قوله تعالى : { واعتصموا بحبل الله جميعاً } . الحبل : السبب الذي يتوصل به إلى البغية ، وسمي الإيمان حبلاً لأنه سبب يتوصل به إلى زوال الخوف . واختلفوا في معناه هاهنا ، قال ابن عباس : معناه تمسكوا بدين الله ، وقال ابن مسعود : هو الجماعة ، وقال : عليكم بالجماعة ، فإنها حبل الله الذي أمر به ، وإن ما تكرهون في الجماعة والطاعة خير مما تحبون في الفرقة . وقال مجاهد وعطاء : بعهد الله ، وقال قتادة والسدي : هو القرآن ، وروى عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن هذا القرآن هو حبل الله المتين ، وهو النور المبين ، والشفاء النافع ، وعصمة الله لمن تمسك به ، ونجاة لمن تبعة " . وقال مقاتل بن حيان( بحبل الله ) أي بأمر الله وطاعته .
قوله تعالى : { ولا تفرقوا } . كما افترقت اليهود والنصارى .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن احمد أبو إسحاق الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب عن مالك بن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن الله تعالى يرضى لكم ثلاثاً ، ويسخط لكم ثلاثاً ، يرضى لكم : أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً ، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ، وأن تناصحوا من ولى الله أمركم . ويسخط لكم ثلاثا : قيل وقال ، وإضاعة المال ، وكثرة السؤال " . قوله تعالى : { واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم } . قال محمد بن إسحاق بن يسار وغيره من أهل الأخبار : كانت الأوس والخزرج أخوين لأب وأم فوقعت بينهما عداوة بسبب قتيل قتل بينهم ، فتطاولت تلك العداوة والحرب بينهم عشرين ومائة سنة إلى أن أطفأ الله عز وجل ذلك بالإسلام ، وألف بينهم برسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، وكان سبب ألفتهم : أن سويد بن الصامت أخاً بني عمرو بن عوف- وكان شريفاً- يسميه قومه الكامل لجلده ونسبه ، قدم مكة حاجاً أو معتمراً ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث وأمر بالدعوة ، فتصدى له حين سمع به ودعاه إلى الله عز وجل وإلى الإسلام ، فقال له سويد : فلعل الذي معك مثل الذي معي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وما الذي معك ؟ فقال : محلة لقمان ، يعني حكمته ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم اعرضها علي ؟ فعرضها ، فقال : إن هذا كلام حسن ، ومعي أفضل من هذا ، قرآن أنزله الله علي نوراً وهدىً ، فتلا عليه القرآن ودعاه إلى الإسلام ، فلم يبعد منه ، ولم ينفر . وسر بذلك وقال : إن هذا القول حسن ، ثم انصرف إلى المدينة فلم يلبث أن قتلته الخزرج قبل يوم بعاث ، فإن قومه ليقولون : إنه قد قتل وهو مسلم . ثم قدم أبو الجيسر أنس بن رافع ، ومعه فئة من بني الأشهل فيهم إياس بن معاذ يلتمسون الحلف من قريش على قوم من الخزرج ، فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاهم فجلس إليهم ، وقال : هل لكم إلى خير مما جئتم له ؟ قالوا : وما ذلك ؟ قال : أنا رسول الله بعثني إلى العباد أدعوهم إلى أن لا يشركوا بالله شيئاً ، وأنزل علي الكتاب ، ثم ذكر لهم الإسلام ، وتلا عليهم القرآن ، فقال إياس بن معاذ -وكان غلاماً حدثاً- أي قوم هذا والله خير مما جئتم له ، فأخذ أبو الجيسر حفنة من البطحاء فضرب بها وجه إياس وقال : دعنا منك ، فلعمري لقد جئنا لغير هذا ، فصمت إياس وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم وانصرفوا إلى المدينة ، وكانت وقعة بعاث بين الأوس والخزرج ، ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك . فلما أراد لله عز وجل إظهار دينه وإعزاز نبيه خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموسم الذي لقي فيه النفر من الأنصار يعرض نفسه على قبائل العرب كما كان يصنع في كل موسم ، فلقي عند العقبة رهطاً من الخزرج أراد الله بهم خيراً وهم ستة نفر : أسعد بن زرارة ، وعوف بن الحارث ، وهو ابن عفراء ، ورافع ابن مالك العجلاني ، وقطبة بن عامر بن خريدة ، وعقبة بن عامر بن نابي ، وجابر بن عبد الله ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنتم ؟ قالوا : نفر من الخزرج ، قال : أمن موالي يهود ؟ قالوا : نعم : قال : أفلا تجلسون حتى أكلمكم ؟ قالوا : بلى ، فجلسوا معه فدعاهم إلى الله عز وجل وعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن . قالوا : وكان مما صنع الله لهم به في الإسلام أن يهوداً كانوا معهم ببلادهم ، وكانوا أهل كتاب وعلم ، وهم كانوا أهل أوثان وشرك ، وكانوا إذا كان منهم شيء قالوا : إن نبياً الآن مبعوث قد أظل زمانه ، نتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم ، فلما كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر ودعاهم إلى الله عز وجل قال بعضهم لبعض : يا قوم تعلمون والله إنه النبي الذي توعدكم به يهود ، فلا يسبقنكم إليه ؟ فأجابوه وصدقوه وأسلموا وقالوا : إنا قد تركنا قومنا وبينهم من العداوة والشر ما بينهم ، وعسى الله أن يجمعهم بك وسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك ، فإن جمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك . ثم انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعين إلى بلادهم قد آمنوا به صلى الله عليه وسلم ، فلما قدموا المدينة ذكروا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوهم إلى الإسلام ، حتى فشا فيهم ، فلم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى إذا كان العام المقبل أتى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلاً ، وهم : أسعد بن زرارة ، وعوف ، ومعاذ ابنا عفراء ، ورافع بن مالك بن العجلاني ، وذكوان بن عبد القيس ، وعبادة بن الصامت ، ويزيد بن ثعلبة ، وعباس بن عبادة ، وعقبة بن عامر ، وقطبة بن عامر ، وهؤلاء خزرجيون وأبو الهيثم بن التيهان وعويم بن ساعدة من الأوس ، فلقوه بالعقبة وهي بيعة العقبة الأولى ، فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء ، على أن لا يشركوا بالله شيئاً ولا يسرقوا ولا يزنوا ، إلى آخر الآية ، فإن وفيتم فلكم الجنة ، وان غشيتم شيئاً من ذلك فأخذتم بحده في الدنيا فهو كفارة له ، وإن ستر عليكم فأمركم إلى الله إن شاء عذبكم وإن شاء غفر لكم ، قال : وذلك قبل أن يفرض عليهم الحرب ، قال فلما انصرف القوم بعث معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير ابن هاشم بن عبد مناف ، وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام ، ويفقههم في الدين ، وكان مصعب يسمى بالمدينة المقرئ ، وكان منزله على أسعد بن زرارة ، ثم إن أسعد بن زرارة خرج بمصعب فدخل به حائطاً من حوائط بني ظفر ، فجلسا في الحائط واجتمع إليهما رجال ممن أسلم ، فقال سعد بن معاذ لأسيد بن حضير : انطلق إلى هذين الرجلين اللذين قد أتيا دارنا ليسفها ضعفاءنا فازجرهما ، فإن أسعد بن زرارة ابن خالتي ولولا ذاك لكفيتكه ، وكان سعد بن معاذ وأسيد بن حضير سيدي قومهما من بني عبد الأشهل وهما مشركان ، فأخذ أسيد بن حضير حربته ثم أقبل إلى مصعب وأسعد وهما جالسان في الحائط ، فلما رآه أسعد بن زرارة قال لمصعب : هذا والله سيد قومه قد جاءك فاصدق الله فيه . قال مصعب : إن يجلس أكلمه ، قال : فوقف عليهما متشتماً فقال : ما جاء بكما إلينا ؟ تسفهان ضعفاءنا ؟ اعتزلا إن كانت لكما في أنفسكما حاجة ، فقال له مصعب : أو تجلس فتسمع ؟ فإن رضيت أمرا قبلته وإن كرهته كف عنك ما تكره ، قال : أنصفت ، ثم ركز حربته وجلس إليهما ، فكلمة مصعب بالإسلام وقرا عليه القرآن ، فقالا والله لعرفنا في وجهة الإسلام قبل أن يتكلم به ، في إشراقه وتسهله ، ثم قال : ما أحسن هذا وأجمله كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين ؟ قالا له : تغتسل وتطهر ثوبك ثم تشهد شهادة الحق ، ثم تصلي ركعتين ، فقام فاغتسل وطهر ثوبه ، وشهد شهادة الحق ، ثم قام وركع ركعتين ، ثم قال لهما : إن ورائي رجلاً إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه وسأرسله إليكما الآن ، هو سعد بن معاذ ، ثم أخذ حربته فانصرف إلى سعد وقومه ، وهم جلوس في ناديهم ، فلما نظر إليه سعد بن معاذ مقبلاً قال : أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب من عندكم ، فلما وقف على النادي قال له سعد : ما فعلت ؟ قال : كلمت الرجلين فو الله ما رأيت بهما بأساً وقد نهيتهما ، فقالا : فافعل ما أحببت ، وقد حدثت أن بني حارثة خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه ، وذلك أنهم عرفوا أنه ابن خالتك ليخفروك فقام سعد مغضباً مبادراً للذي ذكره له من بني حارثة ، فأخذ الحربة ، ثم قال : والله ما أراك أغنيت شيئاً فلما رآهما مطمئنين عرف أن أسيدا إنما أراد أن يسمع منهما ، فوقف عليهما متشتماً ، ثم قال لأسعد بن زرارة : لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني ، تغشانا في دارنا بما نكره ؟ وقد قال أسعد لمصعب : جاءك والله سيد قومه ، وإن اتبعك لم يخالفك منهم أحد ، فقال له مصعب : أو تقعد فتسمع فإن رضيت أمرا ورغبت فيه قبلته ، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره ، قال سعد : أنصفت ، ثم ركز الحربة فجلس ، فعرض عليه الإسلام وقرأ عليه القرآن : قالا : فعرفنا والله في وجهة الإسلام قبل أن يتكلم به في إشراقه وتسهله ، ثم قال لهما : كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ودخلتم في هذا الدين ؟ قالا له : تغتسل وتطهر ثوبك ، ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلي ركعتين ، فقام واغتسل وطهر ثوبه ثم تشهد شهادة الحق ، وركع ركعتين ، ثم أخذ حربته فأقبل عامداً إلى نادي قومه ومعه أسيد بن حضير ، فلما رآه قومه مقبلاً قالوا : نحلف بالله لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم ، فلما وقف عليهم قال : يا بني عبد الأشهل ، كيف تعلمون أمري فيكم ؟ قالوا : سيدنا وأفضلنا رأياً وأيمننا نقيبة قال : فإن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله ، قال : فما أمسى في الدار لبني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلم أو مسلمة ، ورجع أسعد بن زرارة ومصعب إلى منزل أسعد بن زرارة ، فأقام عنده يدعو الناس إلى الإسلام حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال مسلمون ونساء مسلمات إلا ما كان من دار بني أمية بن زيد ، وخطمة ، ووائل ووافق وذلك أنه كان فيهم أبو قيس بن الأسلت الشاعر ، وكانوا يسمعون منه ويطيعونه فوقف بهم عن الإسلام حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، ومضى بدر وأحد والخندق . قالوا : ثم إن مصعب بن عمير رجع إلى مكة وخرج معه من الأنصار من المسلمين سبعون رجلاً مع حجاج قومهم من أهل الشرك حتى قدموا مكة ، فواعدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة من أوسط أيام التشريق وهي بيعة العقبة الثانية . قال كعب بن مالك وكان قد شهد ذلك فلما فرغنا من الحج ، وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام أو جابر أخبرناه ، وكنا نكتم عمن معنا من المشركين من قومنا أمرنا فكلمناه ، وقلنا له : يا أبا جابر إنك سيد من ساداتنا ، وشريف من أشرافنا وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حطباً للنار غداً ، ودعوناه إلى الإسلام فأسلم ، وأخبرناه بميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهد معنا العقبة ، وكان نقيباً ، فبتنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم نتسلل مستخفين تسلل القطا ، حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة ، ونحن سبعون رجلاً ومعنا امرأتان من نسائنا ، نسيبة بنت كعب بن عمارة إحدى نساء بني النجار ، وأسماء بنت عمرو بن عدي أم منيع إحدى نساء بني سلمة ، فاجتمعنا بالشعب ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى جاءنا ومعه عمه العباس بن عبد المطلب ، وهو يومئذ على دين قومه ، إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ، ويتوثق له ، فما جلسنا كان أول من تكلم العباس بن عبد المطلب ، فقال : يا معشر الخزرج ، وكانت العرب إنما يسمون هذا الحي من الأنصار خزرجها وأوسها ، إن محمداً صلى الله عليه وسلم منا حيث قد علمتم ، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا ، وهو في عز من قومه ومنعه في بلده ، وأنه قد أبى إلا الانقطاع إليكم واللحوق بكم ، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ، ومانعوه ممن خالفه ، فأنتم وما تحملتم من ذلك وان كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج إليكم فمن الآن فدعوه ، فإنه في عز ومنعة . قال : فقلنا قد سمعنا ما قلت : فتكلم يا رسول الله وخذ لنفسك ولربك ما شئت ؟ قال : فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلا القرآن ، ودعا إلى الله تعالى ورغب في الإسلام ، ثم قال أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم ، ونساءكم ، وأبناءكم ، قال : فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال : والذي بعثك بالحق نبياً ، لنمنعك مما نمنع منه أزرنا فبايعنا يا رسول الله ؟ فنحن أهل الحرب ، وأهل الحلقة ، ورثناها كابراً عن كابر . قال :فاعترض القول والبراء يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو الهيثم بن التيهان ، فقال : يا رسول الله إن بيننا وبين الناس حبالاً -يعني العهود- وإنا قاطعوها ، فهل عسيت إن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا ؟ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال :لا بل الأبد الأبد ، الدم الدم ، والهدم والهدم ، أنتم مني وأنا منكم ، أحارب من حاربتم ، وأسلم من سالمتم . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيباً كفلاء على قومهم بما فيهم ن ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم ؟ فاخرجوا اثني عشر نقيباً ، تسعة من الخزرج ، وثلاثة من الأوس . قال عاصم بن عمرو ابن قتادة : إن القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاري : يا معشر الخزرج هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل ؟ إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود ، فإن كنتم ترون أنكم إذا أنهكت أموالكم مصيبة ، وأشرافكم قتلى أسلمتموه ، فمن الآن ؟ فهو والله إن فعلتم خزي في الدنيا والآخرة ، وان كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهك الأموال ، وقتل الأشراف فخذوه ، فهو والله خير الدنيا والآخرة . قالوا : فإنا نأخذه على مصيبة الأموال ، وقتل الأشراف ، فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا ؟ قال الجنة . قالوا : أبسط يدك فبسط يده فبايعوه ، وأول من ضرب على يده البراء بن معرور ، ثم تتابع القوم ، فلما بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صرخ الشيطان من رأس العقبة صوتا ما سمعته قط ، يا أهل الحباحب ، هل لكم في مذمم والصباة قد اجتمعوا على حربكم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا عدو الله ، هذا أزب العقبة ، اسمع أي عدو الله ، أما والله لأفرغن لك ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ارفضوا إلى رحالكم . فقال العباس بن عبادة بن نضلة : والذي بعثك بالحق لئن شئت لنميلن غداً على أهل منى بأسيافنا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :لم نؤمر بذلك ، ولكن ارجعوا إلى رحالكم . قال فرجعنا إلى مضاجعنا فنمنا عليها حتى أصبحنا ، فلما أصبحنا غدت علينا جلة قريش حتى جاءونا في منازلنا فقالوا : يا معشر الخزرج بلغنا أنكم جئتم صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا . وتبايعونه على حربنا ، فإنه والله ماحي من العرب أبغض إلينا أن ينشب بالحرب بيننا وبينهم منكم . قال : فانبعث من هناك من مشركي قومنا يحلفون لهم بالله ما كان من هذا شيء وما علمناه . وصدقوا . ولم يعلموا ، وبعضنا ينظر إلى بعض ، وقام القوم وفيهم الحرث بن هشام بن المغيرة المخزومي ، وعليه نعلان جديدان ، قال : فقلت له كلمة كأني أريد أن أشرك القوم بها فيما قالوا : يا أبا جابر ، أما تستطيع أن تتخذ وأنت سيد من ساداتنا مثل نعلي هذا الفتى من قريش ؛ قال : فسمعها الحارث ، فخلعهما من رجليه ثم رمى بهما إلي فقال : والله لتنتعلنهما قال : يقول أبو جابر رضي الله عنه : مه ، والله أحفظت الفتى فاردد إليه نعليه ، قال : لا أردهما قال : والله يا أبا صالح ، والله لئن صدق الفأل لأسلبنه . قال : ثم انصرف الأنصار إلى المدينة وقد شددوا العقد ، فلما قدموها أظهروا الإسلام بها ، وبلغ ذلك قريشاً فآذوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه :إن الله تعالى قد جعل لكم إخوانا وداراً تأمنون فيها ، فأمرهم بالهجرة إلى المدينة ، واللحوق بإخوانهم من الأنصار . فأول من هاجر إلى المدينة أبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي ، ثم عامر بن ربيعة ثم عبد الله بن جحش ثم تتابع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسالاً إلى المدينة ، فجمع الله أهل المدينة أوسها وخزرجها بالإسلام ، وأصلح ذات بينهم نبيه محمد صلى الله عليه وسلم . قال الله تعالى ( واذكروا نعمة الله عليكم ) يا معشر الأنصار( إذ كنتم أعداء ) قبل الإسلام( فألف بين قلوبكم ) الإسلام . قوله تعالى : { فأصبحتم } . أي فصرتم .
