الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{وَٱعۡتَصِمُواْ بِحَبۡلِ ٱللَّهِ جَمِيعٗا وَلَا تَفَرَّقُواْۚ وَٱذۡكُرُواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ كُنتُمۡ أَعۡدَآءٗ فَأَلَّفَ بَيۡنَ قُلُوبِكُمۡ فَأَصۡبَحۡتُم بِنِعۡمَتِهِۦٓ إِخۡوَٰنٗا وَكُنتُمۡ عَلَىٰ شَفَا حُفۡرَةٖ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنۡهَاۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمۡ ءَايَٰتِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ} (103)

{ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً } أصل الحبل السبب الذي يوصل إلى البغية والحاجة ، ولذلك سمّي الأمان حبلا ، لأنه سبب يوصل به إلى زوال الخوف .

وقال الأعشى بن ثعلبة :

وإذا تجوزها حبال قبيلة *** أخذت من الأخرى إليك حبالها

واختلفوا في الحبل المعني بهذه الآية :

فقال ابن عباس : تمسكوا بدين الله .

وروى الشعبي عن ابن مسعود أنه قال في قوله : { وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً } قال الجماعة .

وقال ابن مسعود : يا أيها الذين آمنوا عليكم بالطاعة والجماعة فإنها حبل الله الذي أمر به وإنّ ما تكرهون في الجماعة والطاعة خير ممّا تحبون في الفرقة .

وقال مجاهد وعطاء : بالعهد .

قتادة والسدي والضحاك : هو القرآن ، يدل عليه ما روى عن الحرث أنه قال : " دخلت المسجد فإذا الناس قد وقعوا في الأحاديث ، فأتيت علياً كرم الله وجهه فقلت : ألا ترى أن الناس قد وقعوا في الأحاديث ؟ فقال : وقد فعلوا ؟ فقلت : نعم ، فقال : أما أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إنها ستكون فتنة " قال : قلت : فما الخروج منها يا رسول الله ؟ قال : " كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم هو الفصل ليس بالهزل ، من تركه من جبار قصمه الله ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله ، فهو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسن ولا يشبع منه العلماء ولا يخلق عن كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه وهو الذي لم تنته الجن إذا سمعته إلاّ أن قالوا { سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً } [ الجن : 1 ] من قال به صدق ومن عمل به أجر ومن حكم به عدل ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم خذها إليك يا أعور " .

وروى أبو الأحوص عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن هذا القرآن مأدبة الله تعالى فتعلموا من مأدبته ما استطعتم ، إن هذا القرآن هو حبل الله وهو النور المبين والشفاء النافع وعصمة من تمسك به ونجاة من تبعه ، لا يعوج فيقوّم ولا يزيغ فيستعتب ولا تقضى عجائبه ولا يخلق عن كثرة الرد ، فاقرأوه فإن الله يأجركم على تلاوته بكل حرف عشر حسنات ، أما أني لا أقول ألم حرف ولكن ألف ولام وميم ثلاثون حسنة " .

وروى سعيد بن مسروق عن يزيد بن حيان قال : " دخلنا على زيد بن أرقم فقلنا له : لقد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم وصليت خلفه ؟ قال : نعم ، وإنه خطبنا فقال : " إني تارك فيكم كتاب الله هو حبل الله من اتبعه كان على الهدى ومن تركه كان على الضلالة " " .

وروى عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري قال : سمعت رسول الله يقول : " يا أيها الناس إني قد تركت فيكم خليفتين إن أخذتم بهما لن تضلوا بعدي ، أحدهما أكبر من الآخر كتاب الله جل جلاله من السماء وعترتي أهل بيتي ، ألا وإنّهما لن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض " .

فقال مقاتل بن حيان : ( بحبل الله ) أي بأمره وطاعته .

أبو العالية : بإخلاص التوحيد لله عزّ وجلّ .

ابن زيد : بالإسلام .

{ وَلاَ تَفَرَّقُواْ } كما تفرقت اليهود والنصارى .

