قوله : { وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً } الحبل -في الأصل- هو : السبب ، وكل ما وصلك إلى شيء فهو حبل ، وأصله في الأجرام واستعماله في المعانِي من باب المجاز . ويجوز أن يكون - حينئذٍ - من باب الاستعارة ، ويجوز أن يكون من باب التمثيل ، ومن كلام الأنصار رضي الله عنهم : يا رسولَ الله ، إنَّ بيننا وبَيْنَ القوم حبالاً ونحن قاطعوها - يعْنُون العهود والحِلْف .
وَإذَا تُجَوِّزُهَا حِبَالُ قَبِيلَةٍ *** أخَذَتْ مِنَ الأخْرَى إلَيْكَ حِبَالَهَا{[5751]}
قيل : والسبب فيه أن الرجل كان إذا سافر خاف ، فيأخذ من القبيلة عَهداً إلى الأخرى ، ويُعْطَى سَهْماً وحَبْلاً ، ويكون معه كالعلامة ، فسُمِّيَ العهدُ حَبْلاً لذلك ، وهذا المعنى غير طائل ، بل سُمِّي العهد حبلاً للتوصُّل به إلى الغرض .
مَا زِلْتُ مُعْتَصِماً بِحَبْلٍ مِنْكُمُ *** مَنْ حَلَّ سَاحَتَكُمْ بِأسْبَابٍ نَجَا{[5752]}
قال القرطبي : العِصْمة : المَنَعَة ، ومنه يقال للبَذْرَقة : عصمة ، والبذرقة : الخفارة للقافلة ، وهو من يُرسَلُ معها يحميها ممن يؤذيها ، قال ابنُ خالويه : " البذرقة ليست بعربيةٍ ، وإنَّما هي كلمة فارسية عرَّبتها العرب ، يقال : بعث السلطان بَذْرَقَةً مع القافلة " . والحبل لفظ مشترك ، وأصله - في اللغة : السبب الذي يُوصل به إلى البغية والحاجة ، والحبل : المستطيل من الرمل ، ومنه الحديث : " واللهَ مَا تَرَكَتُ مِنْ حَبْلٍ إلاَّ وَقَفْتُ عَلَيْه ، فَهَلْ لِي مِنْ حَجٍّ " .
؟ والحبل : الرَّسَن ، والحبل : الداهية .
فَلاَ تَعْجَلِي يَا عَزَّ أنْ تتفهمي *** بنُصْحٍ أتَى الوَاشُونَ أمْ بِحُبُولٍ{[5753]}
والحبالة : حبالة الصائد ، وكلها ليس مراداً في الآية إلا الذي بمعنى العَهْد .
والمراد بالحبل - هنا - : القرآن ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم - في الحديث الطويل - : " هو حَبْلُ الله المتين " .
وقال ابن عباس : هو العهد المذكور في قوله : { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } [ البقرة : 40 ] لقوله تعالى : { إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ } [ آل عمران : 112 ] أي : بعهد ، وسُمِّيَ العَهْدُ حبلاً لما تقدم من إزالة الخوف .
وقيل : طاعة الله ، وقيل : هو الإخلاص .
وقيل : الجماعة ؛ لأنه عقبه بقوله : { وَلاَ تَفَرَّقُوا } .
وتحقيقه : أن النازل في البئر لما كان يعتصم بالحبل ، تحرُّزاً من السقوط فيها ، وكان كتاب الله وعهده ودينه وطاعته ، وموافقة جماعة المؤمنين حِرزاً لصاحبه من السقوط في جهنم - جعل ذلك حبلاً لله ، وأمروا بالاعتصام به .
وقوله : { جَمِيعًا } أي : مجتمعين عليه ، فهو حال من الفاعل .
قوله : { وَلاَ تَفَرَّقُوا } قراءة البَزِّيِّ بتشديد التاء وصلاً وقد تقدم توجيهه في البقرة عند قوله " ولا تيمموا{[5754]} " والباقون بتخفيفها على الحذف {[5755]} .
الأول : أنه نَهْي عن الاختلاف في الدين ؛ لأن الحق لا يكون إلا واحداً ، وما عداه جهلٌ وضلال ، قال تعالى : { فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ }
الثاني : أنه نَهْي عن المعاداةِ والمخاصمةِ ؛ فإنهم كانوا في الجاهلية مواظبين على ذلك ، فنهوا عنه .
الثالث : أنه نَهْي عما يوجب الفُرقة ، ويزيل الألفة ، قال صلى الله عليه وسلم " " سَتَفْتَرِقُ أمَّتِي عَلَى نَيِّفٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً الناجِي مِنْهُمْ وَاحِدَةٌ " قيل : ومن هي يا رسول الله ؟ قال : " الجَمَاعَةَ " .
ويروى : " مَا أنَا عَلَيْهِ وَأصْحَابِي " .
واعلم أن النهْيَ عن الاختلاف ، والأمر بالاتفاق ، يدل على أن الحق لا يكون إلا واحداً .
استدلت نفاة القياس{[5756]} بهذه الآية ، فقالوا : الأحكام الشرعية إما أن يقال : إن الله سبحانه - نصب عليها دلائل يقينية ، أو ظنية ، فإن كانت يقينية فلا يكتفى فيها بالقياس الذي يفيد الظن ؛ لأن الدليل لا يكتفى به في موضع اليقين ، وإن كانت ظنيّة أدى الرجوع إليها إلى الاختلاف والنزاع وقد نهى الله عنه بقوله : { وَلاَ تَفَرَّقُوا } [ آل عمران : 103 ] وقوله : { وَلاَ تَنَازَعُواْ } [ الأنفال : 46 ] .