قوله تعالى : { بنعمته } . برحمته وبدينه الإسلام .
قوله تعالى : { إخواناً } . في الدين والولاية بينكم .
قوله تعالى : { وكنتم . يا معشر الأوس والخزرج .
قوله تعالى : { على شفا حفرة من النار } . أي على طرف حفرة مثل شفا البئر ، معناه : وكنتم على طرف حفرة من النار ليس بينكم وبين الوقوع فيها إلا أن تموتوا على كفركم .
قوله تعالى : { فأنقذكم } . الله .
ثم أمرهم تعالى بما يعينهم على التقوى وهو الاجتماع والاعتصام بدين الله ، وكون دعوى المؤمنين واحدة مؤتلفين غير مختلفين ، فإن في اجتماع المسلمين على دينهم ، وائتلاف قلوبهم يصلح دينهم وتصلح دنياهم وبالاجتماع يتمكنون من كل أمر من الأمور ، ويحصل لهم من المصالح التي تتوقف على الائتلاف ما لا يمكن عدها ، من التعاون على البر والتقوى ، كما أن بالافتراق والتعادي يختل نظامهم وتنقطع روابطهم ويصير كل واحد يعمل ويسعى في شهوة نفسه ، ولو أدى إلى الضرر العام ، ثم ذكرهم تعالى نعمته وأمرهم بذكرها فقال : { واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء } يقتل بعضكم بعضا ، ويأخذ بعضكم مال بعض ، حتى إن القبيلة يعادي بعضهم بعضا ، وأهل البلد الواحد يقع بينهم التعادي والاقتتال ، وكانوا في شر عظيم ، وهذه حالة العرب قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم فلما بعثه الله وآمنوا به واجتمعوا على الإسلام وتآلفت قلوبهم على الإيمان كانوا كالشخص الواحد ، من تآلف قلوبهم وموالاة بعضهم لبعض ، ولهذا قال : { فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار } أي : قد استحقيتم النار ولم يبق بينكم وبينها إلا أن تموتوا فتدخلوها { فأنقذكم منها } بما مَنَّ عليكم من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم { كذلك يبين الله لكم آياته } أي : يوضحها ويفسرها ، ويبين لكم الحق من الباطل ، والهدى من الضلال { لعلكم تهتدون } بمعرفة الحق والعمل به ، وفي هذه الآية ما يدل أن الله يحب من عباده أن يذكروا نعمته بقلوبهم وألسنتهم ليزدادوا شكرا له ومحبة ، وليزيدهم من فضله وإحسانه ، وإن من أعظم ما يذكر من نعمه نعمة الهداية إلى الإسلام ، واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم واجتماع كلمة المسلمين وعدم تفرقها .
فأما الركيزة الثانية فهي ركيزة الأخوة . . الأخوة في الله ، على منهج الله ، لتحقيق منهج الله :
( واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ، واذكروا نعمة الله عليكم ، إذ كنتم أعداء ، فألف بين قلوبكم ، فأصبحتم بنعمته إخوانا . وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها . كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون ) . .
فهي أخوة إذن تنبثق من التقوى والإسلام . . من الركيزة الأولى . . أساسها الاعتصام بحبل الله - أي عهده ونهجه ودينه - وليست مجرد تجمع على أي تصور آخر ، ولا على أي هدف آخر ، ولا بواسطة حبل آخر من حبال الجاهلية الكثيرة !
( واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ) . .
هذه الأخوة المعتصمة بحبل الله نعمة يمتن الله بها على الجماعة المسلمة الأولى . وهي نعمة يهبها الله لمن يحبهم من عباده دائما . وهو هنا يذكرهم هذه النعمة . يذكرهم كيف كانوا في الجاهلية " أعداء " . . وما كان أعدى من الأوس والخزرج في المدينة أحد . وهما الحيان العربيان في يثرب . يجاورهما اليهود الذين كانوا يوقدون حول هذه العداوة وينفخون في نارها حتى تأكل روابط الحيين جميعا . ومن ثم تجد يهود مجالها الصالح الذي لا تعمل إلا فيه ، ولا تعيش إلا معه . فألف الله بين قلوب الحيين من العرب بالإسلام . . وما كان إلا الإسلام وحده يجمع هذه القلوب المتنافرة . وما كان إلا حبل الله الذي يعتصم به الجميع فيصبحون بنعمة الله إخوانا .
وما يمكن أن يجمع القلوب إلا أخوة في الله ، تصغر إلى جانبها الأحقاد التاريخية ، والثارات القبلية ، والأطماع الشخصية والرايات العنصرية . ويتجمع الصف تحت لواء الله الكبير المتعال . .
( واذكروا نعمة الله عليكم ، إذ كنتم أعداء ، فألف بين قلوبكم ، فأصبحتم بنعمته إخوانا )
ويذكرهم كذلك نعمته عليهم في إنقاذهم من النار التي كانوا على وشك أن يقعوا فيها ، إنقاذهم من النار بهدايتهم إلى الاعتصام بحبل الله - الركيزة الأولى - وبالتأليف بين قلوبهم ، فأصبحوا بنعمة الله إخوانا - الركيزة الثانية - :
( وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها ) .
والنص القرآني يعمد إلى مكمن المشاعر والروابط : " القلب " . . فلا يقول : فألف بينكم . إنما ينفذ إلى المكمن العميق : ( فألف بين قلوبكم ) فيصور القلوب حزمة مؤلفة متآلفة بيد الله وعلى عهده وميثاقه . كذلك يرسم النص صورة لما كانوا فيه . بل مشهدا حيا متحركا تتحرك معه القلوب : ( وكنتم على شفا حفرة من النار ) . . وبينما حركة السقوط في حفرة النار متوقعة ، إذا بالقلوب ترى يد الله ، وهي تدرك وتنقذ ! وحبل الله وهو يمتد ويعصم . وصورة النجاة والخلاص بعد الخطر والترقب ! وهو مشهد متحرك حي تتبعه القلوب واجفة خافقة ، وتكاد العيون تتملاه من وراء الأجيال !
وقد ذكر محمد بن إسحاق في السيرة وغيره أن هذه الآية نزلت في شأن الأوس والخزرج . وذلك أن رجلا من اليهود مر بملأ من الأوس والخزرج ، فساءه ما هم عليه من الاتفاق والألفة ، فبعث رجلا معه ، وأمره أن يجلس بينهم ، ويذكر لهم ما كان من حروبهم يوم " بعاث " ! وتلك الحروب . ففعل . فلم يزل ذلك دأبه حتى حميت نفوس القوم ، وغضب بعضهم على بعض ، وتثاوروا ، ونادوا بشعارهم . وطلبوا أسلحتهم . وتوعدوا إلى " الحرة " . . فبلغ ذلك النبي [ ص ] فأتاهم ، فجعل يسكنهم ، ويقول : " أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم " وتلا عليهم هذه الآية ، فندموا على ما كان منهم ، واصطلحوا وتعانقوا وألقوا السلاح رضي الله عنهم .
وكذلك بين الله لهم فاهتدوا ، وحق فيهم قول الله سبحانه في التعقيب في الآية :
( كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون ) .
فهذه صورة من جهد يهود لتقطيع حبل الله بين المتحابين فيه ، القائمين على منهجه ، لقيادة البشرية في طريقه . . هذه صورة من ذلك الكيد الذي تكيده يهود دائما للجماعة المسلمة ، كلما تجمعت على منهج الله واعتصمت بحبله . وهذه ثمرة من ثمار طاعة أهل الكتاب . كادت ترد المسلمين الأولين كفارا يضرب بعضهم رقاب بعض . وتقطع بينهم حبل الله المتين ، الذي يتآخون فيه مجتمعين . وهذه صلة هذه الآية بالآيات قبلها في هذا السياق .
على أن مدلول الآية أوسع مدى من هذه الحادثة . فهي تشي - مع ما قبلها في السياق وما بعدها - بأنه كانت هناك حركة دائبة من اليهود لتمزيق شمل الصف المسلم في المدينة ، وإثارة الفتنة والفرقة بكل الوسائل . والتحذيرات القرآنية المتوالية من إطاعة أهل الكتاب ، ومن الاستماع إلى كيدهم ودسهم ، ومن التفرق كما تفرقوا . . هذه التحذيرات تشي بشدة ما كانت تلقاه الجماعة المسلمة من كيد اليهود في المدينة ، ومن بذرهم لبذور الشقاق والشك والبلبلة باستمرار . . وهو دأب يهود في كل زمان . وهو عملها اليوم وغدا في الصف المسلم ، في كل مكان !
وقوله : { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا } قيل { بِحَبْلِ اللَّهِ } أي : بعهد الله ، كما قال في الآية بعدها : { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ } [ آل عمران : 112 ] أي بعهد وذمة{[5440]} وقيل : { بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ } يعني : القرآن ، كما في حديث الحارث الأعور ، عن علِيّ مرفوعا في صفة القرآن : " هُوَ حَبْلُ اللهِ الْمتِينُ ، وَصِرَاطُهُ الْمُسْتَقِيمُ " .
وقد وَرَدَ في ذلك حديث خاص بهذا المعنى ، فقال الإمام الحافظ أبو جعفر الطبري : حدثنا سعيد بن يحيى الأموي ، حدثنا أسباط بن {[5441]}محمد ، عن عبد الملك بن أبي سليمان العَرْزَمي ، عن عطية عن [ أبي ]{[5442]} سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كِتَابُ اللهِ ، هو حَبْلُ اللهِ الْمَمْدُودُ مِنَ السَّمَاءِ إلَى الأرْضِ " {[5443]} .
وروى ابن مَرْدُويَه من طريق إبراهيم بن مسلم الهَجَريّ ، عن أبي الأحْوَص ، عن عبد الله رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ هو حَبْلُ اللهِ الْمتِينُ ، وهو النور المبين وهُوَ الشِّفَاءُ النَّافِعُ ، عِصْمةٌ لِمَنْ تَمَسَّكَ بِهِ ، ونَجَاةٌ لِمَنِ اتَّبَعَهُ " {[5444]} .
وُروي من حديث حذيفة وزيد بن أرقم نحو ذلك . [ وقال وَكِيع : حدثنا الأعمش عن أبي وائل قال : قال عبد الله : إن هذا الصراط محتضر تحضره الشياطين ، يا عبد الله ، بهذا الطريق هلم إلى الطريق ، فاعتصموا بحبل الله فإن حبل الله القرآن ]{[5445]} .
وقوله : { وَلا تَفَرَّقُوا } أمَرَهُم بالجماعة ونهاهم عن التفرقة{[5446]} وقد وردت الأحاديثُ المتعددة بالنهي عن التفرق والأمر بالاجتماع والائتلاف{[5447]} كما في صحيح مسلم من حديث سُهَيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إنَّ اللهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلاثًا ، وَيَسْخَطُ لَكُمْ ثَلاثًا ، يَرْضى لَكُمْ : أنْ تَعْبدُوهُ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، وأنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا ، وأنْ تُنَاصِحُوا مَنْ وَلاهُ اللهُ أمْرَكُمْ ؛ وَيَسْخَطُ لَكُمْ ثَلاثًا : قيلَ وَقَالَ ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ ، وإِضَاعَةَ الْمَالِ " {[5448]} .
وقد ضُمِنتْ لهم العِصْمةُ ، عند اتفاقهم ، من الخطأ ، كما وردت بذلك الأحاديث المتعددة أيضًا ، وخِيفَ عليهم الافتراق ، والاختلاف ، وقد وقع ذلك في هذه الأمة فافترقوا على ثلاث وسبعين فرقة ، منها فرقة{[5449]} ناجية إلى الجنة ومُسَلمة من عذاب النار ، وهم الذين على ما كان عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه .
وقوله : { وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [ وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا ] {[5450]} } إلى آخر الآية ، وهذا السياق في شأن الأوْس والخَزْرَج ، فإنه كانت{[5451]} بينهم حُروبٌ كثيرة في الجاهلية ، وعداوة شديدة وضغائن ، وإحَنٌ وذُحُول{[5452]} طال بسببها قتالهم والوقائع بينهم ، فلما جاء الله بالإسلام فدخل فيه من دخل منهم ، صاروا إخوانا متحابين بجلال الله ، متواصلين في ذات الله ، متعاونين على البر والتقوى ، قال الله تعالى : { هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ [ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ]{[5453]} } [ الأنفال : 62 ] وكانوا على شفا حُفْرة من النار بسبب كفرهم ، فأبعدهم{[5454]} الله منها : أنْ هَدَاهُم للإيمان . وقد امتن عليهم بذلك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يوم قَسَم غنائم حُنَيْنٍ ، فَعتَبَ من عتب{[5455]} منهم لمّا فَضَّل عليهم في القِسْمَة بما أراه الله ، فخطبهم فقال : " يَا مَعْشَرَ الأنْصَارِ ، ألَمْ أجدْكُمْ ضُلالا فَهَدَاكُمُ اللهُ بِي ، وَكُنْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ فَألَّفَكُمُ اللهُ بِي ، وَعَالَةً فأغْنَاكُمْ اللهُ بِي ؟ " كلما قال شيئا قالوا : الله ورسوله أمنّ .
