النفس شكا في ذلك ويسوغان الظن بأنها من السورة المبكرة في النزول. مثل السور القصيرة المسجّعة...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
لقد جرى الحديث بين المفسّرين بخصوص نزولها بين مكّة والمدينة، وبملاحظة أسباب نزول الآيات الأولى من السّورة، والتي تتعلق بالذين يُخسرون الميزان، فسيظهر أنّ نزولها كان في المدينة. ولكنّ طبيعة بقية الآيات تأتي تماماً مع سياق الآيات المكّية، حيث أنّها تتحدث وبعبارات موجزة ومثيرة عن حوادث يوم القيامة، وعلى الخصوص الآيات الأخيرة من السّورة والتي تنقل لنا حالة استهزاء الكفّار بالمسلمين، وهو ما ينسجم مع أوضاع مكّة في أوائل الدعوة المباركة، حينها كان المؤمنون عصبة قليلة والكفّار كثرة من حيث العدد. ولعل ذلك هو الذي دفع بالمفسّرين لاعتبار قسم من الآيات مكّية والقسم الآخر مدنية. وعموماً، فالسّورة أقرب منها للسور المكّية من السور المدنية، وعلى أية حال، فبحوث السّورة تدور حول محاور خمسة: هي:
الإشارة إلى أنّ منشأ الذنوب الكبيرة إنّما يأتي من عدم رسوخ الإيمان بالبعث والمعاد.
عرض لجوانب من عاقبة «الفجّار» في ذلك اليوم العظيم.
عرض لجوانب ما ينتظر المحسنين في الجنّة من نعم إلهية وعطاء ربّاني جزيل. 5 الإشارة لآثار استهزاء الكفّار بالمؤمنين في الحياة الدنيا، وانعكاس الحال في يوم القيامة.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: الوادي الذي يسيل من صديد أهل جهنم في أسفلها للذين يُطَفّفون، يعني: للذين ينقصون الناس، ويَبْخَسونهم حقوقهم في مكاييلهم إذا كالوهم، أو موازينهم إذا وزنوا لهم عن الواجب لهم من الوفاء وأصل ذلك من الشيء الطفيف، وهو القليل النّزْر، والمطفّف: المقلّل حقّ صاحب الحقّ عما له من الوفاء والتمام في كيل أو وزن، ومنه قيل للقوم الذين يكونون سواء في حسبة أو عدد: هم سواء كطَفّ الصاع، يعني بذلك: كقرب الممتلئ منه ناقص عن الملء... عن عبد الله، قال: قال له رجل: يا أبا عبد الرحمن، إن أهل المدينة لَيوفون الكيل، قال: وما يمنعهم من أن يوفوا الكيل، وقد قال الله:"وَيْلٌ للْمُطَفّفِينَ "حتى بلغ: "يَوْمَ يَقُومُ النّاسُ لِرَبّ الْعالَمِينَ"...
عن ابن عباس، قال: لما قَدم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة كانوا من أخبث الناس كيلاً، فأنزل الله: "وَيْلٌ لِلْمُطَفّفِينَ" فأحسنوا الكيل.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... الكفرة لم يكونوا اعتقدوا الكفر بالله تعالى لتلذذ يقع لهم نفس الكفر، ولا التزموه على التحسين لهم إياه، وإنما أعرضوا عن الإيمان لحبهم الرئاسة ولمأكلة كانت لهم، خافوا زوالها عنهم بالإسلام، وزهدوا فيه لما يلزمهم بالإيمان مؤن، واختاروا الكفر لئلا يلزمهم بالإيمان تحملها. فكان الذي يحملهم على الصد عن الإيمان وترك النظر في آيات الله تعالى وحججه ما ذكرنا، فعيروا بالأفعال الدنيئة التي كانوا يتعاطونها في ما بينهم من التطفيف والهمز واللمز وتركهم إيتاء الزكاة بقوله عز وجل: {الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون} [فصلت: 7] لينقلعوا عنها، فيحملهم ذلك على النظر في القرآن والتدبر فيه، وهو كما ذكرنا في القتال أن فيه ما يحملهم على الإيمان لأنهم كانوا يتزهدون عنه لحبهم الدنيا؛ فإذا قوتلوا ضاقت عليهم الدنيا، فبعثهم ذلك إلى الإيمان بالله تعالى وعلى النظر في آياته. وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تلا هذه الآية على أهل المدينة تركوا التطفيف فلم يطففوا بعد ذلك. [ابن ماجة 2223]. قال أهل اللغة: التطفيف النقصان؛ يقال: إناء طفّان إذا كان غير مملوء. وقال الزجاج: يقال: شيء طفيف أي يسير، فسمي مطففا لما يسرق منه شيئا فشيئا في كل مكيال، وهذا دلالة أن حرمة الربا عامة على أهل الأديان، وفيه دلالة أن حرمة الربا ليست لمكان العاقدين، وإنما هي حق على العاقدين لله تعالى؛ وذلك أن الذي يكال له كان يأخذ ما يكال له على علم منه بتطفيف البائع، ثم كان يرضى به، ويتجاوز عن ذلك، ومع ذلك لحقه التعيير بالتطفيف، فدل أن حرمته ليست لمكان العاقدين، ولكنها من حق الله تعالى...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
والتطفيف: التنقيص على وجه الخيانة في الكيل أو الوزن...
