التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{وَٱعۡتَصِمُواْ بِحَبۡلِ ٱللَّهِ جَمِيعٗا وَلَا تَفَرَّقُواْۚ وَٱذۡكُرُواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ كُنتُمۡ أَعۡدَآءٗ فَأَلَّفَ بَيۡنَ قُلُوبِكُمۡ فَأَصۡبَحۡتُم بِنِعۡمَتِهِۦٓ إِخۡوَٰنٗا وَكُنتُمۡ عَلَىٰ شَفَا حُفۡرَةٖ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنۡهَاۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمۡ ءَايَٰتِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ} (103)

( 3 ) شفا : بمعنى حافة وطرف .

{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَاللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ ( 98 ) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنتُمْ شُهَدَاء( 1 ) وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ( 99 ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ ( 100 ) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم( 2 ) بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( 101 ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ( 102 ) وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا ( 3 ) حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ( 103 ) } [ 98 103 ] .

في الآيات :

1 أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتوجيه السؤال على سبيل الاستنكار إلى أهل الكتاب عن كفرهم بآيات الله وصدهم عن سبيل الله الذين آمنوا وساروا فيها بقصد تعطيلها وتعويجها .

2 وتنديد بهم لأنهم يفعلون ذلك وهم يعلمون في قرارة نفوسهم صحة رسالة النبي وصدق دعوته .

3 وإنذار لهم بأن الله شهيد عليهم وغير غافل عمّا يفعلون .

4 وخطاب موجه إلى المسلمين يحذرون به من الإصغاء لأقوالهم وإطاعتهم فيها ويبين لهم به إنما يريدون بها ردّهم إلى الكفر بعد الإيمان ، فإذا سمعوا لهم وأطاعوا حققوا ما يريدونه لهم .

5 وتساؤل ينطوي على التحذير أيضا عما إذا كان يصح أن يكفروا بعد إيمانهم ولا يزال رسول الله هاديهم بين أظهرهم وما زالت آيات الله تتلى عليهم .

6 وتنبيه على أن الذي يتمسك بالله وآياته ويقف عند حدوده فهو الناجي المهدي إلى طريق الحق القويم .

7 وخطاب آخر موجه إليهم أيضا يؤمرون فيه بالحرص أشد الحرص على تقوى الله كما يجب وعلى البقاء على الإسلام والموت عليه . والتمسك بحبل الله المتين متحدين يدا واحدة وقلبا واحدا وعدم التفرق . ويذكرون فيه بما كان من نعمة الله عليهم وعنايته بهم حيث ألف بين قلوبهم ، فأصبحوا إخوانا بعد أن كانوا أعداء ، وحيث نجاهم وأنقذهم من حفرة النار التي كانوا على حافتها . ففي كل هذا ما يزعهم عن الخلاف والجحود ، ويقوي اتحادهم وتمسكهم بحبل الله وما يضمن لهم الهدى .

تعليق على الآية

{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَاللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ ( 98 ) }

والآيات الأربع التالية لها

جمهور المفسرين{[448]} على أن أهل الكتاب هنا هم اليهود أيضا . وقد رووا رواية ملخصها أن بعض يهود المدينة كبر عليهم أن يروا مركز النبي يقوى ودعوته تتسع ، ورأوا أن هذا إنما كان بخاصة بتآخي قبيلتي الأوس والخزرج المدنيتين في ظل الإسلام وتوطد الوحدة الدينية بينهما وتناسيهما نتيجة لذلك ما كان بينهما من عداء وحروب في الجاهلية فتآمروا على إثارة الفتنة بينهما ، وأخذ بعضهم يذكرون بعض الأوس والخزرج بما كان من مفاخر الجاهلية وحروبها ، فلم تلبث نخوة الجاهلية أن تحركت فيهم ودفعتهم إلى التراد في التفاخر ، ثم اشتد الأمر بينهم إلى التصايح فإلى التداعي إلى السلاح ليعيدوا الحرب بينهما ويحكموا السيف فيمن هو الأولى بالفخر منهما . وأتى الخبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسارع هو وكبار المهاجرين إليهم يذكرونهم بالإسلام والأخوة الإسلامية ويهدئون من روعهم حتى سكنوا وأدركوا أنها نزغة من نزغات الشيطان ودسيسة من دسائس اليهود ، ثم تعانقوا وتباكوا وكرروا الحمد لله ولرسوله على ما كان لهما من فضل ونعمة سابقة ولاحقة ، فأنزل الله الآيات منددة باليهود وفاضحة لمكرهم ومحذرة للمسلمين ، ومذكرة لهم بما كان من نعمة الله عليهم وتوطد الأخوة بينهم في ظل الإسلام .