وقد ذكر محمد بن إسحاق بن يَسار وغيره : أن هذه الآية نزلت في شأن الأوس والخزرج ، وذلك أن رجلا من اليهود مَرَّ بملأ من الأوس والخزرج ، فساءه ما هُمْ عليه من الاتفاق والألْفَة ، فبعث رجلا معه وأمره أن يجلس بينهم ويذكرهم{[5456]} ما كان من حروبهم يوم بُعَاث وتلك الحروب ، ففعل ، فلم يزل ذلك دأبُه حتى حميت نفوس القوم وغضب بعضهم على بعض ، وتثاوروا ، ونادوا بشعارهم وطلبوا أسلحتهم ، وتواعدوا إلى الحرة ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأتاهم فجعل يُسكِّنهم ويقول : " أبِدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ وأَنَا بَيْنَ أظْهُرِكُمْ ؟ " وتلا عليهم هذه الآية ، فندموا على ما كان منهم ، واصطلحوا وتعانقوا ، وألقوا السلاح ، رضي الله عنهم {[5457]} وذكر عِكْرِمة أن ذلك نزل فيهم حين تثاوروا في قضية الإفْك . والله أعلم .
{ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مّنَ النّارِ فَأَنقَذَكُمْ مّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلّكُمْ تَهْتَدُونَ }
يعني بذلك جلّ ثناؤه : وتعلقوا بأسباب الله جميعا . يريد بذلك تعالى ذكره : وتمسكوا بدين الله الذي أمركم به ، وعهده الذي عهده إليكم في كتابه إليكم من الألفة والاجتماع على كلمة الحقّ والتسليم لأمر الله . وقد دللنا فيما مضى قبل على معنى الاعتصام . وأما الحبل ، فإنه السبب الذي يوصل به إلى البغية والحاجة ، ولذلك سمي الأمان حبلاً ، لأنه سبب يوصل به إلى زوال الخوف والنجاة من الجزع والذعر ، ومنه قول أعشى بني ثعلبة :
وإذَا تُجَوّزُها حِبالُ قَبِيلةَ *** أخذَتَ مِنَ الأُخْرَى إليكَ حِبالَها
ومنه قول الله عزّ وجلّ : { إلاّ بِحَبْلٍ مِنَ اللّهِ وحَبْلٍ مِنَ النّاسِ } .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا العوّام ، عن الشعبي ، عن عبد الله بن مسعود أنه قال في قوله : { واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعا } قال : الجماعة .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : حدثنا هشيم ، عن العوّام ، عن الشعبيّ ، عن عبد الله في قوله : { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعا } قال : حبل الله : الجماعة .
وقال آخرون : عَنَى بذلك القرآن ، والعهد الذي عهد فيه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعا } حبل الله المتين الذي أمر أن يعتصم به : هذا القرآن .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعا } قال : بعهد الله وأمره .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن شقيق ، عن عبد الله ، قال : إن الصراط محتضر تحضره الشياطين ، ينادون : يا عبد الله هلمّ هذا الطريق ! ليصدّوا عن سبيل الله . فاعتصموا بحبل الله ، فإن حبل الله هو كتاب الله .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، عن أسباط ، عن السديّ : { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعا } أما حبل الله : فكتاب الله .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { بِحَبْلِ الله } : بعهد الله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء : { بِحَبْلِ الله } قال : العهد .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن الأعمش ، عن أبي وائل ، عن عبد الله : { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعا } قال : حبل الله : القرآن .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعا } قال : القرآن .
حدثنا سعيد بن يحيى ، قال : حدثنا أسباط بن محمد ، عن عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كِتاب اللّهِ ، هُوَ حَبْلُ الله المَمْدُودُ مِنَ السّماءِ إلى الأرْضِ » .
وقال آخرون : بل ذلك هو إخلاص التوحيد لله . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، عن أبي العالية في قوله : { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعا } يقول : اعتصموا بالإخلاص لله وحده .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعا } قال : الحبل : الإسلام . وقرأ { وَلا تَفَرّقُوا } .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا تَفَرّقُوا } .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : { وَلا تَفَرّقُوا } : ولا تتفرّقوا عن دين الله وعهده الذي عهد إليكم في كتابه من الائتلاف والاجتماع على طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم والانتهاء إلى أمره . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَلا تَفَرّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ } أن الله عزّ وجلّ قد كره لكم الفرقة وقدّم إليكم فيها ، وحذّركموها ، ونهاكم عنها ، ورضي لكم السمع والطاعة والألفة والجماعة ، فارضوا لأنفسكم ما رضي الله لكم إن استطعتم ، ولا قوّة إلا بالله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، عن أبي العالية : { وَلا تَفَرّقُوا } : لا تعادوا عليه ، يقول : على الإخلاص لله ، وكونوا عليه إخوانا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، أن الأوزاعي حدثه ، أن يزيد الرقاشي حدثه ، أنه سمع أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّ بَنِي إسْرائِيلَ افْتَرَقَتْ على إحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً ، وَإنّ أُمّتِي سَتَفْتَرِقُ على اثْنَيْنِ وَسبعينَ فِرْقَةً كلّهمْ فِي النّارِ إلاّ وَاحِدَةً » . قال : فقيل يا رسول الله ، وما هذه الواحدة ؟ قال : فقبض يده وقال : «الجَمَاعَة » { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعا وَلا تَفَرّقُوا } .
حدثني عبد الكريم بن أبي عمير ، قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، قال : سمعت الأوزاعي يحدّث عن يزيد الرقاشي ، عن أنس بن مالك ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، نحوه .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا المحاربي ، عن ابن أبي خالد ، عن الشعبي ، عن ثابت بن قطنة المري ، عن عبد الله أنه قال : يا أيها الناس عليكم بالطاعة والجماعة فإنهما حبل الله الذي أمر به ، وإنّ ما تكرهون في الجماعة والطاعة هو خير مما تستحبون في الفرقة .
حدثنا عبد الحميد بن بيان اليشكري ، قال : أخبرنا محمد بن يزيد ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي ، عن ثابت بن قطنة ، قال : سمعت ابن مسعود وهو يخطب ، وهو يقول : يا أيها الناس ، ثم ذكر نحوه .
حدثنا إسماعيل بن حفص الاَملي ، قال : حدثنا عبد الله بن نمير أبو هشام ، قال : حدثنا مجالد بن سعيد ، عن عامر ، عن ثابت بن قطنة المري ، قال : قال عبد الله : عليكم بالطاعة والجماعة ، فإنها حبل الله الذي أمر به ثم ذكر نحوه .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاذْكرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنْتُمْ أعْدَاءً فَألّفَ بَيْنَ قُلوبِكُم فأصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إخْوَانا } .
يعني بقوله جلّ ثناؤه : { وَاذْكرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ } : واذكروا ما أنعم الله به عليكم من الألفة والاجتماع على الإسلام .
واختلف أهل العربية في قوله : { إذْ كُنْتُمْ أعْدَاءً فَألّفَ بَيْنَ قُلوبِكُم } فقال بعض نحويي البصرة في ذلك : انقطع الكلام عند قوله : { وَاذْكرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ } ، ثم فسر بقوله : { فَألّفَ بَيْنَ قُلوبِكُم } وأخبر بالذي كانوا فيه قبل التأليف ، كما تقول : أمْسَكَ الحائط أن يميل .
وقال بعض نحويي الكوفة : قوله { إذْ كُنْتُمْ أعْدَاءً فَألّفَ بَيْنَ قُلوبِكُم } تابع قوله : { وَاذْكرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ } غير منقطعة منها .
والصواب من القول في ذلك عندي أن قوله : { إذْ كُنْتُمْ أعْدَاءً فَألّفَ بَيْنَ قُلوبِكُم } متصل بقوله : { وَاذْكرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ } غير منقطع عنه .
وتأويل ذلك : واذكروا أيها المؤمنون نعمة الله عليكم التي أنعم بها عليكم حين كنتم أعداء : أي بشرككم ، يقتل بعضكم بعضا ، عصبية في غير طاعة الله ولا طاعة رسوله ، فألف الله بالإسلام بين قلوبكم ، فجعل بعضكم لبعض إخوانا بعد إذ كنتم أعداء تتواصلون بألفة الإسلام واجتماع كلمتكم عليه . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَاذْكرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنْتُمْ أعْدَاءً فَألّفَ بَيْنَ قُلوبِكُمْ } كنتم تذابحون فيها ، يأكل شديدكم ضعيفكم حتى جاء الله بالإسلام ، فآخى به بينكم ، وألف به بينكم . أما والله الذي لا إله إلا هو ، إن الألفة لرحمة ، وإن الفرقة لعذاب !
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : { وَاذْكرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنْتُمْ أعْدَاءً } : يقتل بعضكم بعضا ، ويأكل شديدكم ضعيفكم ، حتى جاء الله بالإسلام ، فألّف به بينكم ، وجمع جمعكم عليه ، وجعلكم عليه إخوانا .
فالنعمة التي أنعم الله على الأنصار التي أمرهم تعالى ذكره في هذه الاَية أن يذكروها هي ألفة الإسلام واجتماع كلمتهم عليها ، والعداوة التي كانت بينهم ، التي قال الله عزّ وجلّ : { إذْ كُنْتُمْ أعْدَاءً } فإنها عداوة الحروب التي كانت بين الحيين من الأوس والخزرج في الجاهلية قبل الإسلام ، يزعم العلماء بأيام العرب ، أنها تطاولت بينهم عشرين ومائة سنة . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : قال ابن إسحاق : كانت الحرب بين الأوس والخزرج عشرين ومائة سنة ، حتى قام الإسلام وهم على ذلك ، فكانت حربهم بينهم وهم أخوان لأب وأم ، فلم يسمع بقوم كان بينهم من العدواة والحرب ما كان بينهم . ثم إن الله عزّ وجلّ أطفأ ذلك بالإسلام ، وألف بينهم برسوله محمد صلى الله عليه وسلم .
فذكّرهم جلّ ثناؤه إذ وعظهم عظيم ما كانوا فيه في جاهليتهم من البلاء والشقاء بمعاداة بعضهم بعضا وقتل بعضهم بعضا ، وخوّف بعضهم من بعض ، وما صاروا إليه بالإسلام واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم والإيمان به ، وبما جاء به من الائتلاف والاجتماع ، وأمن بعضهم من بعض ، ومصير بعضهم لبعض إخوانا . وكان سببُ ذلك ما :
حدثنا به ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني ابن إسحاق ، قال : حدثنا عاصم بن عمر بن قتادة المدني ، عن أشياخ من قومه ، قالوا : قدم سويد بن صامت أخو بني عمرو بن عوف مكة حاجا أو معتمرا . قال : وكان سويد إنما يسميه قومه فيهم الكامل لجلده وشعره ونسبه وشرفه . قال : فتصدّى له رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمع به ، فدعاه إلى الله عزّ وجلّ وإلى الإسلام ، قال : فقال له سويد : فلعلّ الذي معك مثل الذي معي ! قال : فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «وَما الّذِي مَعَكَ ؟ » قال مجلة لقمان يعني حكمة لقمان فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اعْرِضْها عَليّ ! » فعرضها عليه ، فقال : «إنّ هَذَا الكَلامَ حَسَنٌ ، مَعِي أفْضَلُ مِنْ هَذَا ، قُرآنٌ أنْزَلَهُ اللّهُ عَلّي هُدًى وَنُورٌ » . قال : فتلا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن ودعاه إلى الإسلام ، فلم يبعد منه ، وقال : إن هذا القول حسن ثم انصرف عنه ، وقدم المدينة ، فلم يلبث أن قتلته الخزرج ، فإن كان قومه ليقولون : قد قتل وهو مسلم ، وكان قتله قبل يوم بُعاث .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، قال : ثني الحسين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ أحد بني عبد الأشهل : أن محمود بن أسد أحد بني عبد الأشهل ، قال : لما قدم أبو الجيش أنس بن رافع مكة ، ومعه فتية من بني عبد الأشهل فيهم إياس بن معاذ ، يلتمسون الحلف من قريش على قوم من الخزرج ، سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتاهم فجلس إليهم ، فقال : «هَلْ لَكُمْ إلى خَيْرٍ ممّا جِئْتُمْ لَهُ ؟ » قالُوا : وَما ذَاكَ ؟ قال : «أنا رَسُولُ اللّهِ بَعَثَنِي إلى العِبادِ أدْعُوهُمْ إلى اللّهِ أنْ يَعْبُدُوا اللّهَ وَلا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا ، وأَنْزَلَ عَلّي الكِتابَ » . ثم ذكر لهم الإسلام ، وتلا عليهم القرآن ، فقال إياس بن معاذ ، وكان غلاما حدثا : أي قوم ، هذا والله خير مما جئتم له ! قال : فأخذ أبو الجيش أنس بن رافع حفنة من البطحاء فضرب بها وجه إياس بن معاذ ، وقال : دعنا منك ، فلعمري لقد جئنا لغير هذا ! قال : فصمت إياس بن معاذ ، وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم ، وانصرفوا إلى المدينة ، وكانت وقعة بُعاث بين الأوس والخزرج . قال : ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك قال : فلما أراد الله إظهار دينه ، وإعزاز نبيه صلى الله عليه وسلم ، وإنجاز موعده له ، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم الموسم الذي لقي فيه النفر من الأنصار يعرض نفسه على قبائل العرب كما كان يصنع في كل موسم . فبينا هو عند العقبة ، إذ لقي رهطا من الخزرج أراد الله لهم خيرا . قال ابن حميد : قال سلمة : قال محمد بن إسحاق : فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة ، عن أشياخ من قومه ، قالوا : لما لقيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم : «مَنْ أنْتُمْ ؟ » قالوا : نفر من الخزرج ، قال : «أمِنْ مَوَالىَ يَهُودَ ؟ » قالوا : نعم ، قال : «أفَلا تَجْلِسُونَ حتى أُكَلّمَكُمْ ؟ » قالوا : بلى . قال : فجلسوا معه ، فدعاهم إلى الله وعرض عليهم الإسلام ، وتلا عليهم القرآن . قال : وكان مما صنع الله لهم به في الإسلام أن يهود كانوا معهم ببلادهم ، وكانوا أهل كتاب وعلم ، وكانوا أهل شرك ، أصحاب أوثان ، وكانوا قد غزوهم ببلادهم ، فكانوا إذا كان بينهم شيء ، قالوا لهم : إن نبيا الاَن مبعوث قد أظلّ زمانه ، نتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم . فلما كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر ، ودعاهم إلى الله عزّ وجلّ ، قال بعضهم لبعض : يا قوم تعلموا والله إنه للنبيّ الذي توعدكم به يهود ، ولا يسبقُنكم إليه ! فأجابوه فيما دعاهم إليه بأن صدقوه ، وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام ، وقالوا له : إنا قد تركنا قومنا ، ولا قوم بينهم من العداوة والشرّ ما بينهم ، وعسى أن يجمعهم الله بك ، وسنقدم عليهم ، فندعوهم إلى أمرك ، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين ، فإن يجمعهم الله عليه ، فلا رجل أعزّ منك ! ثم انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، راجعين إلى بلادهم ، قد آمنوا وصدّقوا ، وهم فيما ذكر لي ستة نفر . قال : فلما قدموا المدينة على قومهم ، ذكروا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودعوهم إلى الإسلام ، حتى فشا فيهم ، فلم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان العام المقبل ، وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلاً ، فلقوه بالعقبة ، وهي العقبة الأولى ، فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء ، وذلك قبل أن تفترض عليهم الحرب .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن عكرمة : أنه لقي النبيّ صلى الله عليه وسلم ستة نفر من الأنصار ، فآمنوا به وصدّقوه ، فأراد أن يذهب معهم ، فقالوا : يا رسول الله ، إن بين قومنا حربا ، وإنا نخاف إن جئت على حالك هذه أن لا يتهيأ الذي تريد . فوعدوه العام المقبل ، وقالوا : يا رسول الله نذهب ، فلعلّ الله أن يصلح تلك الحرب ! قال : فذهبوا ففعلوا ، فأصلح الله عزّ وجلّ تلك الحرب ، وكانوا يرون أنها لا تصلح¹ وهو يوم بُعاث فلقوه من العام المقبل سبعين رجلاً قد آمنوا ، فأخذ عليهم النقباء اثني عشر نقيبا ، فذلك حين يقول : { وَاذْكرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنْتُمْ أعْدَاءً فَألّفَ بَيْنَ قُلوبِكُم } .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : أما : { إذْ كُنْتُمْ أعْدَاءً } ففي حرب { فَألّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ } بالإسلام .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن أيوب ، عن عكرمة ، بنحوه ، وزاد فيه : فلما كان من أمر عائشة ما كان ، فتثاور الحيان ، فقال بعضهم لبعض : موعدكم الحرة ! فخرجوا إليها ، فنزلت هذه الاَية : { وَاذْكرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنْتُمْ أعْدَاءً فَألّفَ بَيْنَ قُلوبِكُم فأصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إخْوَانا } . . . الاَية ، فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يزل يتلوها عليهم حتى اعتنق بعضهم بعضا ، وحتى إن لهم لخنينا ، يعني البكاء .