والجواب بأن هذا العموم مخصوص بالأدلة الدالة على العمل بالقياس .
قال القرطبي : وليس في الآية دليل على تحريم الاختلاف في الفروع ؛ فإن ذلك ليس اختلافاً ؛ إذ الاختلاف يتعذر معه الائتلاف والجمع ، وأما حكم مسائل الاجتهاد ، فإن الاختلاف فيها بسبب استخراج الفرائض ودقائق معاني الشرع ، وما زالت الصحابة مختلفين في أحكام الحوادث ، وهم - مع ذلك - متآلفون وقال صلى الله عليه وسلم :
اخْتِلاَفُ أمَّتِي رَحْمَةٌ{[5757]} " وإنما منع الله الاختلاف الذي هو سبب الفساد ، قال صلى الله عليه وسلم : " تَفَرَّقَت اليَهُودُ عَلَى إحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً - أوْ اثنتين وَسَبْعِينَ فِرْقَةً - وَالنَّصَارَى مِثْلَ ذَلِكَ ، وَتَفْتَرِقُ أمَّتِي ثلاثاً وسبعين فرْقَةً{[5758]} " قوله : { وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } .
{ نِعْمَتَ اللَّهِ } مصدر مضاف لفاعله ؛ إذ هو المُنْعِم ، { عَلَيْكُمْ } ، ويجوز أن يكون متعلقاً بنفس { نِعْمَتَ } ؛ لأن هذه المادةَ تتعدى ب " على " قال تعالى : { وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ } [ الأحزاب : 37 ] .
ويجوز أن يكون متعلقاً بمحذوف على أنه حال من " نِعْمَةَ " ، فيتعلق بمحذوف ، أي : مستقرة ، وكائنة عليكم .
قوله : { إِذْ كُنْتُمْ } " إذْ " منصوبة - ب " نِعْمَةَ " ظرفاً لها ويجوز أن يكون متعلِّقاً بالاستقرار الذي تضمنه { عَلَيْكُمْ } إذا قلنا : إن " عَلَيْكُمْ " حال من النعمة ، وأما إذا علقنا " عَلَيْكُمْ " ب " نِعْمَةَ " تعيَّن الوجه الأول .
وجوز الحوفي أن يكون منصوباً ب " اذْكُروا " يعني : مفعولاً به ، لا أنه ظرف له ؛ لفساد المعنى ؛ إذْ " اذْكُرُوا " مستقبل ، و " إذْ " ماضٍ .
{ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ } .
قال محمد بن إسحاق وغيره من أهل الأخبار : كان الأوس والخزرج أخوين لأب وأمٍّ ، فوقعت بينهما عداوةٌ - بسبب قتيل - فتطاولت تلك العداوة والحرب بينهم مائة وعشرين سنة ، إلى أن أطفأ الله تعالى ، ذلك بالإسلام ، وألَّف بينهم برسوله - عليه السلام - وكان سبب ألفتهِمْ أن سويدَ بن الصامت - أخا بني عمرو بن عوف - كان شريفاً ، تُسمِّيه قومه : الكامل ، لجلده ونسبه ، قدم " مكة " حاجًّا أو معتمراً ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بُعِثَ وأمِرَ بالدعوة ، فتصدَّى له حين سمع به ، فدعاه إلى الله وإلى الإسلام ، فقال له سُوَيْدٌ : فلعلَّ الذي معك مثل الذي معي . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وَمَا الَّذِي مَعَكَ ؟ قال : حِكْمَةُ لقمان فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أعْرِضْهَا عَلِيَّ{[5759]} " فعرضها عليه ، فقال : إنَّ هذا الكلام حَسَنٌ معي أفْضَلُ مِنْ هَذَا - قُرْآنٌ أنْزَلَهُ اللهُ عَلَيَّ نُوراً وهُدًى ، فَتَلاَ عليهِ القرآنَ ، وَدَعَاهُ إلَى الإسْلام ، فَلَمْ يَبْعُدْ مِنْهُ ، وقال : إنَّ هَذَا القولَ أحْسَنُ ، ثُمَّ انْصرَفَ إلى المدينةِ ، فَلَمْ يَلْبَثْ أنْ قَتَلَهُ الخَزْرَجُ يَوْمَ بُعَاث ؛ فإن قومه يقولون : قد قتل وهو مسلم ، ثم قدم أبو الجيسر أنس بن رافع معه فتية من بني الأشهل - فيهم إياس بن معاذ - يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج ، فلما سمع بهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أتاهم ، فجلس إليهم ، فقال : هَلْ لَكُمْ إلَى خير مما جِئْتُمْ لَهُ ؟ قالوا : ومَا ذَاكَ ؟ قال : أنَا رَسُولُ اللهِ بَعَثَنِيَ اللهُ إلى العِبَادِ ، أدْعُوهُمْ إلى ألاَّ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً ، وأنْزَلَ عَليَّ الكِتَابَ ، ثُمَّ ذكر لهم الإسلام ، وتلا عليهم القرآن ، فقال إياس بن معاذ وكان غلاماً حدثاً : أي قوم ، هذا والله خير مما جئتم له ، فأخذ أبو الجيسر حَفنَةً من البطحاء ، فضرب بها وجه إياس{[5760]} ، وقال : دَعْنا منك ؛ فلعمري لقد جئنا لغير هذا ، فصمت إياس ، وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم ثم انصرفوا إلى " المدينة " ، فكانت وقعة بعاث بين الأوس والخزرج ، ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك فلما أراد الله - عز وجل - إظْهارَ دينهِ ، وإعزازَ نبيه ، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموسم الذي لقي فيه النفر من الأنصار ، يعرض نفسه على قبائل العرب - كما كان يصنع في كل موسم - فلقي عند العقبة رَهْطاً من الخزرج - أراد الله بهم خيراً - وهم أسعد بن زرارة ، وعوف ابن الحارث - وهو ابن عفراء - ورافع بن مالك العجلاني وقطبة بن عامر بن خريدة ، وعقبة بن عامر ، وجابر بن عبد الله ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مَنْ أنْتُمْ ؟ قالوا : نفر من الخزرج فقال : أمِنْ مَوَالِي يَهُود ؟ قالوا : نعم ، قال أفَلاَ تَجْلُسوا حَتَّى أكلِّمَكُمْ ؟ قالوا : بلى ، فجلسوا معه ، فدعاهم إلى الله ، وعرض عليهم الإسلام ، وتلا عليهم القرآن ، وكان مما صنع الله لهم به في الإسلام أنّ يهود كانوا معهم ببلادهم ، وكانوا أهل كتاب وعِلْم ، وهم كانوا أهل أوثان وشِرْك ، وكانوا - إذا كان بينهم شيء - يقولون : إن نبيًّا الآن مبعوثاً قد أظَلَّ زمانه نتبعه ، ونقتلكم معه قتل عاد وإرمَ ، فلما كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر ، ودعاهم إلى الله قال بعضهم لبعض : يا قوم ، تعلمون - والله - أنه النبي الذي توعَّدَكم به اليهود ، فلا تسبقنكم إليه ، فأجابوه وصدقوه ، وأسلموا ، وقالوا : إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العَدَاوةِ والشر ما بينهم ، وعسى الله أن يجمعهم بك ، وسنقدم عليهم ، وندعوهم إلى أمرك ، فإن يجمعهم الله عليك فلا رَجُلَ أعزُّ منك ، ثم انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعين إلى بلادهم - قد آمنوا - فلما قَدِمُوا " المدينة " ذكروا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوهم إلى الإسلام حتى فَشَا فيهم ، فلم تَبْقَ دار من الأنصار إلا وفيها ذِكْرٌ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى إذا كان العام المقبل وافَى الموسم من الأنصار اثنا عشر رَجُلاً : أسعد بن زرارة ، وعوف ومعاذ - ابنا عفراء ، ورافع بن مالك بن العجلاني ، وذكوان بن عبد القيس ، وعبادة بن الصامت ، ويزيد بن ثعلبة ، وعباس بن عبادة ، وعقبة بن عامر ، وقُطْبَةُ بن عامر - وهؤلاء خزرجيُّون - وأبو الهيثم بن التَّيِّهَانِ ، وعويم بن ساعدة - من الأوس - فلَقَوْه في " العقبة " - وهي العقبة الأولى - فبايعوا رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء ، على ألا يُشْركوا بالله شيئاً ، ولا يسرقوا ولا يزنوا . . إلى آخر الآية ، فإن وفَّيْتُم فلكم الجنة ، وإن غشيتم شيئاً من ذلك ، فَأخِذتم بِحدِّهِ في الدنيا فهو كَفَّارة له ، وإن سَتَرهُ الله عليكم فأمركم إلى الله إن شاء عذبكم ، وإن شاء غفر لكم ، قال : وذلك قبل أن يفرض عليهم الحرب ، قال : فلما انصرف القوم بعث معهم رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف وأمره أن يُقْرئهم القرآن ، ويعلمهم الإسلام ، ويُفقههم في الدين ، فنزل مصعب على أسعد بن زرارة ، ثم إن أسعد بن زرارة خرج بمصعب ، فدخل به حائطاً من حوائط بني ظفر ، فجلسا في الحَائِطِ ، واجتمع إليهما رجال من أسلم ، فقال سعد بن معاذ لأسيد بن حضير : انطلق إلى هذين الرجلين اللذين قد أتيا دَارَنَا - لِيُسَفِّهَا ضعفاءنا - فازجرهما وانْهَهما عن أن يأتيا دارَنا ، فإن أسعد ابن خالتي ، ولولا ذلك لكفيتك ، وكان سعد بن معاذ وأسيد بن حضير سَيِّدَي قومهما من بني عبد الأشهل وهما مشركان ، فأخذ أسيد بن حضير حَرْبَتَهُ ، ثم أقبل إلى مصعب وأسعد - وهما جالسان في الحائط - فلما رآه أسعد بن زرارَةَ قال لمصعب : هذا سيد قومه قد جاءك ، فاصدق الله فيه .
قال مصعب : إن يجلس أكَلِّمْهُ ، فوقف عليهما متشتماً ، فقال : ما جاء بكما إلينا ، تسفِّهان ضعفاءَنا ؟ اعتزلا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة .
فقال مصعب : أو تجلس فتسمع ؟ فإن رضيت أمرا قبلته ، وإن كرهته كفّ عنك ما كرهت .
قال : أنصفت ، ثم ركز حريته وجلس إليهما ، فكلَّمه مصعب بالإسلام ، وقرأ عليه القرآن ، فقالا : والله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن نتكلم في إشراق وجهه وتسهُّله ، ثم قال : ما أحسن هذا وأجمله ، كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين ؟
قال : تغتسل ، وتُطهِّر ثوبك ، ثم تشهد شهادةَ الحق ، ثم تصلي ركعتين .
فقالم واغتسل ، وغسل ثوبه ، وتشهد شهادة الحق ، وصلى ركعتين ، ثم قال لهما : إن ورائي رجلاً إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه ، وسأرسله إليكما الآن ، ثم أخَذَ حَرْبَتَهُ ، وانصرف إلى سعد وقومه ، وهم جلوس في ناديهم - فلما نظر إليه بن معاذ مُقْبِلاً قال : أحلف بالله لقد جاءكم أسَيْدٌ بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم ، فلما وقف على النَّادي قال له سعد : ما فعلت ؟
قال : كلمت الرجلين ، فوالله ما رأيت بهما بأساً ، وقد نهيتهما ، فقالا : تفعل ما أحببت ، وقد حدثت أن من بني حارثة أناساً خرجوا إلى أسعد بن زرارة ، ليقتلوه ، وذلك أنهم عرفوا أنه ابن خالتك ، ليخفروك .
فقام سعد مُغْضَباً مبادراً تخوُّفاً للذي ذُكِرَ له من بني حارثة ، فأخذ الحربة ، ثم قال : والله ما أراك أغنيت شيئاً ، فلما رآهما مطمئنين عرف أن أسيداً إنما أراد أن يَسْمَعَ منهما ، فوقف عليهما متشتماً ، فقال لأسعد بن زرارة : والله لولا ما بيني وبينك من القَرَابة ، ما رمت هذا مني ، أتغشانا في دارنا بما نَكْرَهُ ؟
فقال أسعد بن زرارة لمصعب بن عمير : أي مصعب ، جاءك - والله - سيد مَنْ وراءَه من قومه ، إن يتبعك لم يتخلف عنك منهم أحد .
فقال له مصعب : أفتقعد وتسمع ؟ فإن رضيت أمراً ، ورغبت فيه ، قبلته ، وإن كرهته ، عَزَلْنَا عنك ما تكره .
قال سعد : أنْصَفْتَ ، ثم ركز الحَرْبَةَ ، فجلس ، فعرض عليه الإسلام ، وقرأ عليه القرآن .
قالا : فعرفنا والله في وجهه الإسلام قبل أن يَتَكَلَّمَ به ، ثم قال : كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ودخلتم في هذا الدين ؟
قالا : تغتسل وتطهر ثوبك ، ثم تشهد شهادة الحق ، ثم تصلي ركعتين ، فقام واغتسل وطهر ثوبه وتشهد شهادة الحق وركع ركعتين ، ثم أخذ حربته ، فأقبل عامداً إلى نادي قومه ومعه أسيد بن حضير .
فلما رآه قومه مُقْبِلاً ، قالوا : نحلف بالله لقد رَجَعَ سعد إليكم ، بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم .
فلما وقف عليهم قال : يا بني عبد الأشهل ، كيف تعلمون أمري فيكم ؟
قالوا : سيدنا وأفضلنا رأياً ، وأيمننا نقيبة .
قال : فإن كلام رجالكم ونسائكم عليَّ حرامٌ ، حتى تؤمنوا بالله ورسوله .
قال : فما أمسى في دار عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلم أو مسلمة ، ورجع أسعد بن زرارة ومصعب إلى منزل أسعد بن زرارة ، فأقام عنده يدعو الناس إلى الإسلام ، حتى لم تَبْقَ دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون ، إلا ما كان من دار بني أمية بن زيد ، وخطمة ، ووائل ، وواقف ؛ وذلك أنه كان فيهم أبو قيس بن الأسلت الشاعر ، وكانوا يسمعونه ويطيعونه ، فوقف بهم عن الإسلام ، حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى " المدينة " ومضى بدر وأحد والخندق . قال : ثم إن مصعب بن عمير رجع إلى " مكة " وخرج معه من الأنصار سبعون رجلاً مع حُجَّاج قومهم من أهل الشرك ، حتى قدموا " مكة " ، فواعدوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم العقبة من أوسط أيام التشريق ، وهي بيعة العقبة الثانية .
قال كَعْبُ بْنُ مَالِك : فلما فرغنا من الحج وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر أخبرناه ، وكنا نكتم على مَنْ معنا من المشركين أمرنا - وكلمناه ، وقلنا له ، يا أبا جابر إنك سيد من ساداتنا ، شريف من أشرافنا ، وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حَطَباً للنار غداً ، ودعوناه إلى الإسلام ، فأسلم ، وأخبرناه بميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهد معنا العَقَبَة - وكان نقيباً فيها - فَبِتْنَا تلك الليلة مع قومنا في رِحَالنا حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم نَتَسَلَّلُ مُسْتَخْفِين تَسَلُّلَ القَطَا ، حتى إذا اجتمعنا في الشِّعْب عند " العقبة " ، ونحن سبعون رجلاً ومعنا امرأتان من نسائنا ، نسيبة بنت كعب ، أم عمارة إحدى نساء بني النجَّار ، وأسماء بنت عمرو بن عَدِيِّ ، أم منيع ، إحدى نساء بني سلمة ، فاجتمعنا في الشِّعْب ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءنا ومعه عمه العَبَّاسُ بن عبد المطلب ، وهو يومئذ على دين قومه ، إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ، ويتوثّق له ، فلما جلسنا كان أول من تكلم العباس بن عبد المطلب .