وروى الأوزاعي عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " " إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة وإن امتي ستفترق على اثنى وسبعين فرقة كلها في النار إلاّ واحدة " فقيل يا رسول الله وما هذه الواحدة ؟ قال فقبض يده ، وقال : " الجماعة " ثم قرأ { وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ } " .

وروى أبان بن تغلب عن جعفر بن محمد : نحن حبل الله الذي قال الله : { وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ } .

أخبرني محمد بن كعب القرظي عن أبي سعيد : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :

" إن الله رضى لكم ثلاثاً وكره لكم ثلاثاً : رضى لكم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واسمعوا وأطيعوا لمن ولاّه الله أمركم ، وكره لكم القيل والقال وكثرة السؤال وإضاعة المال " .

وعن عبد الله بن بارق الحنفي عن سماك - يعني الحنفي - قال : قلت لابن عباس : قوم يظلموننا ويعتدون علينا في صدقاتنا ألا تمنعهم ؟ فقال : لا يا حنفي أعطهم صدقتهم وإن أتاك أهدل الشفتين منتفش المنخرين يعني زنجياً فأعطه ، فنعم القلوص قلوص يأمن بها المرؤس عروسه ووطنه - يعني امرأته - وقربة اللبن يا حنفي الجماعة الجماعة ، إنما هلكت الأمم الخالية بتفرقها أما سمعت قول الله : { جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ } .

{ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً } . قال محمد بن إسحاق بن يسار وغيره من أهل الأخبار قال : " كانت الأوس والخزرج أخوين لأب وأم فوقعت بينهما عداوة بسبب سمير وحاطب ، وذلك أن سميراً هو سمير بن زيد ابن مالك أحد بني عمرو بن عوف ، قيل : حليفاً لملك بن عجلان ، [ والآخر من ] الخزرج يقال له : حاطب بن أبحر من مزينة ، فوقعت بين القبيلتين الحرب ، فزعم العلماء بأيام العرب أن تلك الحرب والعداوة تطاولت بينهم عشرين ومائة سنة ، ولم يسمع بقوم كان بينهم من العداوة والحرب ما كان بينهم ، واتصلت تلك العداوة إلى أن أطفأها الله بالإسلام وألّف بينهم برسوله صلى الله عليه وسلم وكان سبب الفتهم وارتفاع وحشتهم أن سويد بن صامت أخا بني عمرو بن عوف قدم مكة حاجاً أو معتمراً وكان سويد إنما تسميه قومه الكامل لجلادته وشعره ونسبه وشرفه وحكمته ، فقدم سويد مكة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بُعث وأمر بالدعوة إلى الله عزّ وجلّ ، فتصدّى له حين سمع به ، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الله عزّ وجلّ وإلى الإسلام .

فقال له سويد : فلعل الذي معك مثل الذي معي ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " وما الذي معك ؟ " قال : مجلة لقمان ، يعني حكمته ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " اعرضها عليَّ " فعرضها عليه فقال : " إن هذا الكلام حسن والذي معي أفضل ، هذا قرآن أنزله الله عليَّ نوراً وهدى " فتلا عليه القرآن ودعاه إلى الإسلام فلم يبعده عنه وقال : إن هذا القول حسن ، ثم انصرف عنه وقدم المدينة ، فلم يلبث أن قتله الخزرج قبل يوم بعاث وكان قومه يقولون : قُتل وهو مسلم ، ثم قدم أبو الجيش أنس بن رافع ومعه فتية من بني عبد الأشهل فيهم أياس بن معاذ ، يلتمسون الحلف من قريش على قوم من الخزرج ، فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاهم فجلس إليهم فقال : " هل لكم إلى خير ممّا جئتم له ؟ " قالوا : وما ذلك ؟ قال : " أنا رسول الله بعثني الله إلى العباد أدعوهم إلى [ الله أن يعبدوا الله و ] لا يشركوا بالله شيئاً وأنزل عليَّ الكتاب " ثم ذكر لهم الإسلام وتلا عليهم القرآن .