وسمير الذي زعم السديّ أن قوله { إذْ كُنْتُمْ أعْدَاءً } عنى به حربه ، هو سمير بن زيد بن مالك أحد بني عمرو بن عوف الذي ذكره مالك بن العجلان في قوله :
إنّ سُمَيرا أرَى عَشِيرَتَهُ *** قَدْ حَدِبُوا دُونَهُ وَقَدْ أنِفُوا
إنْ يَكُنِ الظّنّ صَادِقي ببني النّ *** جّارِ لم يَطْعَمُوا الذي عُلِفُوا
وقد ذكر علماء الأنصار أن مبدأ العداوة التي هيجت الحروب التي كانت بين قبيلتيها الأوس والخزرج وأولها كان بسبب قتل مولى لمالك بن العجلان الخزرجي ، يقال له : الحر بن سمير ، من مزينة ، وكان حليفا لمالك بن العجلان ، ثم اتصلت تلك العداوة بينهم إلى أن أطفأها الله بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، فذلك معنى قول السديّ : حرب ابن سمير .
وأما قوله : { فَأصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إخْوَانا } فإنه يعني : فأصبحتم بتأليف الله عزّ وجلّ بينكم بالإسلام وكلمة الحقّ والتعاون على نصرة أهل الإيمان ، والتآزر على من خالفكم من أهل الكفر ، إخوانا متصادقين لا ضغائن بينكم ، ولا تحاسد . كما :
حدثني بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { فأصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إخْوَانا } ، وذكر لنا أن رجلاً قال لابن مسعود : كيف أصبحتم ؟ قال : أصبحنا بنعمة الله إخوانا .
القول في تأويل قوله تعالى : { وكُنْتُمْ على شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ فَأنْقَذَكُمْ مِنْها } .
يعني بقوله جلّ ثناؤه : { وكُنْتُمْ على شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ } : وكنتم يا معشر المؤمنين من الأوس والخزرج على حرف حفرة من النار ، وإنما ذلك مثل لكفرهم الذي كانوا عليه قبل أن يهديهم الله للإسلام ، يقول تعالى ذكره : وكنتم على طرف جهنم بكفركم الذي كنتم عليه ، قبل أن ينعم الله عليكم بالإسلام ، فتصيروا بائتلافكم عليه إخوانا ، ليس بينكم وبين الوقوع فيها إلا أن تموتوا على ذلك من كفركم ، فتكونوا من الخالدين فيها ، فانقذكم الله منها بالإيمان الذي هداكم له . وشفا الحفرة : طرفها وحرفها ، مثل شفا الركية والبئر ، ومنه قول الراجز :
نحْنُ حَفَرْنا للحَجيج سَجْلَهْ *** نابِتَةً فوقَ شَفَاهَا بَقْلَهْ
يعني فوق حرفها ، يقال : هذا شفا هذه الركية مقصور ، وهما شفواها . وقال : { فَأنْقَذَكُمْ مِنْها } : يعني فأنقذكم من الحفرة ، فردّ الخبر إلى الحفرة ، وقد ابتدأ الخبر عن الشفا ، لأن الشفا من الحفرة ، فجاز ذلك ، إذ كان الخبر عن الشفا على السبيل التي ذكرها في هذه الاَية خبرا عن الحفرة ، كما قال جرير بن عطية :
رأتْ مَرّ السّنِينَ أخَذْنَ مِنّي *** كما أخَذَ السّرَارُ مِنَ الهِلالِ
فذكر مرّ السنين ، ثم رجع إلى الخبر عن السنين . وكما قال العجاج :
طُولُ اللّيالي أسْرَعَتْ فِي نَقْضِي *** طَوَيْنَ طُولي وَطَوَيْنَ عَرْضِي
وقد بينت العلة التي من أجلها قيل ذلك كذلك فيما مضى قبل .
وبنحو الذي قلنا في ذلك من التأويل ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وكُنْتُمْ على شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ فَأنْقَذَكُمْ مِنْها كَذَلِكَ يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمْ آياتِهِ } كان هذا الحيّ من العرب أذلّ الناس ذلاً ، وأشقاه عيشا ، وأبينه ضلالة ، وأعراه جلودا ، وأجوعه بطونا ، مكعومين على رأس حجر بين الأسدين : فارس ، والروم ، لا والله ما في بلادهم يومئذ من شيء يحسدون عليه ، من عاش منهم عاش شقيا ومن مات رُدّي في النار ، يؤكلون ولا يأكلون ، والله ما نعلم قبيلاً يومئذٍ من حاضر الأرض ، كانوا فيها أصغر حظا ، وأدقّ فيها شأنا منهم ، حتى جاء الله عزّ وجلّ بالإسلام ، فورّثكم به الكتاب ، وأحلّ لكم به دار الجهاد ، ووضع لكم به من الرزق ، وجعلكم به ملوكا على رقاب الناس ، وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم ، فاشكروا نعمه ، فإن ربكم منعم يحبّ الشاكرين ، وإن أهل الشكر في مزيد الله ، فتعالى ربنا وتبارك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، قوله : { وكُنْتُمْ على شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ } يقول : كنتم على الكفر بالله ، { فَأنْقَذَكُمْ مِنْها } : من ذلك ، وهداكم إلى الإسلام .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { وكُنْتُمْ على شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ فَأنْقَذَكُمْ مِنْها } بمحمد صلى الله عليه وسلم يقول : كنتم على طرف النار من مات منكم أُوبق في النار ، فبعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم ، فاستنقذكم به من تلك الحفرة .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا حسن بن حيّ : { وكُنْتُمْ على شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ فَأنْقَذَكُمْ مِنْها } قال : عصبية .
القول في تأويل قوله تعالى : { كَذَلِكَ يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلّكُمْ تَهْتَدُونَ } .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : كذلك كما بين لكم ربكم في هذه الاَيات أيها المؤمنون من الأوس والخزرج ، من غِلّ اليهود ، الذي يضمرونه لكم ، وغشهم لكم ، وأمره إياكم بما أمركم به فيها ، ونهيه لكم عما نهاكم عنه ، والحال التي كنتم عليها في جاهليتكم ، والتي صرتم إليها في إسلامكم ، يعرّفكم في كل ذلك مواقع نعمه قبلكم ، وصنائعه لديكم ، فكذلك يبين سائر حججه لكم في تنزيله ، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم . { لَعَلّكم تهتدون } يعني : لتهتدوا إلى سبيل الرشاد ، وتسلكوها فلا تضلوا عنها .
وقوله تعالى : { واعتصموا بحبل الله جميعاً } معناه تمنعوا وتحصنوا به ، فقد يكون الاعتصام بالتمسك باليد ، وبارتقاء القنن ، وبغير ذلك ما هو منعة ، ومنه الأعصم في الجبل ، ومنه عصمة النكاح ، و «الحبل » في هذه الآية مستعار لما كان السبب الذي يعصم به ، وصلة ممتدة بين العاصم والمعصوم ، ونسبة بينهما ، شبه ذلك بالحبل الذي شأنه أن يصل شيئاً بشيء ، وتسمى العهود والمواثيق حبالاً ، ومنه قول الأعشى{[3382]} :
وإذَا تَجَوَّزَها حِبالُ قَبِيلَةٍ . . . أَخَذَتْ مِنَ الأَدْنَى إِلَيْكَ حِبَالهَا
إني بحبلِكِ واصلٌ حبلي{[3383]} *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ومنه قول الله تعالى : { إلا بحبل من الله وحبل من الناس }{[3384]} واختلفت عبارة المفسرين في المراد في هذه الآية { بحبل الله } ، فقال ابن مسعود : «حبل الله » الجماعة ، وروى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «إن بني إسرائيل افترقوا على إحدى وسبيعن فرقة ، وإن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة قال فقيل يا رسول الله : وما هذه الواحدة ؟ قال فقبض يده وقال : الجماعة وقرأ ، { واعتصموا بحبل الله جميعاً }{[3385]} » ، وقال ابن مسعود في خطبة : عليكم جميعاً بالطاعة والجماعة فإنها حبل الله الذي أمر به ، وقال قتادة رحمه الله : «حبل الله » الذي أمر بالاعتصام به هوا لقرآن ، وقال السدي : «حبل الله » كتاب الله ، وقاله أيضاً ابن مسعود والضحاك ، وروى أبو سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض »{[3386]} ، وقال أبو العالية : «حبل الله » في هذه الآية هو الإخلاص في التوحيد وقال ابن زيد : «حبل الله » هو الإسلام .
قال القاضي أبو محمد : وقيل غير هذا مما هو كله قريب بعضه من بعض ، وقوله تعالى : { جميعاً } حال من الضمير في قوله ، { اعتصموا } ، فالمعنى : كونوا في اعتصامكم مجتمعين : { ولا تفرقوا } يريد التفرق الذي لا يتأتى معه الائتلاف على الجهاد وحماية الدين وكلمة الله تعالى ، وهذا هو الافتراق بالفتن والافتراق في العقائد ، وأما الافتراق في مسائل الفروع والفقه فليس يدخل في هذه الآية ، بل ذلك ، هو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : «خلاف أمتي رحمة »{[3387]} ، وقد اختلف الصحابة في الفروع أشد اختلاف ، وهم يد واحدة على كل كافر ، وأما الفتنة على علي بن أبي طالب رضي الله عنه فمن التفرق المنهي عنه ، أما أن التأويل هو الذي أدخل في ذلك أكثر من دخله من الصحابة رضي الله عن جميعهم .
{ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءَ فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }
هذه الآية تدل على أن الخطاب بهذه الآية إنما هو للأوس والخزرج ، وذلك أن العرب وإن كان هذا اللفظ يصلح في جميعها فإنها لم تكن في وقت نزول هذه الآية اجتمعت على الإسلام ولا تألفت قلوبها ، وإنما كانت في قصة شاس بن قيس في صدر الهجرة ، وحينئذ نزلت هذه الآية ، فهي في الأوس والخزرج ، كانت بينهم عداوة وحروب ، منها يوم بعاث وغيره ، وكانت تلك الحروب والعداوة قد دامت بين الحيين مائة وعشرين سنة ، حتى رفعها الله بالإسلام ، فجاء النفر الستة من الأنصار إلى مكة حجاجاً ، فعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه عليهم ، وتلا عليهم القرآن ، كما كان يصنع مع قبائل العرب ، فآمنوا به وأراد الخروج معهم ، فقالوا يا رسول الله : إن قدمت بلادنا على ما بيننا من العداوة والحرب ، خفنا أن لا يتم ما نريده منك ، ولكن نمضي نحن ونشيع أمرك ، ونداخل الناس ، وموعدنا وإياك العام القابل ، فمضوا وفعلوا ، وجاءت الأنصار في العام القابل ، فكانت العقبة الثانية وكانوا اثني عشر رجلاً ، فيهم خمسة من الستة الأولين ، ثم جاؤوا من العام الثالث ، فكانت بيعة العقبة ، الكبرى ، حضرها سبعون وفيهم اثنا عشر نقيباً ، ووصف هذه القصة مستوعب في سيرة ابن هشام{[3388]} ، ويسر الله تعالى الأنصار للإسلام بوجهين ، أحدهما أن بني إسرائيل كانوا مجاورين لهم وكانوا يقولون لمن يتوعدونه من العرب ، يبعث لنا نبي الآن نقتلكم معه قتل عاد وإرم ، فلما رأى النفر من الأنصار محمداً صلى الله عليه وسلم ، قال بعضهم لبعض : هذا والله النبي الذي تذكره بنو إسرائيل فلا تسبقن إليه ، والوجه الآخر ، الحرب التي كانت ضربتهم وأفنت سراتهم ، فرجوا أن يجمع الله به كلمتهم كالذي كان ، فعدد الله تعالى عليهم نعمته في تأليفهم بعد العداوة ، وذكرهم بها ، وقوله تعالى : { فأصبحتم } عبارة عن الاستمرار وإن كانت اللفظة مخصوصة بوقت ما ، وإنما خصت هذه اللفظة بهذا المعنى من حيث هي مبدأ النهار ، وفيها مبدأ الأعمال ، فالحال التي يحسها المرء من نفسه فيها هي حاله التي يستمر عليها يومه في الأغلب ، ومنه قول الربيع بن ضبع{[3389]} : [ المنسرح ]
أصبحت لا أحمل السلاح ولا . . . أَمْلِكُ رَأْسَ البعيرِ إنْ نَفَرا
و «الإخوان » جمع أخ ، ويجمع إخوة ، وهذان أشهر الجمع فيه ، على ان سيبويه رحمه الله يرى أن إخوة اسم جمع ، وليس ببناء جمع لأن فعلاً لا يجمع على فعلة ، قال بعض الناس : الأخ في الدين يجمع إخواناً ، والأخ في النسب يجمع إخوة : هكذا كثر استعمالهم .