فقال : يا معشر الخزرج - وكانت العرب إنما يسمون هذا الحي من أنصار خزرجها وأوسها - إن محمداً منا حيث قد علمتم ، وقد منعناه من قومنا ، ممن هو على مثل رأينا فيه ، وهو في عِزٍّ من قومه ، ومَنَعَةٍ في بلده ، وإنه قد أبَى إلا الانحياز إليكم ، واللحوق بكم فإن كنتم ترون أنكم وَافُونَ له بما دَعوْتُمُوهُ إليهِ ، ومَانِعُوهُ ممن خالفه ، فأنتم وما تَحَمَّلْتم من ذلك ، وإن كنتم ترون أنكم مُسْلِموه ، وخاذلوه - بعد الخروج إليكم - فمن الآن فَدَعُوهُ ؛ فإنه في عِزٍّ ومَنَعةٍ .
قال : فقلنا : قد سمعنا ما قلتَ ، فَتَكَلَّمْ يا رسولَ الله ، وخُذْ لنفسك ولربك ما شِئْتَ .
قال : فتكلَّم رسولُ الله ، فتلا القرآن ودعانا إلى الله - عز وجل - ورَغَّبَ في الإسلام ، ثم قال : أبايِعُكُمْ عَلَى أنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ نِسَاءَكُمْ وَآبْنَاءَكُمْ- .
فأخذ البراء بن مَعْرُورٍ بيده ، ثم قال : والذي بعثك بالحق نبيًّا ، لنمنعنَّك مما نمنع منه أَزْرَنا ، فبايِعْنا يا رسول الله ، فنحن أهل الحرب ، وأهل الحلقة ، ورثناها كابراً عن كابرٍ ، قال : فاعترض القول - والبراء يُكَلِّم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم - أبو الهيثم بن التَّيْهان .
فقال : يا رسول الله إن بيننا وبين الناس حبالاً - يعني العهود - وإنا قاطعوها ، فهل عسيت إن فعلنا ذلك ، ثم أظهرك الله ، أن ترجع إلى قومك وتدعنا ؟
فتبسَّم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : " لا ، بل الأبدَ الأبدَ ، الدَّمَ الدَّمَ ، الهدمَ الهدمَ ، أنْتُمْ مِنِّي وَأنَا مِنْكُمْ ، أحَارِبُ مَنْ حَارَبْتُمُ ، وأسَالِمُ مَنْ سَالَمْتُمُ " ثم قال صلى الله عليه وسلم : " أخْرِجُوا إليَّ منكم اثني عَشَرَ نَقِيْباً ، كُفلاء على قومهم بما فيهم ككفالة الحَوَاريينَ لِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ، فأخرجوا تسعة من الخزرج ، وثلاثة من الأوس .
قال عاصم بن عمرو بن قتادة : إن القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاريّ : يا معشرَ الخزرج ، فهل تدرون عَلاَمَ تبايعون هذا الرجل إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود ، فإن كنتم تَرَونَ أنكم إذا أنْهِكَتْ أموالكم مصيبةً ، وأشرافكم قتلى أسلمتموه فمن الآن ، فهو والله خِزْيٌ في الدنيا والآخرةِ ، وإن كنتم تَرَوْنَ أنكم وافون له بما دَعوتُمُوه إليه على تهلكة الأموال ، وقَتْلِ الأشْراف فخُذوه ، فهو - والله - خير الدنيا والآخرة .
قالوا : فإنا نأخذه على مصيبة الأموال ، وَقَتْل الأشراف ، فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وَفَّيْنَا ؟
قالوا : ابْسُطْ يدك ، فبسط يده ، فبايعوه ، وأول مَنْ ضَرَبَ على يده : البَرَاءُ بن معرور ، ثم بايع القومُ .
قال : فلما بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صرخ الشَّيْطان من أعلى رأس العَقَبة بأنفذ صوت ما سمعته قط : يا أهل الجباجب ، هل لكم في مُذَمَّم والصُّبَاة معه ، قد اجتمعوا على حَرْبكم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هَذَا عَدُوُّ اللهِ ، أزَبُّ العَقَبَة ، اسمعْ أيْ عَدُوَّ اللهِ - أمَا وَاللهِ لأفْرُغَنَّ لَكَ . ثم قال صلى الله عليه وسلم : ارْفَضُّوا إلَى رِحَالِكُمْ .
فقال العباس بن عبادة بن نَضْلة : والذي بعثك بالحق ، لئن شئتَ لنميلن غداً على أهل مِنًى بأسيافنا ، فقال صلى الله عليه وسلم : " لَمْ نُؤْمَرْ بذلك ، وَلِكِنْ ارْجِعُوا إلَى رِحَالِكُمْ " فرجعنا إلى مضاجعنا ، فنمنا عليها ، حتى أصبحنا ، فلما أصبحنا ، غدت علينا جُلَّةُ قريش ، حتى جاءونا في منازلنا ، فقالوا : يا معشرَ الخزرج ، بلغنا أنكم جئتم صاحبنا هذا ، تستخرجونه من بين أظْهُرنا ، وتبايعونه على حَرْبِنَا ، وإنه - والله - ما حي من العرب أبغض إلينا ، أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم .
قال : فانبعث مَنْ هناك من مشركي قَوْمِنَا ، يحلفون لهم بالله ، ما كان من هذا شيء وما علمناه - وصَدَقُوا ، لم يعلموا - وبعضنا ينظر إلى بَعْضٍ ، وقام القوم ، وفيهم الحارث بن هشام بن المغيرة المخزوميّ - وعليه نَعْلاَن جديدان - فقُلت له كلمة - كأني أريد أن أشرك القوم بها فيما قالوا - يا أبا جابر ، أما تستطيع أن تتخذ - وأنت سيد من سادتنا - مثل نَعْلَيْ هذا الفتى من قُرَيش ؟ قال فسمعها الحارثُ ، فخلعهما من رِجْلَيْه ، ثم رمى بهما إليَّ ، وقال : والله لتنتعلنّهما .
قال : فقال أبو جابر : مَهْ والله لقد أحفظت الفتى ، فاردد إليه نعليه ، قال : والله لا أردُّهما ، قال : والله يا أبا صالحٍ ، لئن صَدَق الفال لأسلبنَّه .
قال : ثم انصرف الأنصار إلى " المدينة " - وقد شدوا العَقْد - فلما قدموها أظهر الله الإسلام بهم وبلغ ذلك قريشاً ، فآذوا أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : إن الله قد جعل لكم إخواناً وداراً تأمنون فيها ، فأمرهم بالهجرة إلى " المدينة " ، واللحوق بإخوانهم من الأنصار ، فأول من هاجر إلى " المدينة " : أبو سلمة بن عبد الأسد المخزوميّ ، ثم عامر بن ربيعة ، ثُم عبد الله بن جحش ، ثم تابع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أرْسَالاً إلى " المدينة " ، فجمع الله أهْلَ " المدينة " - أوْسَهَا وخَزْرَجَها - بالإسلام ، وأصلح الله ذات بينهم بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا معنى قوله تعالى : { وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً } [ آل عمران : 103 ] يا معشر الأنصار قبل الإسلام { فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ } بالإسلام{[5761]} { فَأَصْبَحْتُمْ } أي : فصرتم .
و " أصبح " من أخوات " كان " فإذا كانت ناقصة ، كانت مثل " كان " في رفع الاسم ونَصْب الخبر ، وإذا كانت تامة رفعت فاعلاً ، واستغنت به ، فإن وجد منصوب بعدها فهي حال ، وتكون تامة إذا كانت بمعنى دخل في الصباح ، تقول : أصبح زيد ، أي دخل في الصباح ، ومثلها - في ذلك - " أمسى " قال تعالى { فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ } [ الروم : 17 ] وقال : { وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ } [ الصافات : 137 ]
وفي أمثالهم : " إذا سمعت بسرى القين فاعلم أنه مصبح " ؛ لأن القين - وهو الحداد - ربما قلَّت صناعته في أحياء العرب ، فيقول : أنا غداً مسافر ، فيأتيه الناس بحوائجهم ، ويقيم ، ويترك السفر ، فأخرجوه مثلاً لمن يقول قولاً ويخالفه . والمعنى : فاعلم أنه مقيم في الصباح . ويكون بمعنى " صار " عملاً ومعنًى . كقوله : [ الخفيف ]
فَأصْبَحُوا كَأنَّهُمْ وَرَقٌ جَفْ *** فَ فَألْوَتْ بِهِ الصَّبَا وَالدَّبُورُ{[5762]}
و " إخواناً " خبرها ، وجوَّزوا فيها - هنا - أن تكون على بابها - من دلالتها على اتصاف الموصوف بالصفة في وقت الصباح ، وتكون بمعنى : " صار " - وأن تكون تامة ، أي : دخلتم في الصباح ، فإذا كانت ناقصة على بابها - فالأظهر أن يكون " إخْناناً " خبرها ، و " بنعمته " متعلق به لما فيه من معنى الفعل ، أي : تآخيتم بنعمته ، والباء للسببية .
وجوَّز أبو حيان أن تتعلق ب " أصْبَحْتم " ، وقد عُرف ما فيه من خلاف . وجوّز غيره أن تتعلق بمحذوف على أنه حال من فاعل " أصْبَحْتُمْ " ، أي : فأصبحتم إخواناً ملتبسين بنعمته ، أو حال من " إخواناً " ؛ لأنه في الأصل - صفة له .
وجوَّزوا أن تكون " بِنِعْمَتِهِ " هو الخبر ، و " إخواناً " حال والباء بمعنى الظرفية ، وإذا كانت بمعنى : " صار " جرى فيها ما تقدم من جميع هذه الأوجه ، وإذا كانت تامة ، فإخواناً حال ، و " بِنِعْمَتِهِ " فيه ما تقدم من الأوجه خلا الخبرية .