والروايات لم تردّ في الصحاح . ولكنها قوية الاحتمال ؛ لأنها متسقة مع فحوى الآيات . وقد تضمنت خبر جريمة مروعة أقدم على ارتكابها اليهود وكادوا يهدمون بها بنيان الإسلام الذي وطده الله ورسوله على الأخوة الإسلامية وأسلوب الآيات متناسب مع تنبيهه وتحذيره وتذكيره مع ذلك الخبر .

ويتبادر لنا إلى ذلك أن الآيات غير منقطعة سياقا وموضوعا عن الآيات السابقة لها ، وأن وضعها بعدها قد كان بسبب ذلك حيث تضمنت صورة أخرى من صور مكائد اليهود ودسائسهم بين المسلمين .

والروايات متفقة على أن الآية [ 103 ] منطوية على التذكير بما كان بين الخزرج والأوس من عداء وحروب قبل الإسلام . وقد أورد المفسرون في سياقها بعض الروايات التي فيها تفصيل لذلك . ولقد أشرنا إلى هذا وأوردنا بعض التفصيل عنه في تعليقنا على الآيات [ 84 و 85 ] من سلسلة آيات البقرة ثم في تعليقنا على الهجرة النبوية في سورة الأنفال فنكتفي بهذا التنبيه .

ومع خصوصية الآيات الزمنية ، فإنها انطوت على تلقينات جليلة مستمرة المدى . سواء أفي التنديد بمن يغلبه هواه وغيظه فيتآمر على دعوة الله ورسوله وهو يعرف أنها حق ويحاول أن يصد المؤمنين بها ويعرقل سيرها . أم في وجوب تمسك المسلمين بأهداف دينهم وهدى قرآنهم وسنة نبيهم . أم في وجوب الحرص على الأخوة الدينية التي جمعت بينهم والتي من شأنها أن تجعلهم كتلة قوية . أم في التحذير من الاستماع لدسائس الأغيار الذين يريدون لهم الضرر والضعف والفرقة والتخاذل .

هذا ، وفي كتب التفسير تأويلات لمدى بعض هذه الآيات نوردها ونعلق عليها كما يلي :

1 ففي صدد جملة { اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } روى الطبري بطرق مختلفة عن ابن مسعود وغيره أن معناها : " أن يطاع الله فلا يعصى . وأن يشكر فلا يكفر . وأن يذكر فلا ينسى " . وعن ابن عباس أن معناها : " جاهدوا في الله حق جهاده ولا تأخذكم في الله لومة لائم وقوموا لله بالقسط ولو على أنفسكم " . وقال ابن كثير إن الرواية الأولى مروية عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم رواها الحاكم في مستدركه مرفوعا وقال إنه صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه . وكلا التأويلين وجيه . وقد روى الطبري عن قتادة أن الآية منسوخة بآية سورة التغابن [ 16 ] التي فيها جملة { فاتقوا الله ما استطعتم } كتيسير وتخفيف من الله . وروى ابن عباس أنها غير منسوخة . ويتبادر لنا أن الجملة وردت في مقام يوجب التشديد في التحذير ، فتكون في كل مقام مثله محكمة . أما كون الله إنما يطلب من المسلمين أن يتقوه ما استطاعوا فيمكن أن يقال بدون القول بنسخ الأولى بالثانية : إن ذلك من المبادئ القرآنية التي تكرر تقريرها ومن السنة النبوية التي تعددت الأحاديث الصحيحة فيها على ما ذكرناه وأوردناه في تعليقنا على جملة { لا نكلف نفسا إلا وسعها } في الآية [ 42 ] من سورة الأعراف فليرجع إليه .

2 وفي مدى معنى { بحبل الله } روى الطبري أقوالا منها أن الجملة بمعنى الجماعة أو التوحيد ، أو الإخلاص لله أو القرآن . وقد أورد الطبري حديثا في سياق الجملة عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض ) . ولقد أوردنا في سياق الآية [ 9 ] من سورة الإسراء حديثا رواه الترمذي فيه ما جاء في حديث أبي سعيد . وعلى كل حال فالقرآن حقا هو حبل الله الذي يجب أن يعتصم به المسلمون والذي يعصم من تمسك به منهم ؛ لأن فيه جماع أسباب سعادة الإنسان في دنياه وآخرته .

