الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{وَٱعۡتَصِمُواْ بِحَبۡلِ ٱللَّهِ جَمِيعٗا وَلَا تَفَرَّقُواْۚ وَٱذۡكُرُواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ كُنتُمۡ أَعۡدَآءٗ فَأَلَّفَ بَيۡنَ قُلُوبِكُمۡ فَأَصۡبَحۡتُم بِنِعۡمَتِهِۦٓ إِخۡوَٰنٗا وَكُنتُمۡ عَلَىٰ شَفَا حُفۡرَةٖ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنۡهَاۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمۡ ءَايَٰتِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ} (103)

وروى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، أنه قَالَ : ( إنَّ بَنِي إسْرَائِيلَ افترقوا على إحدى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً ، وإنَّ أُمَّتِي سَتَفْتَرِقُ عَلَى اثنين وَسَبْعِينَ فِرْقَةً ، كُلُّهَا فِي النَّارِ إلاَّ وَاحِدَةٌ ، فَقِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَمَا هَذِهِ الوَاحِدَةُ ؟ قَالَ : فَقَبَضَ يَدَهُ ، وَقَالَ : الجَمَاعَةُ ، وقرأ : { واعتصموا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً }[ آل عمران :102 ] . وقال قتادةُ وغيره : حبْلُ اللَّهِ الَّذي أمر بالاعتصام به : هو القُرآن ، ورواه أبو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وقال ابنُ زَيْدٍ : هو الإسلام ، وقيل غير هذا ممَّا هو كلُّه قريبٌ بعضُهُ مِنْ بعض .

وقوله تعالى : { وَلاَ تَفَرَّقُواْ }[ آل عمران :103 ]

يريد : التفرُّقَ الَّذي لا يتأتى معه الائتلافُ ، كالتفرُّقِ بالفتن ، والافتراقِ في العقائد ، وأما الافتراقُ في مسائل الفروعِ ، والفِقْه ، فلَيْسَ بداخلٍ في هذه الآيةِ ، بل ذلك هو الذي قَالَ فيه صلى الله عليه وسلم : ( خَلاَفُ أُمَّتِي رَحْمَةً ) ، وقد اختلفتِ الصَّحابةُ في الفُرُوع أشَدَّ اختلافٍ ، وهم يَدٌ واحدةٌ على كُلِّ كافرٍ .

وقوله سبحانه : { واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُم أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ . . . } [ آل عمران :103 ] .

هذه الآيةُ تدُلُّ على أنَّ الخطاب إنما هو للأوس والخَزْرَج ، كما تقدَّم ، وكانَتِ العداوةُ قد دامَتْ بين الحَيَّيْنِ مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً ، حتى رفَعَها اللَّه بالإسلام ، فجاء النَّفَر الستَّةُ من الأنْصَارِ إلى مكَّة حُجَّاجاً ، فعرض النبيُّ صلى الله عليه وسلم نَفْسَهُ علَيْهم ، وتَلاَ عَلَيْهِمْ شَيْئاً مِنَ القُرآنِ ، كَمَا كَانَ يَصْنَعُ مَعَ قَبَائِلِ العَرَبِ ، فَآمَنُوا بِهِ ، وَأَرَادَ الخُرُوجَ مَعَهُمْ ، فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنْ قَدِمْتَ بَلَدَنَا على مَا بَيْنَنَا مِنَ العَدَاوَةِ وَالحَرْبِ ، خِفْنَا أَلاَّ يَتِمَّ مَا نُرِيدُهُ بِكَ ، وَلَكِنْ نَمْضِي نَحُنُ ، وَنُشِيعُ أَمْرَكَ ، وَنُدَاخِلُ النَّاسَ ، وَمَوْعِدُنَا وَإيَّاكَ العَامُ القَابِلُ ، فَمَضَوْا ، وَفَعَلُوا ، وَجَاءَتِ الأَنْصَارُ فِي العَامِ القَابِلِ ، فَكَانَتِ العَقَبَةُ الثَّانِيَةُ ، وَكَانُوا اثني عَشَرَ رَجُلاً فِيهِمْ خَمْسَةٌ مِنَ السِّتَّةِ الأَوَّلِينَ ، ثُمَّ جَاءُوا مِنَ العَامِ الثَّالِثِ ، فَكَانَتْ بَيْعَةُ العَقَبة الكبرى ، حَضَرَهَا سَبْعُونَ ، وَفِيهِمُ اثنا عَشَرَ نَقِيباً .