فقال إياس بن معاذ وكان غلاماً حدثاً : أي قوم هذا والله خير ممّا جئتم به ، فأخذ أبو الجيش أنس بن رافع حفنة من البطحاء فضرب بها وجه إياس بن معاذ وقال : دعنا منك فلعمري لقد جئنا لغير هذا ، فصمت أياس وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وانصرفوا إلى المدينة وكانت وقعة بعاث بين بني الأوس والخزرج ، ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك ، فلما أراد الله إظهار دينه وإعزاز نبيه خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموسم الذي لقى فيه النفر من الأنصار يعرض نفسه على قبائل العرب كما يصنع في كل موسم ، فبينا هو عند العقبة إذ لقى رهطاً من الخزرج أراد الله بهم خيراً ، وهم ستة نفر أسعد بن زرارة ، وعوف بن عفراء ، ورافع بن ملك ، وقطبة بن عارف ، وعقبة ابن عامر ، وجابر بن عبد الله .

فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم " من أنتم ؟ "

قالوا : نفر من الخزرج ، قال : " أمن موالي اليهود ؟ " قالوا : نعم ، قال : " أفلا تجلسون حتى أكلمكم ؟ " .

قالوا : بلى ، فجلسوا معه فدعاهم إلى الله وعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن ، قال : وكان ممّا صنع الله لهم به في الإسلام أن يهوداً كانوا معهم ببلادهم وكانوا أهل كتاب وعلم ، وكانوا هم أهل أوثان وشرك ، وكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا : إن نبيّنا الآن مبعوث قد أظل زمانه نتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم . فلما كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر ودعاهم إلى الله ، فقال بعضهم لبعض : يا قوم تعلمون والله إنه للنبي الذي تدعوكم به اليهود فلا يسبقنكم إليه ، فأجابوه وصدقوه وأسلموا وقالوا : إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم ، وعسى الله أن يجمعهم لك وستقدم عليهم فتدعوهم إلى حربهم ، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز عليك . ثم انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعين إلى بلادهم قد آمنوا . فلما قدموا المدينة ذكروا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوهم إلى الاسلام حتى فشاهم فيهم فلم تبق لهم دار من دور الأنصار إلاّ وفيها ذكر من رسول الله حتى إذا كان العام المقبل وافى الموسم من الأنصار إثنا عشر رجلاً وهم أسعد بن زرارة ، وعوف ومعوّذ ابنا عفراء ورافع بن مالك بن العجلاني الخزرجي وذكوان بن عبد القيس وعبادة بن الصامت ويزيد بن ثعلبة وعباس بن عبادة وعقبة بن عامر وقطبة بن عامر بن حديدة بن عمرو فهؤلاء خزرجيون ، وأبو الهيثم بن التيهان واسمه ملك وعويتم بن ساعدة من الأوس ، فلقوه بالعقبة وهي العقبة الأولى فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء على أن لا يشركوا بالله شيئاً ولا يزنوا إلى آخر الآية ثم قال : " إن وفيتم فلكم الجنة وإن غشيتم شيئاً من ذلك ] فأخذتم بحده في الدنيا فهو كفارة له وإن سترتم عليه إلى يوم القيامة فأمركم إلى الله إن شاء عذبكم وإن شاء غفر لكم ] " .

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " السخي الجهول أحبَّ إلى الله من العالم البخيل " .

عبد السلام بن عبد الله عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " السماح شجرة في الجنة أغصانها في الدنيا من تعلق بغصن من أغصانها قادته إلى الجنة ، والبخل شجرة في النار أغصانها في الدنيا من تعلق بغصن من أغصانها قادته إلى النار " .

{ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً } .

[ حدثنا ابن حميد قال : حدثنا محمد بن إسحاق قال حدثنا بن أبي حبيب عن مرثد بن عبدالله المزني عن أبي عبد الرحمن بن عسيلة الضابحى

" عن عبادة بن الصامت قال : كنت فيمن حضر العقبة الأُولى وكنا اثنى عشر رجلا فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء وذلك قبل أن تفترض الحرب على أن لا نشرك بالله شيئاً ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا ، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا ، ولا نعصيه في معروف ، فإن وفيتم فلكم الجنة وإن غشّيتم شيئاً من ذلك ] .