قال القاضي أبو محمد : وفي كتاب الله تعالى : { إنما المؤمنون إخوة }{[3390]} وفيه ، { أو بني إخوانهن }{[3391]} ، فالصحيح أنهما يقالان في النسب ، ويقالان في الدين ، و «الشفا » حرف كل جرم له مهوى ، كالحفرة والبئر والجرف والسقف والجدار ونحوه ، ويضاف في الاستعمال إلى الأعلى ، كقوله { شفا جرف }{[3392]} وإلى الأسفل كقوله { شفا حفرة } ، ويثنى شفوان ، فشبه تعالى كفرهم الذي كانوا عليه وحربهم المدنية من الموت بالشفا ، لأنهم كانوا يسقطون في جهنم دأباً ، فأنقذهم الله بالإسلام ، والضمير في { منها } عائد على النار ، أو على «الحفرة » ، العود على الأقرب أحسن ، وقال بعض الناس حكاه الطبري : إن الضمير عائد على «الشفا » ، وأنث الضمير من حيث كان الشفا مضافاً إلى مؤنث ، فالآية كقول جرير :
رَأَتْ مَرَّ السنينِ أَخَذْنَ مِنّي . . . كَمَا أَخذَ السّرارُ مِنَ الهِلاَلِ{[3393]}
قال القاضي : وليس الأمر كما ذكر ، والآية لا يحتاج فيها إلى هذه الصناعة ، إلا لو لم تجد معاداً للضمير إلا «الشفا » ، وأما ومعنا لفظ مؤنث يعود الضمير عليه ، ويعضده المعنى المتكلم فيه ، فلا يحتاج إلى تلك الصناعة وقوله تعالى : { كذلك يبين لكم آياته } إشارة إلى ما بين في هذه الآيات ، أي فكذلك يبين لكم غيرها ، وقوله ، { لعلكم } ترجٍّ في حق البشر ، أي من تأمل منكم الحال رجا الاهتداء{[3394]} .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{واعتصموا بحبل الله}، يعني بدين الله، {جميعا ولا تفرقوا}، يعني ولا تختلفوا في الدين كما اختلف أهل الكتاب، {واذكروا نعمت الله عليكم} الإسلام، {إذ كنتم أعداء} في الجاهلية يقتل بعضكم بعضا، {فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا}، يعني برحمته إخوانا في الإسل.
{وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها}، يقول للمشركين: الميت منكم في النار، والحي منكم على حرف النار، إن مات دخل النار، {فأنقذكم منها}، يعني من الشرك إلى الإيمان، {كذلك}، يعني: هكذا، {يبين الله لكم آياته}، يعني: علاماته في هذه النعمة، أعداء في الجاهلية، إخوانا في الإسلام، {لعلكم}: لكي {تهتدون}، فتعرفوا علاماته في هذه النعمة...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني بذلك جلّ ثناؤه: وتعلقوا بأسباب الله جميعا، يريد بذلك تعالى ذكره: وتمسكوا بدين الله الذي أمركم به، وعهده الذي عهده إليكم في كتابه إليكم من الألفة والاجتماع على كلمة الحقّ والتسليم لأمر الله. وقد دللنا فيما مضى قبل على معنى الاعتصام. وأما الحبل: فإنه السبب الذي يوصل به إلى البغية والحاجة، ولذلك سمي الأمان حبلاً، لأنه سبب يوصل به إلى زوال الخوف والنجاة من الجزع والذعر... وقال آخرون: عَنَى بذلك القرآن، والعهد الذي عهد فيه... وقال آخرون: بل ذلك هو إخلاص التوحيد لله ...
يعني جلّ ثناؤه بقوله: {وَلا تَفَرّقُوا}: ولا تتفرّقوا عن دين الله وعهده الذي عهد إليكم في كتابه من الائتلاف والاجتماع على طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم والانتهاء إلى أمره...
يعني بقوله جلّ ثناؤه: {وَاذْكرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ}: واذكروا ما أنعم الله به عليكم من الألفة والاجتماع على الإسلام...
واختلف أهل العربية في قوله: {إذْ كُنْتُمْ أعْدَاءً فَألّفَ بَيْنَ قُلوبِكُم} فقال بعض نحويي البصرة في ذلك: انقطع الكلام عند قوله: {وَاذْكرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ}، ثم فسر بقوله: {فَألّفَ بَيْنَ قُلوبِكُم} وأخبر بالذي كانوا فيه قبل التأليف، كما تقول: أمْسَكَ الحائط أن يميل. وقال بعض نحويي الكوفة: قوله {إذْ كُنْتُمْ أعْدَاءً فَألّفَ بَيْنَ قُلوبِكُم} تابع قوله: {وَاذْكرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ} غير منقطعة منها. والصواب من القول في ذلك عندي أن قوله: {إذْ كُنْتُمْ أعْدَاءً فَألّفَ بَيْنَ قُلوبِكُم} متصل بقوله: {وَاذْكرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ} غير منقطع عنه. وتأويل ذلك: واذكروا أيها المؤمنون نعمة الله عليكم التي أنعم بها عليكم حين كنتم أعداء: أي بشرككم، يقتل بعضكم بعضا، عصبية في غير طاعة الله ولا طاعة رسوله، فألف الله بالإسلام بين قلوبكم، فجعل بعضكم لبعض إخوانا بعد إذ كنتم أعداء تتواصلون بألفة الإسلام واجتماع كلمتكم عليه...
قوله: {وَاذْكرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنْتُمْ أعْدَاءً فَألّفَ بَيْنَ قُلوبِكُمْ} كنتم تذابحون فيها، يأكل شديدكم ضعيفكم حتى جاء الله بالإسلام، فآخى به بينكم، وألف به بينكم. أما والله الذي لا إله إلا هو، إن الألفة لرحمة، وإن الفرقة لعذاب!...
فالنعمة التي أنعم الله على الأنصار التي أمرهم تعالى ذكره في هذه الاَية أن يذكروها هي ألفة الإسلام واجتماع كلمتهم عليها، والعداوة التي كانت بينهم، التي قال الله عزّ وجلّ: {إذْ كُنْتُمْ أعْدَاءً} فإنها عداوة الحروب التي كانت بين الحيين من الأوس والخزرج في الجاهلية قبل الإسلام، يزعم العلماء بأيام العرب، أنها تطاولت بينهم عشرين ومائة سنة...
وأما قوله: {فَأصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إخْوَانا} فإنه يعني: فأصبحتم بتأليف الله عزّ وجلّ بينكم بالإسلام وكلمة الحقّ والتعاون على نصرة أهل الإيمان، والتآزر على من خالفكم من أهل الكفر، إخوانا متصادقين لا ضغائن بينكم، ولا تحاسد...
يعني بقوله جلّ ثناؤه: {وكُنْتُمْ على شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ}: وكنتم يا معشر المؤمنين من الأوس والخزرج على حرف حفرة من النار، وإنما ذلك مثل لكفرهم الذي كانوا عليه قبل أن يهديهم الله للإسلام، يقول تعالى ذكره: وكنتم على طرف جهنم بكفركم الذي كنتم عليه، قبل أن ينعم الله عليكم بالإسلام، فتصيروا بائتلافكم عليه إخوانا، ليس بينكم وبين الوقوع فيها إلا أن تموتوا على ذلك من كفركم، فتكونوا من الخالدين فيها، فانقذكم الله منها بالإيمان الذي هداكم له. وشفا الحفرة: طرفها وحرفها، مثل شفا الركية والبئر...
يعني جلّ ثناؤه بقوله:"كذلك" كما بين لكم ربكم في هذه الآيات أيها المؤمنون من الأوس والخزرج، من غِلّ اليهود، الذي يضمرونه لكم، وغشهم لكم، وأمره إياكم بما أمركم به فيها، ونهيه لكم عما نهاكم عنه، والحال التي كنتم عليها في جاهليتكم، والتي صرتم إليها في إسلامكم، يعرّفكم في كل ذلك مواقع نعمه قبلكم، وصنائعه لديكم، فكذلك يبين سائر حججه لكم في تنزيله، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. {لَعَلّكم تهتدون} يعني: لتهتدوا إلى سبيل الرشاد، وتسلكوها فلا تضلوا عنها...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: {واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم} بمحمد صلى الله عليه وسلم وقيل: {فألف بين قلوبكم} بالإسلام، وقيل: بالقرآن، ولم يكن ذلك بالدين نفسه، ولكن بلطف من الله من به على أهل دينه، وأخبر أن التأليف بين قلوبهم نعمة، لأن التفرق يوجب التباغض، والتباغض يوجب التقاتل، وفي ذلك التفاني...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
قوله: (وكنتم على شفا حفرة من النار) معنى الشفا: الحرف... وإنما قال:"فأنقذكم منها" وإن لم يكونوا فيها، لأنهم كانوا بمنزلة من هو فيها من حيث كانوا مستحقين لدخولها. وإنما أنقذهم النبي (صلى الله عليه وآله) بدعائهم إلى الاسلام، ودخولهم فيه، فصاروا بمنزلة الخارج منها.
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
203- {فألف بين قلوبكم} المراد بالألفة: نزع الغوائل من الصدور، وهي الأسباب المثيرة للفتن، المحركة للخصومات. [المستصفى: 2/262]...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
قولهم اعتصمت بحبله: يجوز أن يكون تمثيلاً لاستظهاره به ووثوقه بحمايته، بامتساك المتدلي من مكان مرتفع بحبل وثيق يأمن انقطاعه، وأن يكون الحبل استعارة لعهده والاعتصام لوثوقه بالعهد، أو ترشيحاً لاستعارة الحبل بما يناسبه. والمعنى: واجتمعوا على استعانتكم بالله ووثوقكم به ولا تفرقوا عنه...
{وَلاَ تَفَرَّقُواْ} ولا تتفرقوا عن الحق بوقوع الاختلاف بينكم كما اختلفت اليهود والنصارى، أو كما كنتم متفرقين في الجاهلية متدابرين يعادي بعضكم بعضاً ويحاربه أو ولا تحدثوا ما يكون عنه التفرق ويزول معه الاجتماع والألفة التي أنتم عليها مما يأباه جامعكم والمؤلف بينكم، وهو اتباع الحق والتمسك بالإسلام...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... هذه الآية تدل على أن الخطاب بهذه الآية إنما هو للأوس والخزرج، وذلك أن العرب وإن كان هذا اللفظ يصلح في جميعها فإنها لم تكن في وقت نزول هذه الآية اجتمعت على الإسلام ولا تألفت قلوبها، وإنما كانت في قصة شاس بن قيس في صدر الهجرة، وحينئذ نزلت هذه الآية، فهي في الأوس والخزرج...
وقوله تعالى: {فأصبحتم} عبارة عن الاستمرار وإن كانت اللفظة مخصوصة بوقت ما، وإنما خصت هذه اللفظة بهذا المعنى من حيث هي مبدأ النهار، وفيها مبدأ الأعمال، فالحال التي يحسها المرء من نفسه فيها هي حاله التي يستمر عليها يومه في الأغلب...
وقوله تعالى: {كذلك يبين لكم آياته} إشارة إلى ما بين في هذه الآيات، أي فكذلك يبين لكم غيرها، وقوله، {لعلكم} ترجٍّ في حق البشر، أي من تأمل منكم الحال رجا الاهتداء.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
المسألة الأولى: الْحَبْل: لفظٌ لغوي يَنْطلق على معانٍ كثيرة؛ أعظمها السبَبُ الواصل بين شيئين.
وهو هاهنا مما اختلف العلماءُ فيه؛ فمنهم من قال: هو عَهْد الله، وقيل: كِتابُه، وقيل: دِينُه؛ وقد روَى الأئمة في الصحيح أنَّ رجلاً جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فذكر له حديث رؤيا الظلَّة التي تَنْطُفُ عسلاً وسَمْناً، وفيه قال: «ورأيتُ شيئاً واصلاً من السماء إلى الأرض...» الحديث إلى آخره، وعبَّر الصدِّيق بحضرته عليه السلام، فقال: «وأما السبَبُ الواصل من السماء إلى الأرض فهو الحقُّ الذي أنْتَ عليه، فضرب اللهُ تعالى على يدي ملك الرؤيا مثلاً للحقِّ الذي بُعِثَ به الأنبياء بالْحَبْلِ الواصل بين السماء والأرض، وهذا لأنهما جميعاً ينيران بمشكاةٍ واحدة.
المسألة الثانية: إذا ثبت هذا فالأظهر أنه كتابُ اللهِ، فإنه يتضمَّن عَهْدَه ودينه.
المسألة الثالثة: التفرق الْمَنْهيّ عنه يحتمل ثلاثة أوجه:
الأول: التفرق في العقائد، لقوله تعالى: {شَرَعَ لكم مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى به نُوحاً والذي أوْحَيْنا إليكَ وما وصَّيْنا به إبراهيمَ ومُوسَى وعِيسَى أنْ أقِيمُوا الدِّينَ ولا تَتَفَرَّقُوا فيه} [الشورى:13].
الثاني: قوله عليه السلام: «لا تحاسَدُوا ولا تَدَابَرُوا ولا تَقَاطَعُوا وكونوا عبادَ الله إخواناً»، ويعضده قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إخْوَاناً}.
الثالث: تَرْكُ التخطئة في الفروع والتبرِّي فيها، وليمض كلُّ أحدٍ على اجتهاده؛ فإنَّ الكلَّ بحَبْلِ الله معتصم، وبدليله عامل؛ وقد قال صلى الله عليه وسلم: «لا يصلينَّ أحدٌ منكم العَصْر إلاّ في بني قُرَيظة»؛ فمنهم من حضرَتِ العَصْرُ فأخَّرها حتى بلغ بني قريظة أخْذاً بظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم. ومنهم من قال: لم يُرِدْ هذا منّا، يعني وإنما أراد الاستعجال فلم يعنف النبيُّ عليه السلام أحداً منهم.
والحكمةُ في ذلك أنَّ الاختلافَ والتفرقَ المنهيّ عنه إنما هو المؤدِّي إلى الفتنة والتعصُّب وتشتيت الجماعة؛ فأما الاختلافُ في الفروع فهو مِنْ محاسنِ الشريعة. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فلَهُ أجْران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجْرٌ واحد». ورُوي أنَّ له إنْ أصاب عشرة أُجور.
المسألة الرابعة: قال بعضُ علمائنا قوله: {وَلاَ تَفَرَّقُوا} دليل على أنه لا يصلِّي الْمفْتَرِض خَلْفَ المتنفِّل؛ لأنَّ نيتَهم قد تفرقت، ولو كان هذا متعلقاً لما جازت صلاةُ المتنفِّل خلْفَ المفترض؛ لأنَّ النيةَ أيضاً قد تفرقت؛ وفي الإجماع على جواز ذلك دليلٌ على أنَّ منزعَ الآية ما قدمناه لا ما تعلَّق به هذا العالم.
اعلم أنه تعالى لما أمرهم بالاتقاء عن المحظورات أمرهم بالتمسك بالاعتصام بما هو كالأصل لجميع الخيرات والطاعات، وهو الاعتصام بحبل الله. واعلم أن كل من يمشي على طريق دقيق يخاف أن تزلق رجله، فإذا تمسك بحبل مشدود الطرفين بجانبي ذلك الطريق أمن من الخوف، ولا شك أن طريق الحق طريق دقيق، وقد انزلق رجل الكثير من الخلق عنه، فمن اعتصم بدليل الله وبيناته فإنه يأمن من ذلك الخوف، فكان المراد من الحبل ههنا كل شيء يمكن التوصل به إلى الحق في طريق الدين، وهو أنواع كثيرة، فذكر كل واحد من المفسرين واحدا من تلك الأشياء... والتحقيق ما ذكرنا أنه لما كان النازل في البئر يعتصم بحبل تحرزا من السقوط فيها، وكان كتاب الله وعهده ودينه وطاعته وموافقته لجماعة المؤمنين حرزا لصاحبه من السقوط في قعر جهنم جعل ذلك حبلا لله، وأمروا بالاعتصام به...