قال ابن عطية : " فأصْبَحْتُمْ " عبارة عن الاستمرار - وإن كانت اللفظة مخصوصة بوقت - وإنما خُصَّت هذه اللفظة بهذا المعنى من حيث مبدأ النهار ، وفيه مبدأ الأعمال ، فالحال التي يحبها المرء من نفسه فيها هي التي يستمر عليها يومَه في الأغلب .
ومنه قول الربيع بن ضَبع : [ المنسرح ]
أصْبَحْتُ لاَ أحْمِلُ السِّلاَحَ وَلاَ *** أمْلِكُ رَأسَ البَعِيرِ إنْ نَفَرَا{[5763]}
قال أبو حيان{[5764]} : وهذا الذي ذكره - من أن " أصبح " للاستمرار وعلله بما ذكره - لم أر أحداً من النحويين ذهب إليه ، إنما ذكروا أنها تُسْتَعْمَل بالوجهين اللذين ذكرناهما .
قال شهاب الدين{[5765]} : وهذا - الذي ذكره ابن عطية - معنى حَسَنٌ ، وإذا لم يَنُصّ عليه النحويون لا يُدْفَع ؛ لأن النحاة - غالباً - إنما يتحدثون بما يتعلق بالألفاظ ، وأما المعاني المفهومة من فَحْوى الكلام ، فلا حاجة إلى الكلام عليها غالباً .
والإخوان : جمع أخ ، وإخوة اسم جمع عند سيبويه ، وعند غيره هي جمع .
وقال بعضهم : إن الأخ في النسب - يُجْمَع على : " إخوة " ، وفي الدين يُجْمَع على : " إخوان " ، هذا أغلب استعمالهم ، وقال تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ }
[ الحجرات : 10 ] ونفس هذه الآية تَرُدُّ ما قاله ؛ لأن المراد - هنا - ليس أخُوَّة النسب إنما المراد أخوة الدين والصداقة .
قال أبو حاتم : قال أهل البصرة : الإخوة في النسب ، والإخوان في الصداقة ، قال : وهذا غلط ؛ يقال للأصدقاء والأنسباء : إخوة ، وإخوان ، قال تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } [ الحجرات : 10 ] ولم يَعْنِ النسب ، وقال تعالى : { أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ } [ النور : 61 ] وهذا في النسب .
وهذا الرد من أبي حاتم إنما يتّجِه على هذا النقل المُطْلق ، ولا يرد على النقل الأول ؛ لأنهم قيدوه بالأغلب في الاستعمال .
قال الزجاج : أصل الأخ - في اللغة - من التوخي - وهو الطلب ؛ فإن الأخ مقصده مقصد أخيه ، والصديق مأخوذ من أن يصدق كل واحد من الصديقين ما في قلبه ، ولا يُخْفِي عنه شيئاً .
قوله : { وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ } شَفَا الشيء : طرفه وحرفه ، وهو مقصور من ذوات الواو ، ويُثَنَّى بالواو نحو : شَفَوَيْن ويكتب بالألف ، ويُجْمَع على أشفاء ، ويُسْتَعْمَل مضافاً إلى أعلى الشيء وإلى أسفله ، فمن الأول : { شَفَا جُرُفٍ هَارٍ } [ التوبة : 109 ] ومن الثاني : هذه الآية .
وأشْفَى على كذا : قاربه ، ومنه : أشفى المريض على الموت . قال يعقوب : يقال للرجل عند موته ، وللقمر عند محاقه ، وللشمس عند غروبها : ما بقي منه ، أو منها ، إلا شَفاً ، أي : إلا قليل . وقال بعضهم : يقال لما بين الليل والنهار ، وعند غروب الشمس إذا غاب بعضها : شَفاً .
أدْرَكْتُهُ بِلاَ شَفاً ، أوْ بِشَفَا *** وَالشَّمْسُ قَدْ كَادَتْ تكونُ دَنفَا{[5766]}
قوله بلا بشفا : أي : غابت الشمسُ ، وقوله : أو بشفا ، أي : بقيت منه بقية .
قال الراغب : والشفاء من المرض : موافاة شفا السلامة ، وصار اسماً للبُرْء والشفاء .
قال البخاري : قال النحاس : " الأصل في شفا - شَفَوٌ ، ولهذا يُكْتَب بالألف ، ولا يمال " .
وقال الأخفش : " لما لم تَجُز فيه الإمالة عُرِفَ أنه من الواو " ؛ لأن الإمالةَ من الياء .
قال المهدويّ : " وهذا تمثيل يُراد به خروجُهم من الكفر إلى الإيمان " .
قوله : { فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا } في عَود هذا الضمير وجوه :
أحدها : أنه عائد على " حُفْرَةٍ " .
والثاني : أنه عائد على " النَّار .
قال الطبريّ : إن بعض الناس يُعيده على الشفا ، وأنث من حيث كان الشفا مضافاً إلى مؤنث ، كما قال جرير : [ الوافر ]
أرَى مَرَّ السِّنِينَ أخَذْنَ مِنِّي *** كَمَا أخَذَ السِّرَارُ مِنَ الْهِلاَلِ{[5767]}
قال ابن عطية : " وليس الأمر كما ذكروا ؛ لأنه لا يُحتاج - في الآية - إلى مثل هذه الصناعة ، إلا لو لم يجد للضمير مُعَاداً إلا الشفا ، أما ومعنا لفظ مؤنث يعود الضميرُ عليه ، ويُعَضِّده المعنى المتكلَّم فيه ، فلا يحتاج إلى تلك الصناعة " .