فأخذتم [ بحدّه ] في الدنيا فهو كفارة له ، وإن سترتم عليه إلى يوم القيامة فأمْركم إلى الله إن شاء عذّبكم وإن شاء غفر لكم ، قال : وذلك قبل أن يفرض عليهم الحرب ، فلمّا انصرف القوم بعث معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف ، وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلّمهم الإسلام ويفقّههم ، وكان مصعب يسمى بالمدينة المقرئ ، وكان أول مقرئ بالمدينة ، وكان منزله على أسعد بن زرارة ، فقال سعد بن معاذ لأسيد بن حضير : انطلق إلى هذين الرجلين الذين قد أتيا دارنا ليسفّها ضعفاءنا فازجرهما ، فإنّ أسعد ابن خالتي ، ولولا ذاك لكفيتك ، وكان سعد بن معاذ وأسيد بن حضير سيدي قومهما من بني الأشهل ، وكلاهما مشركان ، فأخذ أسيد بن حضير حرسه ثم أقبل إلى مصعب وأسعد وهما جالسان في حائط ، فلمّا رآه أسعد بن زرارة قال لمصعب : هذا سيّد قومه قد جاءك والله ، فاصدق الله فيه .

قال مصعب : إن يجلس نكلّمه ، قال : فوقف عليهما مشتّماً ، فقال : ما جاء بكما إلينا ؟ تسفّهان ضعفاءنا ، اعتزلانا إن كانت لكما في أنفسكما حاجة ، فقال له مصعب : أو تجلس فتسمع ، فإن رضيت أمراً قبلته ، وإن كرهته كفّ عنك ما تكرهه ، قال : أنصفت ثم ركز حربته وجلس إليهما ، فكلّمه مصعب بالإسلام وقرأ عليه القرآن .

قال : والله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم في أشراقه وتسهّله ، ثم قال : ما أحسن هذا وأجمله كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين ؟ قالا له : تغتسل ، وتطهّر ثوبك ثم تشهد بشهادة الحق ، ثم تصلي ركعتين ، فقام واغتسل وطهّر ثوبه ، وشهد بشهادة الحق ، ثم قام وصلّى ركعتين ، ثم قال لهما : إنّ ورائي رجلا إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه ، وسأرسله إليكما الآن ، سعد بن معاذ .

ثم أخذ حربته وانصرف إلى سعد وقومه وهم جلوس في ناديهم ، فلمّا نظر إليه سعد بن معاذ مقبلا قال : أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب من عندكم ، فلمّا وقف على النادي قال له سعد : ما فعلت ؟ قال : كلّمت الرجلين ، فوالله ما رأيت بهما بأساً وقد نهيتهما ، فقالا : لا نفعل إلاّ ما أحببت .

وفي الحديث أنّ بني حارثة خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه ؛ وذلك أنّهم عرفوا أنّه ابن خالتك ليحقروك ، فقام سعد مغضباً مبادراً للذي ذكره له ، فأخذ الحربة منه ، ثم قال : والله ما أراك أغنيت شيئاً ، فلمّا رآهما مطمئنين عرف أنّ أسيداً إنّما أراد أن يسمع منهما ، فوقف عليهما مشتّماً ثم قال لأسعد بن زرارة : يا أبا أمامة لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني ، تغشانا في دارنا بما نكره ، وقد قال لمصعب : جاءك والله سيد قومه إن تبعك لم يُخالفك منهم أحد ، فقال له مصعب : أو تقعد فتسمع ، فإن رضيت أمراً ورغبت فيه قبلته ، وإن كرهته قد كفاك ما تكره ، قال سعد : أنصفت ، ثم ركز الحربة فجلس ، فعرض عليه الإسلام ، وقرأ عليه القرآن ، قالا : فعرفنا والله في وجهه الإسلام قبل أن يتكلّم في إشراقه وتسهّله ، ثم قال لهما : كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ودخلتم في هذا الدين ؟ قالا : تغتسل وتطهّر ثوبك وتشهد بشهادة الحق ، ثم تصلّي ركعتين ، فقام فاغتسل فطهّر ثوبه وشهد شهادة الحق وركع ركعتين ، ثم أخذ حربته فأقبل عامداً إلى نادي قومه ومعه أسيد بن حضير ، فلمّا رآه قومه مقبلا قالوا : نحلف بالله لقد رجع سعد إليكم بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم ، فلمّا وقف عليه قال : يا بني عبد الأشهل كيف تعلمون أمري فيكم ؟