ثم قال تعالى: {واذكروا نعمة الله عليكم} واعلم أن نعم الله على الخلق إما دنيوية وإما أخروية وإنه تعالى ذكرهما في هذه الآية، أما النعمة الدنيوية فهي قوله تعالى: {إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا}... فإنهم قبل الإسلام كان يحارب بعضهم بعضا ويبغض بعضهم بعضا، فلما أكرمهم الله تعالى بالإسلام صاروا إخوانا متراحمين متناصحين وصاروا إخوة في الله... واعلم أن كل من كان وجهه إلى الدنيا كان معاديا لأكثر الخلق، ومن كان وجهه إلى خدمة الله تعالى لم يكن معاديا لأحد، والسبب فيه أنه ينظر من الحق إلى الخلق فيرى الكل أسيرا في قبضة القضاء والقدر فلا يعادي أحدا، ولهذا قيل: إن العارف إذا أمر برفق ويكون ناصحا لا يعنف ويعير فهو مستبصر بسر الله في القدر...
قوله {فأصبحتم بنعمته إخوانا} يدل على أن المعاملات الحسنة الجارية بينهم بعد الإسلام إنما حصلت من الله، لأنه تعالى خلق تلك الداعية في قلوبهم وكانت تلك الداعية نعمة من الله مستلزمة لحصول الفعل، وذلك يبطل قول المعتزلة في خلق الأفعال، قال الكعبي: إن ذلك بالهداية والبيان والتحذير والمعرفة والألطاف. قلنا: كل هذا كان حاصلا في زمان حصول المحاربات والمقاتلات، فاختصاص أحد الزمانين بحصول الألفة والمحبة لا بد أن يكون لأمر زائد على ما ذكرتم...
ثم قال تعالى: {وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها}. واعلم أنه تعالى لما شرح النعمة الدنيوية ذكر بعدها النعمة الأخروية، وهي ما ذكره في آخر هذه الآية. وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: المعنى أنكم كنتم مشرفين بكفركم على جهنم، لأن جهنم مشبهة بالحفرة التي فيها النار فجعل استحقاقهم للنار بكفرهم كالإشراف منهم على النار، والمصير منهم إلى حفرتها، فبين تعالى أنه أنقذهم من هذه الحفرة، وقد قربوا من الوقوع فيها...
وفي قوله {فأنقذكم منها} سؤال وهو: أنه تعالى إنما ينقذهم من الموضع الذي كانوا فيه وهم كانوا على شفا حفرة، وشفا الحفرة مذكر فكيف قال منها؟. وأجابوا عنه من وجوه الأول: الضمير عائد إلى الحفرة ولما أنقذهم من الحفرة فقد أنقذهم من شفا الحفرة لأن شفاها منها والثاني: أنها راجعة إلى النار، لأن القصد الإنجاء من النار لا من شفا الحفرة، وهذا قول الزجاج الثالث: أن شفا الحفرة، وشفتها طرفها، فجاز أن يخبر عنه بالتذكير والتأنيث...
المسألة الثالثة: أنهم لو ماتوا على الكفر لوقعوا في النار، فمثلت حياتهم التي يتوقع بعدها الوقوع في النار بالقعود على حرفها، وهذا فيه تنبيه على تحقير مدة الحياة، فإنه ليس بين الحياة وبين الموت المستلزم للوقوع في الحفرة إلا ما بين طرف الشيء، وبين ذلك الشيء، ثم قال: {كذلك يبين الله} الكاف في موضع نصب، أي مثل البيان المذكور يبين الله لكم سائر الآيات لكي تهتدوا بها...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان عزم الإنسان فاتراً وعقله قاصراً، دلهم -بعد أن أوقفتهم التقوى- على الأصل لجميع الخيرات المتكفل بالحفظ من جميع الزلات فقال: {واعتصموا} أي كلفوا أنفسكم الارتباط الشديد والانضباط العظيم {بحبل الله} أي طريق دين الملك الذي لا كفوء له التي نهجها لكم ومهدها، وأصل الحبل السبب الذي يوصل به إلى البغية والحاجة، وكل من يمشي على طريق دقيق يخاف أن تزلق رجله عنه إذا تمسك بحبل مشدود الطرفين بجانبي ذلك الطريق أمن الخوف، ولا يخفى دقة الصراط بما ورد به النقل الصحيح، وهذا الدين مثاله، فصعوبته وشدته على النفوس بما لها من النوازع والحظوظ مثال دقته، فمن قهر نفسه وحفظها على التمسك به حفظ عن السقوط عما هو مثاله. ولما أفهم كل من الضمير والحبل والاسم الجامع إحاطة الأمر بالكل أكده بقوله: {جميعاً} لا تدعوا أحداً منكم يشذ عنها، بل كلما عثرتم على أحد فارقها ولو قيد شبر فردوه إليها ولا تناظروه ولا تهملوا أمره، ولا تغفلوا عنه فيختل النظام، وتتعبوا على الدوام، بل تزالوا كالرابط ربطاً شديداً حزمة نبل بحبل، لا يدع واحدة منها تنفرد عن الأخرى، ثم أكد ذلك بقوله: {ولا تفرقوا} ثم ذكرهم نعمة الاجتماع، لأن ذلك باعث على شكرها، وهو باعث على إدامة الاعتصام والتقوى، وبدأ منها بالدنيوية لأنها أس الأخروية فقال: {واذكروا نعمة الله} الذي له الكمال كله {عليكم} يا من اعتصم بعصام الدين! {إذا كنتم أعداء} متنافرين أشد تنافر {فألف بين قلوبكم} بالجمع على هذا الصراط القويم والمنهج العظيم {فأصبحتم بنعمته إخواناً} قد نزع ما في قلوبكم من الإحن، وأزال تلك الفتن والمحن. ولما ذكر النعمة التي أنقذتهم من هلاك الدنيا ثنى بما تبع ذلك من نعمة الدين التي عصمت من الهلاك الأبدي فقال: {وكنتم على شفا} أي حرف وطرف {حفرة من النار} بما كنتم فيه من الجاهلية {فأنقذكم منها}. ولما تم هذا البيان على هذا الأسلوب الغريب نبه على ذلك بقوله -جواباً لمن يقول: لله در هذا البيان! ما أغربه من بيان!- {كذلك} أي مثل هذا البيان البعيد المنال البديع المثال {يبين الله} المحيط علمه الشاملة قدرته بعظمته {لكم آياته} وعظم الأمر بتخصيصهم به وإضافة الآي إليه. ولما كان السياق لبيان دقائق الكفار في إرادة إضلالهم ختم الآية بقوله: {لعلكم تهتدون} أي ليكون حالكم عند من ينظركم حال من ترجى وتتوقع هدايته، هذا الترجي حالكم فيما بينكم، وأما هو سبحانه وتعالى فقد أحاط علمه بالسعيد والشقي، ثم الأمر إليه، فمن شاء هداه، ومن أراد أرداه...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{يُبَيّنُ الله لَكُمْ آياته} أي دلائلَه {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} طلباً لثباتكم على الهدى وازديادِكم فيه.
تيسير التفسير لاطفيش 1332 هـ :
ومعنى إنجائهم من الشفا: إنجاؤهم من مظنة الهلاك...
{لَعَلّكُمْ تَهْتَدُونَ} إلى ما لم تهتدوا إليه قبل، أو تبقون على الاهتداء...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
حبل الله: هو القرآن، كما ورد في الحديث الصحيح عن ابن مسعود، وروى ابن أبي شيبة وابن جرير عن أبي سعيد الخدري مرفوعا "كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض "علم عليه في الجامع الصغير بالحسن...
وصور الأستاذ الإمام التمثيل بما هو أظهر من هذا، قال ما معناه: الأشبه أن تكون العبارة تمثيلا، كأن الدين في سلطانه على النفوس واستيلائه على الإرادات وما يترتب على ذلك من جريان الأعمال على حسب هديه: حبل متين يأخذ به الآخر فيأمن السقوط، كأن الآخذين به قوم على نشر من الأرض يخشى عليهم السقوط منه فأخذ بحبل موثق جمعوا به قوتهم فامتنعوا من السقوط. وأقول: إن المختار هو ما ورد في الحديث المرفوع من تفسير حبل الله بكتابه، ومن اعتصم به كان آخذا بالإسلام. ولا يظهر تفسيره بالجماعة والاجتماع؛ وإنما الاجتماع هو نفس الاعتصام، فهو يوجب علينا أن نجعل اجتماعنا ووحدتنا بكتابه، عليه نجتمع، وبه نتحد، لا بجنسيات نتبعها، ولا بمذاهب نبتدعها، ولا بمواضعات نضعها، ولا بسياسات نخترعها، ثم نهانا عن التفرق والانفصام، بعد هذا الاجتماع والاعتصام، لما في التفرق من زوال الوحدة، التي هي معقد العزة والقوة، وبالعزة يعتز الحق فيعلو في العالمين، وبالقوة يحفظ هو وأهله من هجمات الواثبين وكيد الكائدين، فهذا الأمر والنهي في معنى الأمر والنهي في قوله تعالى: (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) [الأنعام: 152] فحبل الله هو صراطه وسبيله. وما أشرنا إليه هنا من بيان أنواع التفرق هو السبل التي نهى عن اتباعها في تلك الآية، وهي قد نزلت قبل هذه التي نفسرها. لأنها في سورة الأنعام وهي مكية، وسورة آل عمران مدنية. فكأنه قال: ولا تتفرقوا باتباع السبل غير سبيل الله الذي هو كتابه. فمن تلك السبل المفرقة: إحداث المذاهب والشيع في الدين كما قال: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء) [الأنعام: 159] ومنها عصبية الجنسية الجاهلية وهي التي نزلت الآية التي نفسرها وما معها فيها لما كان بين الأوس والخزرج ما كان كما تقدم. وورد في النهي عنها أحاديث كثيرة صحاح وحسان، كقوله صلى الله عليه وسلم "أبغض الناس إلى الله ثلاثة: ملحد في الحرم، ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية، ومطلب دم امرئ مسلم بغير حق ليهريق دمه" رواه البخاري من حديث ابن عباس، وقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من دعا إلى عصبية". رواه أبو داود من حديث جبير بن مطعم...
فالإسلام يأمر باتحاد واتفاق كل قوم تضمهم أرض وتحكمهم الشريعة على الخير والمصلحة فيها، وإن اختلفت أديانهم وأجناسهم، ويأمر مع ذلك باتفاق أوسع، وهو الاعتصام بحبل الله بين جميع الأقوام والأجناس لتتحقق بذلك الأخوة في الله، ولذلك قال بعد الأمر بالاعتصام والاجتماع والنهي عن التفرق: (واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا) يشير إلى ما كان عليه المؤمنون في عصر التنزيل من أخوة الإيمان التي بها قاسم الأنصار المهاجرين أموالهم وديارهم وبها كانوا يؤثرون بعضهم بعضا بالشيء على نفسه، وهو في خصاصة وحاجة شديدة إلى ذلك الشيء بعد ما كان بينهم في الجاهلية من العداوة والبغضاء وتسافك الدماء ما هو معروف في جملته للجماهير وفي تفاصيله الغربية للمطلعين على أخبارهم المروية والمدونة. ومنها أن الحروب تطاولت بين الأوس والخزرج مئة وعشرين سنة حتى أطفأها الإسلام، وألف الله بين قلوبهم برسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا بعض ما أفادهم الإسلام في حياتهم الدنيا، وقد أنقذهم فيما يستقبلون من أمر الآخرة مما هو شر، وأدهى وأمر، وذلك قوله عز وجل: (وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها) أي كنتم كذلك، بوثنيتكم وشرككم بالله تعالى وما يتبعه من الخرافات والمفاسد فهي التي أطفأت نور الفطرة وهبطت بالأرواح إلى درك سافل حتى كانت كأنها على طرف حفرة يوشك أن تنهار بها في النار. فشفا الحفرة أو البئر طرفها، ويضرب به المثل في القرب من الهلاك، قال الراغب: ومنه أشفى على الهلاك، أي حصل على شفاه. وليس بين الشرك وبين الهلاك في النار إلا الموت، والموت أقرب غائب ينتظر. فما أعظم منة الله تعالى على المؤمنين الصادقين، لا سيما الأولين الذين خوطبوا بهذه الآية، أولا: أن أخرجهم بالإسلام من الشرك ومخازيه وشقائه، وألف بينهم حتى صاروا بهذه الألفة أسعد الناس، ثم صاروا سادات الأرض، وأنقذهم بذلك من النار. فكانوا به سعداء الدارين والفائزين بالحسنيين. أفليس أول واجب من شكر هذه النعمة التي لا تفضلها نعمة أن يعرضوا عن وساوس ودسائس أولئك المغرورين بسلفهم من الأنبياء وهم ليسوا على شيء من هدايتهم؟ بلى، فقد وضح ا لحق وبطل الإفك. قال الأستاذ الإمام: انظر آية الله، قوم متخالفون بين العداوات والإحن يتربص كل واحد بالآخر الهلكة على يده، فيأتي الله بهذه الهداية فيجمعهم ويزيل كل ما في نفوسهم من التنافر ويجعلهم إخوانا ترجع أهواؤهم كلها إلى شيء واحد لا يختلفون فيه، وهو حكم الله. ولذلك قال: (كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون) أن ليعدكم ويؤهلكم بها للاهتداء الدائم المستمر فلا تعودوا إلى عمل الجاهلية من التفرق والعدوان. ثم قال: التفرق والاختلاف قسمان: قسم لا يمكن أن يسلم منه البشر، فالنهي عنه من قبيل تكليف ما لا يستطاع، وليس بمراد في الآيات؛ وقسم يمكن الاحتراس منه وهو المراد بها. أما الأول فهو الخلاف في الفهم والرأي ولا مفر منه لأنه مما فطر عليه البشر. كما قال تعالى: (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم) [هود: 118] فاستواء الناس في العقول والأفهام مما لا سبيل إليه ولا مطمع فيه. إذ هو من قبيل الحب والبغض، فالأخوة الأشقاء في البيت الواحد تختلف أفهامهم في الشيء كما يختلف حبهم له وميلهم إليه. وأما الثاني- وهو ما جاءت الأديان لمحوه- فهو تحكيم الأهواء في الدين والأحكام، وهو أشد الأشياء ضررا في البشر، لأنه يطمس أعلام الهداية التي يلجأ إليها في إزالة المضمار التي في النوع الأول من الخلاف... هذا النوع من الخلاف هو الذي ذلت به الأمم بعد عزها، وهوت بعد رفعتها وضعفت بعد قوتها- هو الافتراق في الدين وذهاب أهله مذاهب تجعلهم شيعا تتحكم فيهم الأهواء...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
ثم أمرهم تعالى بما يعينهم على التقوى وهو الاجتماع والاعتصام بدين الله، وكون دعوى المؤمنين واحدة مؤتلفين غير مختلفين، فإن في اجتماع المسلمين على دينهم، وائتلاف قلوبهم يصلح دينهم وتصلح دنياهم وبالاجتماع يتمكنون من كل أمر من الأمور، ويحصل لهم من المصالح التي تتوقف على الائتلاف ما لا يمكن عدها، من التعاون على البر والتقوى، كما أن بالافتراق والتعادي يختل نظامهم وتنقطع روابطهم ويصير كل واحد يعمل ويسعى في شهوة نفسه، ولو أدى إلى الضرر العام، ثم ذكرهم تعالى نعمته وأمرهم بذكرها فقال: {واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء} يقتل بعضكم بعضا، ويأخذ بعضكم مال بعض، حتى إن القبيلة يعادي بعضهم بعضا، وأهل البلد الواحد يقع بينهم التعادي والاقتتال، وكانوا في شر عظيم، وهذه حالة العرب قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم فلما بعثه الله وآمنوا به واجتمعوا على الإسلام وتآلفت قلوبهم على الإيمان كانوا كالشخص الواحد، من تآلف قلوبهم وموالاة بعضهم لبعض، ولهذا قال: {فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار}... وفي هذه الآية ما يدل أن الله يحب من عباده أن يذكروا نعمته بقلوبهم وألسنتهم ليزدادوا شكرا له ومحبة، وليزيدهم من فضله وإحسانه، وإن من أعظم ما يذكر من نعمه نعمة الهداية إلى الإسلام، واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم واجتماع كلمة المسلمين وعدم تفرقها.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فأما الركيزة الثانية، فهي ركيزة الأخوة.. الأخوة في الله، على منهج الله، لتحقيق منهج الله...