3 وفي صدد جملة { وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } أورد ابن كثير حديثا رواه الإمام أحمد عن جابر قال : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قبل موته بثلاث : لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل ) . وهناك صيغ أخرى أوردها ابن كثير في الحث على إحسان الظن بالله وكون الله عند ظن عبده به . {[449]} وليس في الأحاديث ما يفيد أنها تأويل للجملة القرآنية التي يتبادر لنا أنها أوسع شمولا مما تضمنته الأحاديث ؛ حيث توجب على المسلمين أن يظلوا مسلمين أنفسهم إلى الله عز وجل مخلصين له وحده في كل حال حتى الموت . والله أعلم .

4 ويروي الطبري عن أهل التأويل أن المقصود من جملة { ولا تفرقوا } هو نهي المسلمين عن الفرقة والاختلاف فيما بينهم والحث على الألفة والجماعة وهو الوجيه السديد . وقد أورد في سياقها حديثا عن أنس عن رسول الله جاء فيه : ( إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة ، وإن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة كلهم في النار إلا واحدة فقيل : يا رسول الله ما هي ؟ فقبض يده وقال الجماعة . واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ) . وقد روى أبو داود والترمذي عن أبي هريرة هذه الصيغة : " افترقت اليهود على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة وتفرقت النصارى على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة وتفرقت أمتي على ثلاث وسبعين فرقة اثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة ){[450]} . وقد يصح أن يساق في هذا المقام حديث رواه الخمسة عن عبد الله جاء فيه : " لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث : النفس بالنفس والثيب الزاني والمفارق لدينه التارك للجماعة " . حيث ينطوي فيه بيان عظم جريمة الافتراق عن الجماعة . وهناك أحاديث صحيحة أخرى يصح أن تساق في هذا السياق . منها حديث رواه الشيخان عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات فميتته جاهلية ) . {[451]} وحديث رواه مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من خرج من الطاعة وفارق الجماعة ثم مات ميتة جاهلية . ومن قتل تحت راية عمية يغضب للعصبية ويقاتل للعصبية فليس من أمتي . ومن خرج من أمتي على أمتي يضرب برها وفاجرها لا يتحاشى من مؤمنها ولا يفي بذي عهدها فليس من أمتي ){[452]} .

والمتبادر أن المقصود من الجماعة هو جمهور المسلمين المخلصين في إيمانهم وإسلامهم القائمين بالحق والواجب . وأن المقصود من جملة ( ما يكره ) في الحديث السابق هو ما لا يلائم المرء ؛ لأن هناك أمورا قد لا تلائم المرء ولا تكون معصية . أما إذا أمر بمعصية أو كانت معصية محققة فلا طاعة ولا صبر . وهذا ما جاء في حديث رواه الخمسة عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحبّ أو كره ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة ){[453]} . وهناك أحاديث أخرى من هذا الباب فاكتفينا بما تقدم{[454]} .

ولقد ورد في سورة الأنعام نهي عن التفرق عن سبيل الله واتباع السبل الأخرى ونعي على الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا [ الآيات : 153 و 159 ] وعلقنا على ذلك وأوردنا بعض الأحاديث في سياقها . وهذه الأحاديث تفيد أن أهل البدع والأهواء بعض الأحاديث في سياقها ويلحظ فرق بين المقامين ؛ حيث إن آيات الأنعام تنهى في الدرجة الأولى عن التفرق في أمر الدين وأن الجملة التي نحن في صددها تنهى عن التفرق في الدرجة الأولى في أمر الدنيا . ومع ذلك فبينهما لقاء من حيث إن الإسلام يشمل شؤون الدين والدنيا معا . والله تعالى أعلم .


[448]:أنظر تفسير الآيات في الطبري والخازن والبغوي والطبرسي وابن كثير.
[449]:منها حديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي)، التاج ج 5 ص 65.
[450]:التاج، ج 1 ص 39 و 40.
[451]:التاج، ج 3 ص 40.
[452]:المصدر نفسه.
[453]:المصدر نفسه.
[454]:أنظر المصدر نفسه، ص 35 ـ 45.