التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{وَٱعۡتَصِمُواْ بِحَبۡلِ ٱللَّهِ جَمِيعٗا وَلَا تَفَرَّقُواْۚ وَٱذۡكُرُواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ كُنتُمۡ أَعۡدَآءٗ فَأَلَّفَ بَيۡنَ قُلُوبِكُمۡ فَأَصۡبَحۡتُم بِنِعۡمَتِهِۦٓ إِخۡوَٰنٗا وَكُنتُمۡ عَلَىٰ شَفَا حُفۡرَةٖ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنۡهَاۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمۡ ءَايَٰتِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ} (103)

قوله : ( واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ) اعتصموا من العصمة ، وهي المنع . عصمه الطعام أي منعه من الجوع . والعصمة أيضا تعني الحفظ . اعتصم بالله أي امتنع بلطفه من المعصية . واستعصم بكذا إذا تقوى وامتنع{[554]} .

الله جل جلاله يأمر عباده المسلمين أن يتعصموا ، أي يتمسكوا بحبله ، والحبل في اللغة فهو السبب الذي يوصل به إلى البغية والحاجة ؛ ولذلك سمي الأمان حبلا ؛ لأنه سبب يوصل إلى زوال الخوف ، والنجاة من الجزع والذعر .

والمراد بحبل الله في الآية العهد . وقيل : الجماعة . وذهب آخرون إلى أنه القرآن وهو عندي الأظهر والأقوى . لما يعزز ذلك من خبر عن علي مرفوعا في صفة القرآن قال : " هو حبل الله المتين وصراطه المستقيم " وورد في ذلك حديث خاص بهذا المعنى عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض " .

وفي حديث آخر عن عبد الله رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " إن هذا القرآن هو حبل الله المتين ، وهو النور المبين ، وهو الشفاء النافع ، عصمة لمن تمسك به ، ونجاة لمن اتبعه " {[555]} .

قوله : ( ولا تفرقوا ) ذلك نهي من الله لمسلمين عن التفرق ، وهو التبعثر والشقاق والاختلاف فيما بينهم في الدين . وليس المراد الاختلاف في الأقوال والآراء التفصيلية لأحكام الشريعة ، فذلك مرغوب لا بأس فيه ، ولكن المراد اختلاف القلوب تبعا لاختلاف الأهواء الذاتية والمصالح الشخصية بما يفضي إلى زوال الألفة والاجتماع بين المسلمين وما يوقع بينهم العداوة والبغضاء والمشاحنة وإثارة الفتن والحروب .

إن قول الله : ( ولا تفرقوا ) يظل نداء مستديما وقائما يهتف بالمسلمين طوال الدهر أن لا تتفرق كلمتهم ، وأن لا تتبعثر قلوبهم ، وأن لا تتشتت جماعتهم ، وأن يحذروا دائما من دعاة السوء والمكر والتخريب من الأعداء الذين يتربصون بهم الدوائر ليوقعوا بينهم الضغائن والفتن فتضعف وحدتهم ويتمزق شملهم ؛ ليسهل على المجرمين والطغاة الطامعين من استعماريين وصليبيين ووثنيين وملحدين وصهيونيين- افتراسهم والاستحواذ عليهم . لا جرم أن التفرق داء وبيل ومدمر يوهن المسلمين ويودي بهم إلى التفكك والانهيار والسقوط في براثن الشياطين من شرار البشر ، إنه لا مناص للمسلمين إذ ابتغوا لأنفسهم العزة والمنعة والسلطان وتحصيل السعادة في الدارين- من الاجتماع في وحدة حقيقة واحدة . وحدة متماسكة متينة تجتمع فيها قلوبهم وأهواؤهم حول حقيقة واحدة كبرى ، وذلكم هو الإسلام ، دون غيره من الأديان والملل أو العقائد والفلسفات والمبادئ المختلفة .

وفي التحذير من الافتراق والاختلاف روي عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة . وإن أمتي ستفترق على اثنين وسبعين فرقة كلهم في النار إلا واحدة " فقيل : يا رسول الله وما هذه الواحدة ؟ قال : فقبض يده وقال : " الجماعة واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا " .

قوله : ( واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمة إخوانا ) أي اذكروا أيها المؤمنون نعمة الله عليكم التي أنعم بها عليكم حين كنتم مشركين إذ يقتل بعضكم بعضا ويخاصم الواحد منكم الآخر لا يحفزه أو يثيره إل مثل ذلك غير الحماقة الطاغية ، والهوى الجامح الضال .

لقد كنتم على هذه الحال من عصبية الجاهلية برعونتها ومفاسدهاه وحماقاتها حتى قيض الله لكم هذا النبي الكريم للناس هاديا وبشيرا . وقيض لكم الإسلام ليكون لكم فيه الخير والسلامة والنجاة من كل العيوب والأوضار والشرور ، ( فأصبحتم ) ( صرتم ) بذلك إخوانا في عقيدة الإسلام متحابين متآلفين متحدين بفعل هذا الدين الذي فيه سر نجاتكم وفلاحكم ، والذي حوى من القيم والمعاني ما يغسل القلوب من الأدران وأوشاب الدنيا " ، ويغسل الأذهان من شبهات التفكير الضال ؛ لينقلب الإنسان إلى كائن جديد مميز ومفضال يفيض بالعطاء والخير . كائن سليم من الأمراض والعقد والشذوذ .

قوله : ( وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها ) شفا الشيء ، أي حرفه . وهو اسم مقصور . مثل شفا البئر . أي حده وحرفه ، وشفيره أشفى على الشيء ، إذا أشرف عليه كأنه بلغ شفاه أي حرفه ، ومنه : أشفى المريض على الموت{[556]} .

والمقصود أن هؤلاء المؤمنين كانوا قبل إسلامهم على طرف جهنم . وذلك بكفرهم وجاهليتهم الضالة حتى كادوا يكبكبون فيها لولا أن منّ الله عليهم بالإسلام فأنقذهم من النار . وكذلك تكون الحال لكل واحد من الناس أو أمة من الأمم فإنها قائمة موقوفة على شفير جهنم حتى لتوشك أن تهوي فيها إلا أن تفيء إلى كلمة الله . الكلمة الصادقة الأمينة- كلمة الإسلام العظيم . وفي ذلك ما ينتشل الإنسانية من رجس المفسدين ويفضي بها إلى النجاة والسعادة .

قوله : ( كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون ) الكاف في اسم الإشارة في محل نصب ، نائب مفعول مطلق أو في محل نصب على الحال . والمعنى أنه مثل ذلك البيان البليغ المذكور الذي عرفكم فيه ربكم كيد الكائدين وتربصهم بكم ، وعرفكم مواقع نعمه وصنائعه لديكم فإنه يبين لكم ( آياته ) أي دلائله وحججه الساطعة ( لعلكم تهتدون ) أي لتهتدوا إلى سبيل الرشاد فلا تضلوا أو تتعثروا ؛ لأنكم أصبحتم بذلك على جادة الصواب{[557]} .


[554]:-مختار الصحاح ص 437.
[555]:- تفسير ابن كثير جـ 1 ص 388 وتفسير القرطبي جـ 4 ص 21.
[556]:- تفسير الرازي جـ 8 ص 180 وتفسير القرطبي جـ 4 ص 165.
[557]:- تفسير الرازي جـ 8 ص 180 والكشاف جـ 1 ض 452.