فهي أخوة إذن تنبثق من التقوى والإسلام.. من الركيزة الأولى.. أساسها الاعتصام بحبل الله -أي عهده ونهجه ودينه- وليست مجرد تجمع على أي تصور آخر، ولا على أي هدف آخر، ولا بواسطة حبل آخر من حبال الجاهلية الكثيرة! (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا).. هذه الأخوة المعتصمة بحبل الله نعمة يمتن الله بها على الجماعة المسلمة الأولى. وهي نعمة يهبها الله لمن يحبهم من عباده دائما. وهو هنا يذكرهم هذه النعمة. يذكرهم كيف كانوا في الجاهلية "أعداء".. وما كان أعدى من الأوس والخزرج في المدينة أحد... فألف الله بين قلوب الحيين من العرب بالإسلام.. وما كان إلا الإسلام وحده يجمع هذه القلوب المتنافرة. وما كان إلا حبل الله الذي يعتصم به الجميع فيصبحون بنعمة الله إخوانا. وما يمكن أن يجمع القلوب إلا أخوة في الله، تصغر إلى جانبها الأحقاد التاريخية، والثارات القبلية، والأطماع الشخصية والرايات العنصرية. ويتجمع الصف تحت لواء الله الكبير المتعال...
والنص القرآني يعمد إلى مكمن المشاعر والروابط: "القلب".. فلا يقول: فألف بينكم. إنما ينفذ إلى المكمن العميق: (فألف بين قلوبكم) فيصور القلوب حزمة مؤلفة متآلفة بيد الله وعلى عهده وميثاقه. كذلك يرسم النص صورة لما كانوا فيه. بل مشهدا حيا متحركا تتحرك معه القلوب: (وكنتم على شفا حفرة من النار).. وبينما حركة السقوط في حفرة النار متوقعة، إذا بالقلوب ترى يد الله، وهي تدرك وتنقذ! وحبل الله وهو يمتد ويعصم. وصورة النجاة والخلاص بعد الخطر والترقب! وهو مشهد متحرك حي تتبعه القلوب واجفة خافقة، وتكاد العيون تتملاه من وراء الأجيال!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
قوله: {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا} ثَنَّى أمرهم بما فيه صلاح أنفسهم لأخراهم، بأمرهم بما فيه صلاح حالهم في دنياهم، وذلك بالاجتماع على هذا الدّين وعدم التَّفرّق ليكتسبوا باتّحادهم قوّة ونماء. والاعتصام افتعال من عَصَم وهو طلب ما يعصم أي يمنع. والحَبْل: ما يشدّ به للارتقاء، أو التدلّي، أو للنَّجاة من غَرَق، أو نحوه، والكلام تمثيل لهيئة اجتماعهم والتفافهم على دين الله ووصاياه وعهوده بهيئة استمساك جماعة بحبل ألقى إليهم من مُنقذ لهم من غرق أو سقوط، وإضافة الحبل إلى الله قرينة هذا التَّمثيل. وقوله: {جميعاً} حال وهو الّذي رجّح إرادة التَّمثيل، إذ ليس المقصود الأمر باعتصام كُلّ مسلم في حال انفراده اعتصاماً بهذا الدّين، بل المقصود الأمر باعتصام الأمَّة كُلّها،...
وقوله: {ولا تفرقوا} تأكيد لمضمون اعتصموا جميعاً كقولهم: ذممت ولم تُحْمَد. على الوجه الأول في تفسير {واعتصموا بحبل الله جميعاً}. وأمّا على الوجه الثَّاني فيكون قوله: {ولا تفرّقوا} أمراً ثانياً للدلالة على طلب الاتّحاد في الدّين، وقد ذكرنا أنّ الشيء قد يؤكّد بنفي ضدّه عند قوله تعالى: {قد ضلوا وما كانوا مهتدين} في سورة [الأنعام: 140] وفي الآية دليل على أنّ الأمر بالشيء يستلزم النَّهي عن ضدّه. وقوله: {واذكروا نعمت الله عليكم} تصوير لحالهم الَّتي كانوا عليها ليحصل من استفظاعها انكشاف فائدة الحالة الَّتي أمروا بأن يكونوا عليها وهي الاعتصام جميعاً بجامعة الإسلام الَّذي كان سبب نجاتهم من تلك الحالة، وفي ضمن ذلك تذكير بنعمة الله تعالى، الّذي اختار لهم هذا الدّين، وفي ذلك تحريض على إجابة أمره تعالى إياهم بالاتِّفاق. والتَّذكيرُ بنعمة الله تعالى طريق من طُرق مواعظ الرّسل. قال تعالى حكاية عن هود: {واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح} [الأعراف: 69] وقال عن شعيب: {واذكروا إذ كنتم قليلاً فكثَّركم} [الأعراف: 86] وقال الله لموسى: {وذكرهم بأيام الله} [إبراهيم: 5]. وهذا التَّذكير خاصّ بمن أسلم من المسلمين بعد أن كان في الجاهلية، لأنّ الآية خطاب للصّحابة ولكن المنّة به مستمرة على سائر المسلمين، لأن كُلّ جيل يُقَدّر أن لو لم يَسبق إسلام الجيل الَّذي قبله لكانوا هم أعداء وكانوا على شفا حفرة من النَّار. والظرفية في قوله: {إذ كنتم أعداء} معتبر فيها التَّعقيب من قوله: {فألف بين قلوبكم} إذ النعمة لم تكن عند العداوة، ولكن عند حصول التأليف عقب تلك العداوة. والخطاب للمؤمنين وهم يومئذ المهاجرون والأنصار وأفراد قليلون من بعض القبائل القريبة، وكان جميعهم قبل الإسلام في عداوة وحروب، فالأوس والخزرج كانت بينهم حروب دامت مائة وعشرين سنة قبل الهجرة، ومنها كان يوم بعاث، والعرب كانوا في حروب وغارات بل وسائر الأمم الَّتي دعاها الإسلام كانوا في تفرّق وتخاذل فصار الّذين دخلوا في الإسلام إخواناً وأولياء بعضهم لبعض، لا يصدّهم عن ذلك اختلاف أنساب، ولا تباعد مواطن، ولقد حاولت حكماؤهم وأولو الرأي منهم التأليف بينهم، وإصلاح ذات بينهم، بأفانين الدّعاية من خطابة وجاه وشعر فلم يصلوا إلى ما ابتغوا حتَّى ألَّف الله بين قلوبهم بالإسلام فصاروا بذلك التَّأليف بمنزلة الإخوان... وقد امتنّ الله عليهم بتغيير أحوالهم من أشنع حالة إلى أحسنها: فحالة كانوا عليها هي حالة العداوة والتَّفاني والتقاتل، وحالة أصبحوا عليها وهي حالة الأخُوّة ولا يدرِك الفرقَ بين الحالتين إلا من كانوا في السُّوأى فأصبحوا في الحُسنى، والنَّاس إذا كانوا في حالة بُؤس وضنك واعتادوها صار الشقاء دأبهم، وذلّت له نفوسهم فلم يشعروا بما هم فيه، ولا يتفطّنوا لوخيم عواقبه، حتَّى إذا هُيّئ لهم الصّلاح، وأخذ يتطرّق إليهم استفاقوا من شقوتهم، وعلموا سوء حالتهم، ولأجل هذا المعنى جمعت لهم هذه الآية في الامتنان بين ذكر الحالتين وما بينهما فقالت: {إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً}. وقوله: {بنعمته} الباء فيه للملابسة بمعنى (مع) أي أصبحتم إخواناً مصاحبين نعمة من الله وهي نعمة الأخوَّة... وقوله: {وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها} عطف على {كنتم أعداء} فهو نعمة أخرى وهي نعمة الإنقاذ من حالة أخرى بئيسة وهي حالة الإشراف على المهلكات. و... شَفا حفرة النَّار هنا تمثيل لحالهم في الجاهلية حين كانوا على وشك الهلاك والتَّفاني... فليس بينهم وبين الهلاك السَّريع التَّام إلا خطوة قصيرة، واختيار الحالة المشبَّه بها هنا لأن النَّار أشدّ المهلكات إهلاكاً، وأسرعُها، وهذا هو المناسب في حمل الآية ليكون الامتنان بنعمتين محسوستين هما: نعمة الأخوة بعد العداوة، ونعمة السلامة بعد الخطر،...
ويكون الامتنان على هذا امتناناً عليهم بالإيمان بعد الكفر وهم ليقينهم بدخول الكفرة النَّارَ علموا أنَّهم كانوا على شفاها...
وقوله: {كذلك يبين الله لكم آياته} نعمة أخرى وهي نعمة التَّعليم والإرشاد، وإيضاح الحقائق حتَّى تكمل عقولهم، ويَتَبَيَّنوا مَا فيه صلاحهم. والبيان هنا بمعنى الإظهار والإيضاح. والآيات يجوز أن يكون المراد بها النعم،... ويجوز أن يراد بها دلائل عنايته تعالى بهم وتثقيف عقولهم وقلوبهم بأنوار المعارف الإلهية. وأن يراد بها آيات القرآن فإنها غاية في الإفصاح عن المقاصد وإبلاغ المعاني إلى الأذهان...
أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن للشنقيطي 1393 هـ :
لم يبيّن هنا ما بلغته معاداتهم من الشدة، ولكنّه بيّن في موضع آخر أن معاداتهم بلغت من الشدة أمرًا عظيمًا حتى لو أنفق ما في الأرض كله؛ لإزالتها وللتأليف بين قلوبهم لم يفد ذلك شيئًا وذلك في قوله: {وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الذي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ 62 وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا في الأرض جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حكيم 63}...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
قد ذكر سبحانه أن الأمر بالاعتصام لا يؤدي غايته وحقيقته إلا إذا اعتصمت الأمة جميعها، ولذلك قال سبحانه: {واعتصموا بحبل الله جميعا} أي كونوا جميعا مستمسكين به؛ وذلك لأن هذا الدين كل لا يقبل التجزئة، والجماعة الإسلامية كل وطائفة واحدة، وكلمة {جميعا} يصح ان تكون حالا من الواو، ويصح ان تكون حالا من حبل الله تعالى، وعلى الأول يكون المعنى كونوا جميعا مستمسكين بحبل الله، ولا يصح ان ينفصل منكم طائفة لا تأخذ بذلك الحبل؛ لأن الشيطان ينفذ إليكم عن طريق هذه الطائفة التي شذت وعصت امر ربها. وعلى ان كلمة {جميعا} حال من حبل الله، يكون المعنى خذوا بالقرآن كله، ولا تجعلوه عضينا تؤمنون ببعضه وتكفرون ببعضه، أو خذوا بشريعته كلها ولا تأخذوا بجزء منها دون جزء، فإنها كل لا يقبل التجزئة. والأمران مرادان معا، فإن مقتضى النص ان نأخذ جميعا بالشريعة كلها، لا نفرق بينها، ولا نتفرق في أمرها؛ ولذا قال سبحانه: {ولا تفرقوا} أي لا تتفرقوا في أنفسكم، فلا يضرب بعضكم رقاب بعض، ولا تتنادوا بنداء الجاهلية، ولا تتفرقوا في دينكم، فتذهبوا في فهمه شيعا وفرقا مختلفة، فتضلوا عن سبيل الله، ولا شيء يذهب بنور الحق المبين أكثر من اختلاف الأنظار في فهمه وإدراكه، والنظر إليه بروح التعصب الذي يغفل عن الاتجاه إلى الحق في كل جوانبه، ولذلك جاء النهي عن التفرق في الدين، فقد قال تعالى: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء.159} [الأنعام]...
والنعمة التي يذكرنا الله بها في قوله تعالى: {واذكروا نعمت الله عليكم} هي نعمة الهداية والتأليف القلبي، وهو أعظم النعم على الجماعات والأمم، وقد بينها سبحانه بقوله: {إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم} فهذه نعمة بينة واضحة،وهذه النعمة ترتب عليها أثرها الجليل الخطير بفيض آخر من نعمته سبحانه أيضا ولذا قال: {فأصبحتم بنعمته إخوانا} فالنعمة الثانية التي كانت امتدادا للنعمة وفيضا لها هي نعمة الأخوة العامة، التي تجعل الأهواء مشتركة، والمصالح متشابكة متوحدة، يتعاون كل واحد في الأمر الذي يحسنه لمصلحة الجميع، والآية ترمي إلى بيان ان تألف القلوب وحده نعمة و الأخوة المترتبة عليه المتعاونة نعمة أخرى، والتألف معنى نفسي، والأخوة مظهر اجتماعي عملي، ولقد شدد- سبحانه- في التذكير بمآتم الاختلاف بعد ان أشار إلى نعمة الوفاق بقوله: {كنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها}...
...هذا يدلنا على أن كل نزغةِ جارحةٍ من الجوارح لا بد أن يكون وراءها هبَّة قلب وثورته وهياجه، فاليد لا تصفع أحدا من فراغ، ولكن الصفعة توجد في القلب أولا {فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ}...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
في هذه الآية يُتابع القرآن تأكيد الأساس الذي تنطلق منه الوحدة في أسلوب إيحائي يربط الهدف بالقاعدة، في مسار لا يترك مجالاً للانحراف أو الضلال... ثُمَّ في توجيه المجتمع المؤمن إلى أن يدخل في عملية مقارنةٍ بين الماضي والحاضر، فقد كان الماضي يحمل في داخله الحقد والعداوة والبغضاء، بينما يتحرّك الحاضر على أساس المحبة والألفة والأخوّة...
وكان ذلك الواقع المظلم خاضعاً لممارسات تقف به على مشارف النَّار، فأنقذه اللّه منها برحمته في ما أنزله من وحي، وما أطلقه من مفاهيم، وما وجّهه من تعاليم...
"واعتصموا بحبل اللّه جميعاً" فهو في مضمونه الشامل الذي يشمل الإسلام كلّه، في مضمون الكتاب وحركة القيادة في خططها العملية، يمثِّل العروة الوثقى التي لا انفصام لها ولا انقطاع، فلا بُدَّ لكم من التمسك به والارتباط به، واعتباره الخطّ الذي يتواصل به الجميع والرابط الذي يربط بين الأفراد الذين قد يختلفون في خصوصياتهم ومواقعهم، "ولا تفرَّقوا" ليقف كلّ واحدٍ منكم في ناحية بعيدة عن الناحية التي يقف فيها الآخر على أساس العصبية الذاتية أو العائلية أو القومية أو العرقية أو الوطنية أو الإقليمية...