جهود ابن عبد البر في التفسير 463 هـ :
أما التطفيف في لسان العرب، فهو الزيادة على العدل والنقصان منه، وذلك ذم لفاعله، قال الله تعالى: {ويل لمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون}، ومن ذمه الله تعالى، استحق عقوبته، كما أن من مدحه استحق ثوابه...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{وَيْلٌ}: الويلُ كلمةٌ تُذْكَر عند وقوع البلاء، فيقال: ويلٌ لك، وويلٌ عليك! و "المطفّف"، الذي يُنْقِصُ الكيْلَ والوزنَ، وأراد بهذا الذين يعامِلون الناس فإذا أخذوا لأنفسهم استوفوا، وإذا دفعوا إِلى من يعاملهم نقصوا، ويتجلَّى ذلك في: الوزن والكيْلِ، وفي إظهار العيب، وفي القضاء والأداء والاقتضاء؛ فَمَنْ لم يَرْضَ لأخيه المسلم ما لا يرضاه لنفسه فليس بمنصف. وأمَّا الصِّدِّيقون فإنهم كما ينظرون للمسلمين فإنهم ينظرون لكلِّ مَن لهم معهم معاملة -والصدقُ عزيزٌ، وكذلك أحوالهم في الصُّحْبَةِ والمعاشرة... فالذي يرى عَيْبَ الناسِ ولا يرى عيبَ نَفْسِه فهو من هذه الجملة- جملة المطففين...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{ويل} معناه: الثبور والحزن والشقاء الأدوم،... وقال بعض العلماء: يدخل التطفيف في كل قول وعمل... وقد ذهب بعض الناس إلى أن التطفيف هو تجاوز الحد في وفاء ونقصان...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
قَالَ عُلَمَاءُ اللُّغَةِ: الْمُطَفِّفُونَ هُم الَّذِينَ يَنْقُصُونَ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ. وَقِيلَ لَهُ الْمُطَفِّف؛ لِأَنَّهُ لَا يَكَادُ يَسْرِقُ فِي الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ إلَّا الشَّيْءَ الطَّفِيفَ، مَأْخُوذٌ من طَفِّ الشَّيْءِ وَهُوَ جَانِبُهُ.
{ويل للمطففين} والمراد الزجر عن التطفيف، وهو البخس في المكيال والميزان بالشيء القليل على سبيل الخفية، وذلك لأن الكثير يظهر فيمنع منه، وذلك القليل إن ظهر أيضا منع منه، فعلمنا أن التطفيف هو البخس في المكيال والميزان بالشيء القليل على سبيل الخفية...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ويل} أي هلاك ثابت عظيم في كل حال من أحوال الدنيا والآخرة {للمطففين} أي الذين ينقصون المكيال والميزان ويبخسون حقوق الناس، وفي ذلك تنبيه على أن أصل الآفات الخلق السيئ وهو حب الدنيا الموقع في جمع الأموال من غير وجهها ولو بأخس الوجوه: التطفيف الذي لا يرضاه ذو مروءة وهم من يقاربون ملء الكيل وعدل الوزن ولا يملؤون ولا يعدلون، وكأنه من الإزالة أي أزال ما أشرف من أعلى الكيل...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
افتتاح السورة باسم الويل مؤذن بأنها تشتمل على وعيد فلفظ {ويل} من براعة الاستهلال، ومثله قوله تعالى: {تبت يدا أبي لهب} [المسد: 1]. وقد أخذ أبو بكر بن الخازن من عكسه قوله في طالع قصيدة بتهنئته بمولود: بُشرى فقد أنجز الإِقبال ما وعدا والتطفيف: النقص عن حق المقدار في الموزون أو المكيل، وهو مصدر طفف...