قال أبو حيان{[5768]} : " وأقول : لا يحسن عَوْدُه إلا على الشفا ؛ لأن كينونتهم على الشفا هو أحد جزأي الإسناد ، فالضمير لا يعود إلا عليه ، وأما ذِكْرُ الحفرة ، فإنما جاءت على سبيل الإضافة إليها ، ألا ترى أنك إذا قلت : كان زَيْدٌ غلامَ جَعْفَر ، لم يكن جعفر محدِّثاً عنه ، وليس أحد جُزْأي الإسناد ، وكذا لو قلتَ : زيد ضرب غلامَ هند ، لم تُحَدِّث عن هند بشيء ، وإنما ذكرت جعفراً وهنداً ؛ تخصيصاً للمحدَّث عنه ، وأما ذكر : " النَّارِ " فإنما ذُكِرَ لتخصيص الحُفْرة ، وليست - أيضاً - أحد جزأي الإسناد ، وليست أيضاً محدَّثاً عنها ، فالإنقاذ من الشفا أبلغ من الإنقاذ من الحفرة من النار ؛ لأن الإنقاذ منه يستلزم من الحُفْرة ومن النار ، والإنقاذ منهما لا يستلزم الإنقاذ من الشفا ، فعَوْدُه على الشفا هو الظاهر من حيث اللفظ ومن حيث المعنى " .
قال الزجَّاج : " وقوله : " مِنْهَا " الكناية راجعة إلى النار ، لا إلى الشَّفَا ؛ لأنَّ القصد الإنجاء من النار لا من شفا الحفرة " .
وقال غيره : " الضمير عائد إلى الحُفْرَةِ ؛ ولما أنقذهم من الحُفْرَةِ فقد أنقذهم من شَفَا الحفرة ؛ لأن شفاها منها " .
قال الواحديّ : على أنه يجوز أن يذكر المضاف إليه ، ثم تعود الكناية إلى المضاف إليه - دون المضاف ، كقول جرير : [ الوافر ]
أرَى مَرَّ السِّنِينَ أخَذْنَ مِنِّي *** كَمَا أخَذَ السِّرَارُ مِنَ الْهِلاَلِ{[5769]}
طُولُ اللَّيَالِي أسْرَعَتْ فِي نَقْضِي *** طَوَيْنَ طُولِي وَطَوَيْنَ عَرضِي{[5770]}
قال : وهذا إذا كان المضاف من جنس المضاف إليه ، فإن مَرَّ السنين هو المسنون ، وكذلك شفا الحُفْرة من الحفرة ، فذكَّر الشَّفَا ، وعادت الكناية إلى الحفرة .
وهذان القولان نَصٌّ في رَدِّ ما قاله أبو حيان ، إلا أن المعنى الذي ذكره أولَى ؛ لأنه إذا أنقذهم من طَرف الحفرة فهو أبلغ من إنقاذهم من الحفرة ، وما ذكره - أيضاً - من الصناعة واضح .
قال بعضهم : " شَفَا الحُفْرة ، وشفتها : طرفها ، فجاز أن يخبر عنها بالتذكير والتأنيث " .
والإنقاذ : التخليص والتنحِية .
قال الأزهَريُّ : " يقال : أنقذته ، ونقذته ، واستنقذته ، وتنقَّذْتُه بمعنًى ويقال : فرس نقيذ ، إذا كان مأخوذاً من قوم آخرين ؛ لأنه استُنْقِذَ منهم " .
والحفرة : فُعْلَة بمعنى : مفعولة ، كغُرْفة بمعنى : مغروفة .
قيل معناه : إنكم كنتم مُشْرِفين على جهنمَ بكُفْركم ؛ لأن جهنم مشبهة بالحُفْرة التي فيها النار ، فجعل استحقاقهم النار بكفرهم ، كالإشراف منهم على النار ، والمصير منهم إلى حَرْفها ، فبيَّن - تعالى - أنه أنقذهم من هذه الحُفرة ، بعد أن قربوا من الوقوع فيها .
قالت المعتزلة : ومعنى ذلك أن الله - تعالى - لطف بهم بالرسول صلى الله عليه وسلم وسائر ألطافه حتى آمنوا .
وقال أهل السنة : جميع الألطاف مشترك بين المؤمن والكافر ، فلو كان فاعل الإيمان وموجده هو العبد لكان العبد هو الذي أنقذ نفسه من النار ، والله - تعالى - حكم بأنه هو الذي أنقذهم من النار ، فدل هذا على أنه خالق أفعال العباد .
قوله تعالى : { كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ } نعت لمصدر محذوف ، أو حال من ضميره ، أي : يبين الله لكم تَبْييناً مثل تبيينه لكم الآيات الواضحة ، لكي تهتدوا بها .
قال الجبائي : " الآية تدل على أنه - تعالى - يُريد منهم الاهتداء " .
قال الواحدي : إن المعنى : لتكونوا على رَجاء هدايته . وهذا فيه ضَعْفٌ ؛ لأن على هذا التقدير يلزم أن يريد الله منهم ذلك الرجاء ، وعلى مذهبنا قد لا يريده .
وأجاب غيره بأن كلمة " لَعَلَّ " للترجي ، والمعنى : أنا فعلنا فعلاً يشبه فعل من يترجى ذلك .