{ والعاديات ضبحاً } قال ابن عباس ، وعطاء ومجاهد ، وعكرمة ، والحسن ، والكلبي ، وقتادة ، ومقاتل ، وأبو العالية وغيرهم : هي الخيل العادية في سبيل الله تضبح ، والضبح : صوت أجوافها إذا عدت . قال ابن عباس : وليس شيء من الحيوانات تضبح غير الفرس والكلب والثعلب ، وإنما تضبح هذه الحيوانات إذا تغير حالها من تعب أو فزع ، وهو من قول العرب : ضبحته النار ، إذا غيرت لونه . وقوله : { ضبحاً } نصب على المصدر ، مجازه : والعاديات تضبح ضبحاً . وقال علي : هي الإبل في الحج ، تعدو من عرفة إلى المزدلفة ، ومن المزدلفة إلى منىً ، وقال : كانت أول غزوة في الإسلام بدراً ، وما كان معنا إلا فرسان : فرس للزبير وفرس للمقداد بن الأسود ، فكيف تكون الخيل العاديات ؟ وإلى هذا ذهب ابن مسعود ، ومحمد بن كعب ، والسدي . وقال بعض من قال : هي الإبل ، قوله { ضبحاً } يعني ضباحاً ، تمد أعناقها في السير .
{ 1 - 11 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا * فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا * إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ * وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ * وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ * أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ * إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ }
أقسم الله تبارك وتعالى بالخيل ، لما فيها من آيات الله الباهرة ، ونعمه الظاهرة ، ما هو معلوم للخلق .
وأقسم [ تعالى ] بها في الحال التي لا يشاركها [ فيه ] غيرها من أنواع الحيوانات ، فقال : { وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا } أي : العاديات عدوًا بليغًا قويًا ، يصدر عنه الضبح ، وهو صوت نفسها في صدرها ، عند اشتداد العدو{[1467]} .
سورة العاديات مكية وآياتها إحدى عشرة
يجري سياق هذه السورة في لمسات سريعة عنيفة مثيرة ، ينتقل من إحداها إلى الأخرى قفزا وركضا ووثبا ، في خفة وسرعة وانطلاق ، حتى ينتهي إلى آخر فقرة فيها فيستقر عندها اللفظ والظل والموضوع والإيقاع ! كما يصل الراكض إلى نهاية المطاف !
وتبدأ بمشهد الخيل العادية الضابحة ، القادحة للشرر بحوافرها ، المغيرة مع الصباح ، المثيرة للنقع وهو الغبار ، الداخلة في وسط العدو فجأة تأخذه على غرة ، وتثير في صفوفه الذعر والفرار !
يليه مشهد في النفس من الكنود والجحود والأثرة والشح الشديد !
ثم يعقبه مشهد لبعثرة القبور وتحصيل ما في الصدور !
وفي الختام ينتهي النقع المثار ، وينتهي الكنود والشح ، وتنتهي البعثرة والجمع . . إلى نهايتها جميعا . إلى الله . فتستقر هناك : ( إن ربك بهم يومئذ لخبير ) . . .
والإيقاع الموسيقي فيه خشونة ودمدمة وفرقعة ، تناسب الجو الصاخب المعفر الذي تنشئه القبور المبعثرة ، والصدور المحصل ما فيها بشدة وقوة ، كما تناسب جو الجحود والكنود ، والأثرة والشح الشديد . . فلما أراد لهذا كله إطارا مناسبا ، اختاره من الجو الصاخب المعفر كذلك ، تثيره الخيل العادية في جريها ، الصاخبة بأصواتها ، القادحة بحوافرها ، المغيرة فجاءة مع الصباح ، المثيرة للنقع والغبار ، الداخلة في وسط العدو على غير انتظار . . . فكان الإطار من الصورة والصورة من الإطار .
( والعاديات ضبحا ، فالموريات قدحا ، فالمغيرات صبحا ، فأثرن به نقعا ، فوسطن به جمعا . . إن الإنسان لربه لكنود . وإنه على ذلك لشهيد . وإنه لحب الخير لشديد . . . )
يقسم الله سبحانه بخيل المعركة ، ويصف حركاتها واحدة واحدة منذ أن تبدأ عدوها وجريها ضابحة بأصواتها المعروفة حين تجري ،
وهي مكية في قول جماعة من أهل العلم ، وقال المهدوي عن أنس بن مالك : هي مدنية{[1]} .
اختلف الناس في المراد : ب { العاديات } ، فقال ابن عباس وقتادة ومجاهد وعكرمة : أراد الخيل ؛ لأنها تعدو بالفرسان وتصيح بأصواتها ، قال بعضهم : وسببها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث خيلاً إلى بني كنانة سرية فأبطأ أمرها عليه حتى أرجف بهم بعض المنافقين ، فنزلت الآية معلمة أن خيله عليه السلام قد فعلت جميع ما في الآية ، وقال آخرون : القسم هو بالخيل جملة ؛ لأنها تعدو ضابحة قديماً وحديثاً ، وهي حاصرة البلاد وهادمة الممالك ، وفي نواصيها الخير إلى يوم القيامة ، وقال علي بن أبي طالب وابن مسعود وإبراهيم وعبيد بن عمير : { العاديات } في هذه الآية : الإبل ؛ لأنها تضبح في عدوها . قال علي : والقسم بالإبل العاديات من عرفة ومن مزدلفة إذا وقع الحاج ، وبإبل غزوة بدر ، فإنه لم يكن في الغزوة غير فرسين : فرس المقداد وفرس الزبير بن العوام . والضبح : تصويت جهير عند العدو الشديد ليس بصهيل ولا رغاء ولا نباح ؛ بل هو غير المعتاد من صوت الحيوان الذي يضبح . وحكي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : ليس يضبح من الحيوان غير الخيل والكلاب ، وهذا عندي لا يصح عن ابن عباس رضي الله عنه{[11946]} ، وذلك أن الإبل تضبح والأسود من الحيات والبوم والصدى{[11947]} والأرنب والثعلب والقوس ، هذه كلها قد استعملت لها العرب الضبح ، وأنشد أبو حنيفة في صفة قوس : [ الرجز ]
حنانة من نشم أو تالب . . . تضبح في الكف ضباح الثعلب{[11948]}