و {ويل} كلمة دعاء بسوء الحال، وهو في القرآن وعيد بالعقاب وتقريع، والويل: اسم وليس بمصدر لعدم وجود فعل له، وتقدم عند قوله تعالى: {فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم} في سورة البقرة (79). وهو من عمل المتصدين للتجر يغتنمون حاجة الناس إلى الابتياع منهم وإلى البيع لهم لأن التجار هم أصحاب رؤوس الأموال وبيدهم المكاييل والموازين، وكان أهل مكة تجاراً، وكان في يثرب تجار أيضاً وفيهم اليهود مثلُ أبي رافع، وكعب بن الأشرف تاجريْ أهل الحجاز وكانت تجارتهم في التمر والحبوب. وكان أهل مكة يتعاملون بالوزن لأنهم يتجرون في أصناف السلع ويزنون الذهب والفضة وأهل يثرب يتعاملون بالكيل. والآية تؤذن بأن التطفيف كان متفشياً في المدينة في أول مدة الهجرة واختلاط المسلمين بالمنافقين يُسبب ذلك. واجتمعت كلمة المفسرين على أن أهل يثرب كانوا من أخبث الناس كيلاً فقال جماعة من المفسرين: إن هذه الآية نزلت فيهم فأحسنوا الكيل بعد ذلك...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وإذا كان التطفيف في الكيل والميزان يتمشى مع روح "الجاهلية الأولى"، وما عرف فيها من الربا الفاحش والعقود الفاسدة، فإنه لا ينسجم مع روح الإسلام في قليل ولا كثير، ولذلك نزل كتاب الله لمحاربته، والتنفير منه ومن أصحابه، وتهديدهم بالخسران والهلاك والويل...
يستهل الحق سبحانه وتعالى هذه السورة بأداة من أدوات الاستيفاء، وعملية من عمليات أخذ الحقوق وأداء الواجبات، فيقول: {ويلٌ للمطفّفين (1) الذين إذا اكتالوا على النّاس يستوفون (2) وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون (3)}، فقد اختل عندهم ميزان الاستيفاء والأداء، فيجب أن يكون الميزان واحداً، ما تستوفي به يجب أن تؤدي به، أما أن تستوفي بالمعيار الواسع، وتؤدي بالمعيار الضيق فذلك هو الظلم الذي ينشأ عنه الفساد في المجتمع.
ففساد المجتمع ينشأ من حرص الناس جميعاً على أن يأخذوا حقوقهم كاملة غير منقوصة إن لم تكن زائدة، ثم حين يطلب منهم الواجب يؤدونه مطفوفاً، فلو أن كل إنسان حرص على أن يؤدي واجبه كما يحرص على أن يأخذ حقه لاستقامت أمور الدنيا...
فاستهلال السورة بـ: {ويلٌ} وهو العنف في العذاب الشديد، لم يأت بعد ذلك بما هو متوقع، فلم يقل مثلاً: ويل للقتلة، أو: ويل لأصحاب الفحشاء، أو ما شابه ذلك، ولكنه يذكر شيئاً مما يستصغره الناس: {ويلٌ للمطفّفين} والتطفيف هو الازدياد اليسير، من طفّ الصاع أو الكيل، وذلك حين تأخذه من جانب وتضعه في جانب آخر فقد تخونك يدك، فيكون ذلك سبباً في الويل.
وهل يستحق هذا التطفيف القليل أن يكون جزاؤه هذا الجزاء الشديد؟! نعم؛ لأن هذا الشيء القليل يدل على حقارة النفس، كأن تكون غنيّا، وتمتلك الجاه من الشيء التافه، وإذا كنت تفتري في الشيء التافه فالافتراء على الشيء الأكثر منه وارد؛ لأنه ما دامت النفس قد وصلت إلى هذا المستوى وتريد أن تأخذ من الشيء الحقير، فمن باب أولى أن تأخذ من الشيء الأكبر.