قالوا : سيدنا وأفضلنا رأياً وأيمننا نقيبةً ، قال : فإن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله ، قال : فما أمسى في دار عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلاّ مسلماً ومسلمة ورجع أسعد ومصعب إلى منزل أسيد بن زرارة فأقام عنده يدعو الناس إلى الإسلام حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلاّ وفيها رجال ونساء من المسلمين إلاّ ما كان من بني أمية بن زيد وحطمة ووائل وواقف [ وتلك أوس الله وهم من أوس بن حارثة وذلك أنه ] كان فيهم أبو قيس الشاعر وكانوا يسمعون منه ويطيعونه ، فوقف بهم عن الإسلام حتى هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ومضى بدر وأحد والخندق قالوا : إنّ مصعب بن عمير رجع إلى مكة وخرج معه من الأنصار من المسلمين سبعون رجلا مع حجاج قومهم من أهل الشرك حتى قدموا مكة ، فواعدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة من أوسط أيام التشريق وهي بيعة العقبة الثانية .

قال كعب بن مالك وكان شهد ذلك : فلمّا فرغا من الحج وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر أخبرناه ، فكنّا نكتم عمّن معنا من المشركين من قومنا أمرنا ، وكلّمناه وقلنا له : يا جابر إنّك سيد من ساداتنا وشريف من أشرافنا ، وإنّك ترغب بك عمّا أنت فيه أن نكون حطباً للنار غداً ، ودعوناه إلى الإسلام فأسلم فأخبرناه بميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهد معنا العقبة وكان تقياً ، فبتنا تلك الليلة في رحالنا حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنتسلّل مستخفين تسلل القطا ، حتى إذا اجتمعنا في الشعب عند العقبة ونحن سبعون رجلا ، ومعنا امرأتان من نسائنا : نسيبة بنت كعب أم عمارة احدى نساء بني النجّار ، وأسماء بنت عمرو بن عدي إحدى نساء بني سلمة وهي أمّ منيع ، واجتمعنا بالشعب ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاء ومعه عمّه العباس بن عبد المطلب وهو يومئذ على دين قومه إلاّ أنّه أحبّ أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثّق له فلمّا جلسنا كان أول من تكلم العباس بن عبد المطلب فقال : يا معشر الخزرج وكانت العرب إنما يسمّون هذا الحي من الأنصار : الخزرج ؛ خزرجها وأوسها إنّ محمداً منا حيث قد علمتم ، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا ، وهو في عزّ من قومه ومنعة في بلده وإنه قد أبى إلاّ الانقطاع لكم واللحوق بكم .

فإن كنتم ترون أنكم وافون له ما دعوتموه إليه و[ مانعوه ] ممن خالفه فأنتم وما تحملتم من ذلك ، وإن كنتم ترون أنّكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج إليكم ، فمن الآن دعوه فإنّه في عز ومنعة .

قال : فقلنا : سمعاً ما قلت ، فتكلم يا رسول الله ، وخذ لنفسك ولربك ما شئت .

قال : فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلا القرآن ودعا إلى الله ورغّب في الإسلام وقال : " أبايعكم على أن تمنعوني عمّا تمنعون منه نساءكم " .

قال : فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال : والذي بعثك بالحق ، لنمنعك مما نمنع منه أزرنا ، فَبَايِعْنَا يا رسول الله ، فنحن أهل الحرب وأهل الحلقة [ وإنّا ] ورثناها كابراً عن كابر .

قال : فاعترض القول والبراء يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو الهيثم بن التيهان فقال : يا رسول الله ، إن بيننا وبين الناس حبالا يعني اليهود وإنا قاطعوها ، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ، ثم أظهرك [ الل ] أن ترجع إلى قومك وتدعنا ؟ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : " بل الدم الدم ، والهدم الهدم وأنتم مني وأنا منكم أُحارب من حاربتم وأُسالم من سالمتم " .