وغير ذلك مما يختلف عليه النَّاس في قضاياهم العامّة والخاصّة، فإنَّ التفرّق والاختلاف يؤدّيان إلى الضعف تارةً وإلى السقوط أخرى، وإلى الابتعاد عن الخطّ المستقيم ثالثة، "واذكروا نعمة اللّه عليكم" بالإسلام الذي هداكم إليه، وما كنتم لتهتدوا لولا أن هداكم اللّه، وجمعكم بعد فرقة ووحّدكم بعد تمزّق، [إذ كنتم أعداء] لا تلتقون على موقف، ولا ترتكزون على قاعدةٍ، يحقد بعضكم على بعض، ويلعن بعضكم بعضاً "فألَّف بين قلوبكم" بما أودعه في داخلها من الإسلام المنفتح على اللّه الذي يشيع الألفة الروحية من خلال العقيدة الواحدة والشريعة الواحدة والخطّ الواحد والهدف الواحد، "فأصبحتم بنعمته إخواناً" متراحمين، متناصحين، مجتمعين على أمرٍ واحدٍ، متحابين خاضعين لعنوان واحد، وهو الأخوّة في اللّه التي تفتح القلوب على بعضها البعض، وتزيل الحقد والعداوة والبغضاء. "وكنتم على شفا حفرةٍ من النَّار" أي: على حافة الهاوية التي تكاد أن تسقطكم في النَّار، من خلال الكفر الذي كنتم تقيمون عليه، وتتحرّكون في دائرته، وتختلفون فيما بينكم من خلال نوازعه وأوضاعه، "فأنقذكم منها" بالإسلام الذي فتح لكم أبواب الخير كلّه وأبواب رضوانه الذي ينتهي بكم إلى الجنَّة ويُبعدكم عن النَّار، "كذلك يبيِّن اللّه لكم آياته" التي توضح لكم سبيل السّلامة في الدُّنيا والآخرة، وموارد الهلاك، لتأخذوا تلك وتتركوا هذه "لعلَّكم تهتدون" إلى الحقّ والصواب، بالمعرفة الواضحة والحجّة القوية والمنهج القويم. من وحي «الاعتصام بحبل اللّه»: وقد نستوحي من كلمة «الاعتصام بحبل اللّه» وإلحاقها بكلمة: "ولا تفرَّقوا"، أنَّ من الضروري للمسلمين أن يتلمسوا الركائز التي ترتكز عليها الوحدة من خلال ما يلتقون عليه من مبادئ الإسلام ومفاهيمه العامّة، ليشعروا بالوحدة الفكرية والعملية التي تجمعهم، ويتركوا ما اختلفوا فيه من ذلك، فيرجعوا فيه إلى اللّه والرسول في ما أفاض فيه القرآن من أساليب وقواعد للحوار من أجل الوصول إلى الحقيقة، ويبتعدوا عن الاستغراق في خلافاتهم من مواقع العقدة الطائفية المشبعة بالحقد والضغينة ومختلف عوامل الإثارة... فإنَّ السير على هذا الخطّ ينطلق من الاعتصام بحبل اللّه، الذي يجمع ولا يفرّق. وقد يبدو للبعض أنَّ مفهوم «الاعتصام بحبل اللّه» يفرض الالتقاء على المبادئ الأصيلة في الكتاب والسنة، فلا يشمل الحالات التي يشعر فيها كلّ فريق بأنَّ الفريق الآخر لا يصدُر عن الحقيقة في عقيدته وفي علمه، ما يجعل الالتقاء به على هذا الصعيد التقاءً مع الانحراف والضلال...
ولكنَّنا نحسب أنَّ هذه الفكرة غير دقيقة، لأنَّ المفهوم من «الاعتصام بحبل اللّه» هو اعتبار الكتاب أساساً للوحدة في المبادئ المتفق عليها، وفي أسلوب الوصول إلى الوفاق في المبادئ المختلف عليها، لأنَّ الرجوع إلى الكتاب يعني الالتزام بقواعده وتشريعاته في طبيعة الفكرة وفي أسلوب الوصول إليها. وإنَّنا نعتقد أنَّ السبب في ما وصل إليه المسلمون من تناحر واختلاف وتفرّق هو أنَّهم انطلقوا من موقع العقد الذاتية التي تتحكم بأعصابهم وانفعالاتهم، ولم ينطلقوا في مواجهة خلافاتهم من موقع الحوار الإسلامي على هدي القرآن وطريقه...
المقارنة الواعية بين الماضي والحاضر:
ثُمَّ تنطلق الآية في تعميق الفكرة في داخلهم من خلال ربط المبدأ بالتجربة الحيّة في حركة الواقع، وذلك بالمقارنة بين الحياة التي كانوا يحيونها، حيثُ كانت علاقاتهم خاضعةً للعوامل الذاتية المنطلقة من المصالح والأنانيات والنوازع الشريرة، التي يفقد الإنسان معها الحسّ العميق بالروابط الطاهرة التي تربطه بالآخرين، فتدفعه إلى رعايتهم والتفكير بهم والشعور بآلامهم ومشاكلهم والتعاون على مواجهة الواقع، وقد تؤدّي بالإنسان إلى أن يعيش روح العداوة والبغضاء تجاه إخوانه إذا اصطدمت مصالحه بمصالحهم أو مشاعره بمشاعرهم، ويتحرّك نحو التقاتل والتباغض...
وبين الحياة التي يعيشونها الآن، حيثُ بدأوا يشعرون بالرابطة الوثيقة التي تحكم علاقاتهم الروحيّة والاجتماعيّة من خلال العقيدة الواحدة والمصالح المشتركة والهدف الواحد والمسيرة الواحدة، فلم يعد الإنسان في ظلّ هذا الواقع فرداً مستقلاً يملك مصالح خاصة تتصل بأنانيته، بل تحوّل إلى جزءٍ من أمّة تتشابك قضاياها ومصالحها في قضية واحدة، وتعيش فيها المشاعر في وحدة شعورية رائعة. وهذا ما عبّرت عنه الآية بقوله تعالى: "فألَّف بين قلوبِكُم"، فإنَّ هذا التأليف بين القلوب لم ينطلق من حالةٍ طارئة ساذجة في حساب العواطف، ولم يخضع لمعجزة إلهية خارجة عن النواميس الطبيعية للعلاقات؛ بل انطلق من القاعدة الفكرية الروحية الجديدة المرتكزة على أساس فكر الإسلام وروحه، وتلك هي القاعدة الأساسية التي تبني للمجتمع شخصيته الاجتماعية المتكاملة على صعيد العلاقات العامّة والخاصّة. إنَّ الآية تدعوهم إلى الدخول في عملية المقارنة الواعية بين علاقات الماضي والحاضر، ليعرفوا النتائج الإيجابية والسلبية، ليعمّقوا الإيجابيات التي تفرضها العلاقات الجديدة، ويخففوا السلبيات المتحرّكة في حياتهم من خلال علاقات الماضي، ليكونوا على وعي كامل عميق لكلّ الأساليب التي يُراد منها إثارة النوازع والعصبيات القديمة من خلال الرواسب الكامنة في الأعماق، مما قد يُعيد للماضي في نفوسهم ضراوته وشدّته. فإنَّ وعي الأمّة للواقع من خلال المبادئ العامّة يمنح التحرّك في نطاق العلاقات قوّة كبيرةً وامتداداً عميقاً نحو الهدف الكبير الشامل...
وهذا ما أراد اللّه للأمّة أن تعيه جيّداً، لتفهم أنَّ الحالة الماضية كانت تضع المجتمع على حافّة الهاوية التي تشتعل وتتأجج بالنَّار التي تحرقهم في الدُّنيا والآخرة، وأنَّ المسيرة الجديدة في خطّة العقيدة الجديدة تعتبر عملية إنقاذ من ذلك كلّه، ليعيش النَّاس روحيّة الجنَّة في علاقاتهم ومصيرهم... وتختم الآية الحديث بالإشارة إلى أنَّ هذه هي آيات اللّه التي يريد منها أن يضع للأمّة العلامات الواضحة البيّنة على مفارق الطريق في مسيرة الحقّ أو الباطل، لتكون الهدى للنَّاس عندما تضيع الخطوط أمام الرمال المتحرّكة التي تخفي عن النَّاس معالم الطريق، ويريد للنَّاس أن يجدوا الهدى في خطواتهم العملية التي تحوّل الفكرة إلى موقف، وتركّز الموقف على أساس التَّقوى والإيمان. إنَّ الآية تعود إلى الحديث عن الاعتصام باللّه، ولكن بأسلوب آخر، وهو الاعتصام بحبل اللّه، لأنَّ القضية التي تعالجها هذه الآية ليست قضية المسلم الفرد في ما يلتزم به ويحقّق له سلامة المصير الفردي، كما هو الحال في الآية السابقة، ولكنَّها قضية المسلمين في حياتهم الاجتماعية، في وحدتهم وتضامنهم على الخطّ الواحد؛ ولهذا كان الحديث ينطلق في ما تتمثّل به هذه الوحدة التي يرتبط بها الجميع، أو يُراد للجميع أن يعيشوا روح الارتباط بها من ناحية عملية لا من ناحية فكريّة مجرّدة، لأنَّ الاقتصار على الجانب الفكري الذاتي لا يوحي بوحدة الحركة أو الموقف في كثير من الحالات، بل يبقى مجرّد حالة فكريّة توحي بالتعاطف والتلاقي في مجال الحوار والتأمّل، ولذلك كان لا بُدَّ من أن يتحوّل الفكر إلى ممارسة ومعاناةٍ وحركةٍ تعيش في ساحة الواقع، وتتدخل في المشاعر والعلاقات والانتماءات والحركة.. حتّى يشعر الجميع بأنَّ حياتهم تخضع للفكر في حالة اليقظة والنوم، والحرب والسلم، وفي الحياة الفرديّة والاجتماعيّة والسياسيّة، فلا ينفصل جانب عن جانب، كما لا يبتعد إنسان عن آخر في مصالحه ومشاكله وآماله وآلامه، فليست هناك مصلحة قومية لبعض المسلمين تصطدم بمصلحة قومية أخرى، وليست هناك مشكلة لبعضهم تصطدم بمشكلة خاصّة للبعض الآخر، بل لا بُدَّ من أن تكون الخطّة متكاملة في النطاق الإسلامي الشامل الذي يرتفع عن الخصوصية إلى التعميم، ويُعالج الخصوصية بروح الشمول؛ ولهذا كان التعبير ب «حبل اللّه» الذي يمثِّل التجسيد الحيّ للخطّ الواحد الذي يتمسك به كلّ الذين يخافون من الوقوع في الهاوية. وقد أكّد الفكرة بكلمة [ولا تفرَّقوا] التي هي الوجه السلبي للتعبير عن الفكرة الإيجابية للوحدة. الآية وواقع المسلمين الممزّق: وربَّما نستوحي من هذه الآية في واقعنا الإسلامي، الفكرة التي تدفع المسلمين إلى دراسة الواقع الممزّق الذليل الذي يجعلهم فِرَقاً متباعدة متشاحنة خاضعة لقوى الكفر والطغيان في أوضاعها الفكريّة والسياسيّة والاقتصاديّة...حتّى تحوّلوا إلى لعبةٍ بيد تلك القوى في صراعاتها مع بعضها البعض، وفي تخطيطاتها لأساليب السيطرة على ثرواتها ومواردها، ما يحوّل البلاد الإسلامية إلى سوق استهلاكية لمنتوجاتها. ومن هنا تأتي الدعوة إلى الوقوف ضدَّ أيّة نزعةٍ استقلالية في المجال السياسي أو الاقتصادي، بل في كلّ المجالات الأخرى... وقد يتّجه التخطيط إلى إثارة المشاكل الطائفية والسياسية بين المسلمين من أجل استنزاف طاقاتهم وتعطيل فعاليتهم بغية إبقاء السيطرة كاملةً عليهم من خلال حاجتهم إلى الاستعانة بهذه الجهة أو تلك في التغلب على بعضهم البعض... ربَّما يحتاج المسلمون إلى وقفة تأمّل أمام هذا الواقع كلّه، ليفكّروا في حبل اللّه الذي يجب أن يعتصموا به ويرجعوا إليه في هذه الفوضى الفكرية والسياسية التي يعيشون فيها، ليعرفوا مواطن الوفاق فيلتقوا عليها، ويكتشفوا عناصر الخلاف فيتفاهموا عليها، ويتفهموا طبيعة الساحة التي يدور حولها الصراع من خلال الظروف الموضوعية المحيطة بها، ونوعية القوى الطاغية الكافرة المتحرّكة فيها وعلاقتها بتفجير الواقع الإسلامي من الداخل ضدَّ المصالح الحقيقية للإسلام والمسلمين...
فقد يجد المسلمون في ذلك كلّه سبيلاً للقاء على أساس الاعتصام بحبل اللّه، وقد يقف الواعون منهم وقفة مقارنةٍ بين ماضي الإسلام وحاضره، ولكن بطريقة معكوسة، لأنَّ الآية تدفع إلى الإصرار على الإخلاص للواقع الحاضر على أساس دراسة تجربة الماضي، بينما يفرض علينا الواقع أن نتخلص من واقعنا السيئ على أساس التجربة التي عاشها الإسلام في الماضي... إنَّ الاعتصام بحبل اللّه يمثِّل القاعدة الصلبة التي يمكن للمسلمين أن يستندوا إليها من أجل توحيد المسيرة وتوحيد الهدف في نطاق توحيد الأمّة، وذلك في ظلّ التخطيط الواعي الذي يتجاوز السلبيات إلى الإيجابيات، ويقف مع السلبيات وقفة فكر لا وقفة عاطفة، ويعتبر أنَّ وضوح الرؤية لدى أيّة جهة لا يعني وضوحها لدى الآخرين، ما يستدعي مزيداً من الصبر والتحمّل في سبيل الوصول إلى وحدة الرؤية للأشياء وللمواقف في اتجاه وحدة الهدف الكبير، وذلك هو ما يبعدنا عن متاهات النظريات والتحليلات التي يثيرها الآخرون في أجواء غير إسلامية مما استحدثوه واستنتجوه من تجارب ذاتية، أو أهواء منحرفة... ففي القرآن الكثير الكثير مما نستطيع أن نتعلّمه ونعمل به، وفيه الكثير الكثير مما يمكن أن يحل لنا مشاكلنا الفكرية والعملية إذا أحسنّا النظرة والأسلوب في كيفية التعامل مع الأشياء من خلال الأجواء القرآنية الواقعية.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
بعد أن أوصت الآية السابقة كلّ المؤمنين بملازمة أعلى درجات التقوى ومهدت بذلك النفوس وهيأتها، جاءت «الآية الثانية» تدعوهم بصراحة إلى مسألة الاتحاد، والوقوف في وجه كلّ ممارسات التجزئة وإيجاد الفرقة...
إن النقطة الجديرة بالاهتمام في هذه الآية هو التعبير عن هذه الأُمور بحبل الله، فهو إشارة إلى حقيقة لطيفة وهامة، وهي أن الإنسان سيبقى في حضيض الجهل، والغفلة، وفي قاع الغرائز الجامحة إذا لم تتوفر له شروط الهداية، ولم يتهيأ له الهادي والمربي الصالح فلابدّ للخروج من هذا القاع، والارتفاع من هذا الحضيض من حبل متين يتمسك به ليخرجه من بئر المادية والجهل والغفلة، وينقذه من أسر الطبيعة، وهذا الحبل ليس إلاَّ حبل الله المتين، وهو الارتباط بالله عن طريق الأخذ بتعاليم القرآن الكريم والقادة الهداة الحقيقيين، التي ترتفع بالناس من حضيض الحضيض إلى أعلى الذرى في سماء التكامل المادي والمعنوي...