ووصْفُ القصَّة مستوعبٌ في السِّيرِ ، ويسَّر اللَّه تعالى الأنصار للإسلام بوجْهَيْن :

أحدهما : أنَّ بني إسرائيل كانُوا مجاوِرِينَ لهم ، وكانوا يقولُونَ لِمَنْ يتوعَّدونه من العَرَبِ : يُبْعَثُ لَنَا الآنَ نَبِيٌّ نَقْتُلُكُمْ معه قَتْلَ عَادٍ وإرَمَ ، فلمَّا رأَى النَّفَر من الأنْصَارِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال بعضُهم لبعضٍ : هذا ، واللَّهِ ، النَّبيُّ الَّذِي تَذْكُرُه بَنُو إسرائيل ، فلا تُسْبَقَنَّ إلَيْهِ .

والوجْهُ الآخرُ : الحَرْبُ الَّتي كَانَتْ ضرَّسَتْهم ، وأفْنَتْ سراتهم ، فَرَجوْا أنْ يجمع اللَّه به كلمتهم ، فكان الأمر كما رَجَوْا ، فعدَّد اللَّه سبحانَهُ علَيْهم نعمَتَهُ في تأليفهم بعد العَدَاوة ، وذَكَّرهم بها ، قال الفَخْر : كانَتِ الأنصارُ قَبْلَ الإسلام أعداءً ، فلما أكرمهم اللَّه سبحانه بالإسلام ، صاروا إخواناً في اللَّه ، متراحِمِينَ .

واعلم أنَّ كلَّ مَنْ كان وجهه إلى الدنيا ، كان معادياً لأكثر الخَلْق ، ومَنْ كان وجهه إلى خدمة المولى سبحانه ، لَمْ يكُنْ معادِياً لأحدٍ ، لأنه يَرَى الكُلَّ أسيراً في قبضة القَضَاء والقَدَر ، ولهذا قيل : إن العارف ، إذا أَمَرَ ، أَمَرَ برفْقٍ ، ونَصَحَ لاَ بِعُنْفٍ وعُسْر ، وكيف ، وهو مُسْتَبْصِرٌ باللَّه في القَدَر ، اه .

وقوله تعالى : { فَأَصْبَحْتُم }[ آل عمران :103 ] عبارةٌ عن الاستمرار .

قال ( ص ) : أصْبَحَ يستعملُ لاتصافِ الموصوفِ بصفَتِهِ وقْتَ الصَّباحِ ، وبمعنى صَارَ ، فلا يلحظ فيها وقْت الصباح ، بل مطْلَق الانتقال والصيرورةِ مِنْ حالٍ إلى حالٍ ، وأَصْبَحَ : هنا بمعنى صَارَ ، وما ذكره ابنُ عطية مِنْ أنَّ أَصْبَحَ لِلاستمرارِ ، لم يذهَبْ إليه أحَدٌ من النَّحْوِيِّين ، اه .

قلْتُ : وفيما ادَّعاه نَظَرٌ ، وهي شهادةٌ على نَفْيٍ .

وكلامٍ( ع ) : واضحٍ من جهة المعنى ، والشَّفَا : حَرْفُ كلِّ جِرْمٍ له مهوى ، كالحفرة ، والبِئْر ، والجُرُفِ ، والسَّقْفِ ، والجِدَار ونحوه ، ويضافُ في الاستعمالِ إلى الأعلى ، كقوله : { شَفَا جُرُفٍ } [ التوبة : 109 ] وإلى الأسفلِ ، كقوله : { شَفَا حُفْرَةٍ } فشبَّه اللَّه كفرهم الذي كانوا عليه بالشَّفَا ، لأنهم كانوا يَسْقُطُون في جهنَّم دَأَباً ، فأنقدهم اللَّه منها بالإسلام .

وقوله تعالى : { فَأَنقَذَكُمْ مّنْهَا } أي : مِنَ النَّار ، ويحتمل من الحُفْرة ، والأول أحسنُ ، قال العِرَاقِيُّ : ( أَنْقَذَكُمْ ) ، أي : خلَّصكم ، اه .