بحر العلوم لعلي بن يحيى السمرقندي - السمرقندي  
{وَٱعۡتَصِمُواْ بِحَبۡلِ ٱللَّهِ جَمِيعٗا وَلَا تَفَرَّقُواْۚ وَٱذۡكُرُواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ كُنتُمۡ أَعۡدَآءٗ فَأَلَّفَ بَيۡنَ قُلُوبِكُمۡ فَأَصۡبَحۡتُم بِنِعۡمَتِهِۦٓ إِخۡوَٰنٗا وَكُنتُمۡ عَلَىٰ شَفَا حُفۡرَةٖ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنۡهَاۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمۡ ءَايَٰتِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ} (103)

{ واعتصموا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً } يقول : تمسَّكوا بدين الله وبالقرآن . ويقال : تمسكوا بسبيل السنة والهدى ، { وَلاَ تَفَرَّقُواْ } . يقول : ولا تختلفوا في الدين ، كاختلاف اليهود والنصارى . ويقال : لا تختلفوا فيما بينكم بالعداوة والبغضاء ويقال { واعتصموا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً } يعني : اطلبوا النصرة من الله لا من القبائل والعشيرة . ويقال : { واعتصموا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً } ، يعني ما اشتبه عليكم ، فردوه إلى كتاب الله كقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِى الأمر مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ في شيء فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر ذلك خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } [ النساء : 59 ] وقال بعض الحكماء : إن مثل من في الدنيا ، كمثل من وقع في بئر ، فيها من كل نوع من الآفات ، فلا يمكنه أن يخرج منها والنجاة من آفاتها إلا بحبل وثيق ، فكذلك الدنيا دار محنة ، وفيها كل نوع من الآفات ، فلا سبيل إلى النجاة منها إلا بالتمسك بحبل وثيق ، وهو كتاب الله تعالى .

ثم ذكَّرهُم نعمته فقال تعالى : { اذكروا } نعمتي واحفظوا { نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ } الإسلام { إِذْ كُنتُم أَعْدَاء } في الجاهلية { فَأَلَّفَ } الله { بَيْنَ قُلُوبِكُمْ } يعني جمع بين قلوبكم بالإسلام تودُّداً { فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً } يقول : فصرتم بنعمة الإسلام { إِخْوَانًا } في الدين ، وكل ما ذكر في القرآن أصبحتم ، معناه صِرْتم ، كقوله : { أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُكم غَوْرًا }[ الملك : 30 ] أي صار ماؤكم غوراً ، وهذه الآية نزلت في شأن الأوس والخزرج ، كان بينهم قتال قبل الإسلام بأربعين عاماً ، حتى كادوا أن يتفانوا ، فلما بُعث النبيّ صلى الله عليه وسلم بمكة آمن به الأوس والخزرج ، وهم بالمدينة ، ثم خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ، قبل أن يهاجر منهم سبعون رجلاً ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومعه عمه العباس حتى أتى إلى العقبة إلى سبعين رجلاً من الأنصار فعاهدوه ثم رجعوا إلى المدينة ، وهاجر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم إليهم بعد الحولين ، فوقعت بين الأوس والخزرج أُلْفَةٌ ، وزالت عنهم العداوة التي كانت بينهم في الجاهلية بالإسلام ، وهذا كما ذكر في آية أخرى :

{ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا في الأرض جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ولكن الله أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [ الأنفال : 63 ] .

وروي عن جابر بن عبد الله أن رجلين من الأنصار : أحدهما من الأوس ، والآخر من الخزرج ، تفاخرا فيما بينهما ، واقتتلا ، فاستعان كل واحد منهما بقومه ، فاجتمعت الأوس والخزرج ، وأخذوا السلاح ، وخرجوا للحرب ، فبلغ الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخرج إليهم في ثلاثين من المهاجرين ، وهو راكب على حمار له قال جابر : فما كان من طالع يومئذ أكرم إلينا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ طلع علينا ، فأومأ إلينا بيده ، فكففنا ، ووقف بيننا على حمار له فقال : { مّسْتَقِيمٍ يا أيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ } إلى قوله : { واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُم أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ } . إلى قوله : { عَذَابٌ عظِيمٌ } فَأَلْقوا السلاح وأطفؤوا الحرب التي كانت بينهم ، وعانق بعضهم بعضاً يبكون ، فما رأيت الناس أكثر باكياً من يومئذ ، فلم يكن في الأرض شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية .

ثم قال تعالى : { وَكُنتُمْ على شَفَا حُفْرَةٍ مّنَ النار } قال القتبي : أشفى على كذا إذا أشرف عليه { شَفَا حُفْرَةٍ } ، أي حرف حفرة ، ومعناه وكنتم في الجاهلية على هلاك بالشرك من مات في الجاهلية كان في النار { فَأَنقَذَكُمْ مّنْهَا } بعدما كنتم على حرف من النار { كَذَلِكَ يُبَيّنُ الله لَكُمْ آياته } يعني علاماته حيث كنتم أعداء في الجاهلية إخواناً في الإسلام { لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } أي لكي تهتدوا من الضلالة ، وتعرفوا علامته بهذه النعمة