غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَٱعۡتَصِمُواْ بِحَبۡلِ ٱللَّهِ جَمِيعٗا وَلَا تَفَرَّقُواْۚ وَٱذۡكُرُواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ كُنتُمۡ أَعۡدَآءٗ فَأَلَّفَ بَيۡنَ قُلُوبِكُمۡ فَأَصۡبَحۡتُم بِنِعۡمَتِهِۦٓ إِخۡوَٰنٗا وَكُنتُمۡ عَلَىٰ شَفَا حُفۡرَةٖ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنۡهَاۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمۡ ءَايَٰتِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ} (103)

102

ثم إنه تعالى أمرهم بما هو كالأصل لجميع الخيرات وإصلاح المعاش والمعاد وهو الاجتماع على التمسك بدين الله واتفاق الآراء على إعلاء كلمته فقال : { واعتصموا بحبل الله جميعاً } حال كونهم مجموعين . وقولهم : اعتصمت بحبله يجوز أن يكون تمثيلاً لاستظهاره به ووثوقه بعنايته باستمساك المتدلي من مكان مرتفع بحبل وثيق يأمن انقطاعه ، لأن وجه الشبه وصف غير حقيقي ومنتزع من عدة أمور .

ويجوز أن يكون الحبل استعارة للعهد والاعتصام لوثوقه بالعهد بناء على أن في الكلام تشبيهين ، ويجوز أن تفرض الاستعارة في الحبل فقط ويكون الاعتصام ترشيحاً لها . والحاصل أن طريق الحق دقيق والسائر عليه غير مأمون أن تزل قدمه عن الجادة ، فيراد بالحبل ههنا ما يتوصل به إلى الثبات على الحق وإن كانت عبارات المفسرين متخالفة . فعن ابن عباس : هو العهد كما يجيء { إلا بحبل من الله وحبل من الناس }[ آل عمران :112 ] وقيل : إنه القرآن كما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أما إنها ستكون فتنة . قيل : فما المخرج منها ؟ قال صلى الله عليه وسلم : كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم وهو حبل الله المتين " وروى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم : " هذا القرآن حبل الله " وعن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم : " إني تارك فيكم الثقلين : كتاب الله حبل متين ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي " وقيل : إنه دين الله . وقيل : إنه طاعة الله . وقيل : إخلاص التوبة . وقيل : الجماعة لقوله تعالى عقيب ذلك : { ولا تفرقوا } لأن الحق لا يكون إلا واحداً ، وما بعد الحق إلا الضلال . ويد الله مع الجماعة . قال صلى الله عليه وسلم : " ستفترق أمتي على نيف وسبعين فرقة الناجي منهم واحد فقيل : ومن هم يا رسول الله ؟ قال : الجماعة " وروي " السواد الأعظم " وروي " ما أنا عليه وأصحابي " قال صلى الله عليه وسلم : " لا تجتمع أمتي على الضلالة " وقد يتمسك بالآية نفاة القياس قالوا : الأحكام الشرعية إن احتيج فيها إلى الدلائل اليقينية امتنع الاكتفاء فيها بالقياس ، وإن اقتصر فيها على الدلائل الظنية فالقول بجواز القياس لكل أحد يوجب التفرق والاختلاف وهو منهي عنه . وأجيب بأن الدلائل الدالة على وجوب العمل بالقياس مخصصه لعموم قوله : { ولا تفرقوا } . ثم إنه تعالى ذكرهم نعمته عليهم وذلك أنهم كانوا في الجاهلية بينهم إلا حن والبغضاء والحروب المتطاولة ، فألف الله بين قلوبهم ببركة الإسلام فصاروا إخواناً في الله متراحمين متناصحين ، وذلك أن من كان وجهه إلى الدنيا فقلما يخلو من معاداة ومناقشة بسبب الأغراض الدنيوية ، أما العارف الناظر من الحق إلى الخلق فإنه يرى الكل أسيرا في قبضة القضاء فلا يعادي أحداً ألبتة لأنه مستبصر بسر الله في القدر . فإذا أمر أمر برفق ناصح لا بعنف معير وكان حبه لحزب الله ونظرائه في الدين ورفقائه في طلب اليقين أشد من حب الوالد لولده ، فكانوا كالأقربين والإخوان بل كجسد واحد وكنفس واحدة . وقيل : يريد الإخوان في النسب .

وذلك أن الأوس والخزرج كانا أخوين لأب وأم ، وكان بينهما العداوة والحروب ، وبقيا على ذلك مائة وعشرين سنة إلى أن أطفأ الله ذلك بالإسلام ، وألف بينهم برسول الله ، فذكر الله تعالى تلك النعمة . وفيه دليل على أن المعاملات الحسنة الجارية فيما بينهم بعد الإسلام إنما حصلت من الله تعالى حيث خلق فيهم تلك الداعية المستلزمة لحصول الفعل . قال الكعبي : إن ذلك بالهداية والبيان والتحذير والمعونة والألطاف لا بخلق الفعل . وأجيب بأن كل هذا كان حاصلاً قبل ذلك . فاختصاص أحد الزمانين بحصول الألفة والمحبة لا بد أن يكون لأمر زائد على ما ذكرتم . هذا شرح النعم الدنيوية عليهم ، ثم ذكرهم النعم الأخروية بقوله : { وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها } وشفا الحفرة وشفتها حرفها بالتذكير والتأنيث ، ومنه يقال : أشفى على الشيء إذا أشرف عليه كأنه بلغ شفاه أي حده وطرفه . وأنقذه واستنقذه خلصه ونجاه . والضمير في { منها } للحفرة أو النار أو للشفاء إما لأنه في معنى الشفة وإما لإضافته إلى الحفرة وهو بعضها وهو كقوله :

كما شرقت صدر القناة من الدم *** . . .

قال بعضهم : الشفة أصغر من الشفا وكذلك الضلالة والضلال لذلك قال نوح عليه السلام :{ ليس بي ضلالة }[ الأعراف :61 ] حين قال له قومه { إنا لنراك في ضلال مبين }[ الأعراف :60 ] أي ليس بي صغير من الضلال فكيف الكبير منه ؟ ومعنى الآية إنكم كنتم مشرفين بكفركم على جهنم تشبيهاً لها بالحفر التي فيها النار وتمثيلاً بحياتهم التي يتوقع بعدها الوقوع في النار بالقعود على حرفها . وفيه تنبيه على تحقير مدة الحياة وإن طالت كأنه ليس بين الحياة وبين الموت المستلزم للوقوع في الحفرة إلا ما بين طرف الشيء وبين ذلك الشيء . قالت المعتزلة : معنى الإنقاذ أنه تعالى لطف بهم بالرسول صلى الله عليه وسلم وبسائر ألطفاه حتى آمنوا . وقال أهل السنة : جميع الألطاف مشتركة بين المؤمن والكافر ، فلو كان فاعل الإيمان هو العبد لكان العبد هو الذي أنقذ نفسه من النار ، لكن الآية دلت على أن الله تعالى هو المنقذ فعلم أن خالق أفعال العباد هو الله تعالى . { كذلك } مثل ذلك البيان البليغ { يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون } إرادة أن تزدادوا هدى أو لتكونوا على رجاء هداية . فالأول قول المعتزلة والثاني لأهل السنة ، وقد مر في أوائل سورة البقرة .

/خ111