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أخرجوا إليّ منكم اثني عشر نقيباً كفلاء على قومهم بما فيهم ، ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم عليه السلام " ، فأخرجوا اثني عشر نقيباً : تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس " . قال عاصم بن عمر بن قتادة : إن القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاري : يا معشر الخزرج هل تدرون على ما تبايعون هذا الرجل ؟ إنّكم تبايعونه على حرب الأسود والأحمر ، فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة ؟ وأشرافكم قتل أسلمتموه ، فمن الآن فهو والله خزي في الدنيا والآخرة ، وإن كنتم ترون أنكم وافون بالعهد له فيما دعوتموه إليه على نهكة الأموال وقتل الأشراف ، فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا ؟ قال : " الجنة " . قالوا : ابسط يدك . فبسط يده فبايعوه ، فأول من ضرب على يده البراء بن معرور ، ثم تتابع القوم . قال : فلما بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صرخ الشيطان من رأس العقبة بأبعد صوت سمعته قط : يا أهل الجباجب هل لكم في مذمم والصباء معه قد اجتمعوا على حربكم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " هذا والله زنا العقبة اسمع أي عدو الله ، أما والله لأفرغن لك " . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ارجعوا إلى رحالكم " . فقال له العباس بن عبادة بن نضلة : والذي بعثك بالحق لئن شئت لنميلن غداً على أهل منى بأسيافنا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لم نؤمر بذلك ، ولكن ارجعوا إلى رحالكم " .

قال : فرجعنا إلى مضاجعنا فنمنا عليها حتى أصبحنا [ ف ] غدت علينا جلة قريش حتى جاؤونا في منازلنا وقالوا : يا معشر الخزرج بلغنا أنكم جئتم صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا وتبايعونه على حربنا ، فإنه والله ما حي من العرب أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم . قال : فانبعث من هناك من مشركي قومنا يحلفون بالله ما كان من هذا شيء وما علمناه وصدقوا لم يعلموا وبعضنا ينظر إلى بعض ، فقام القوم وفيهم الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي وعليه نعلان جديدان قال : فقلت له كلمة كأني أُريد أن أُشرك القوم بها فيما قالوا : يا أبا جابر أما تستطيع أن تتخذ وأنت سيد من ساداتنا مثل نعلي هذا الفتى من قريش ؟

قال : فسمعها الحارث فخلعهما من رجليه ، ثم رمى بهما إليّ وقال : والله لتنتعلنّهما ، فقال أبو جابر : والله أخفظت الفتى فاردد إليه نعليه . قال : قلت : لا أردهما ، قال : والله صلح ، والله لئن صدق لأسلبنه .

قال : ثم انصرف أبو جابر إلى المدينة ، وقد شدّدوا العقد ، فلما قدموها أظهروا الإسلام بها وبلغ ذلك قريشاً فآذوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : " إنّ الله قد جعل لكم إخواناً وداراً تأمنون فيها " .

فأمرهم بالهجرة إلى المدينة واللحوق بإخوانهم الأنصار ، فكان ممن هاجر أبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي ، ثم عامر بن ربيعة ومعه امرأته ليلى بنت أبي خيثمة ، ثم عبد الله بن جحش . ثم تتابع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إرسالا إلى المدينة ، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظر أن يؤذن له في الهجرة إلى أن أُذن ، فقدم المدينة فجمع الله أهل المدينة أوسها وخزرجها بالإسلام ، وأصلح ذات بينهم بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ورفع عنهم العداوة القديمة ، وألّف بينهم ، وذلك قوله { وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } "

يا معشر الأنصار إذ كنتم أعداء قبل الإسلام { فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ } بالإسلام { فَأَصْبَحْتُمْ } : فصرتم ، نظيره قوله في المائدة :

{ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [ الآية : 30 ] وقوله :

{ فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ } [ الآية : 31 ] وفي { حم } السجدة

{ فَأَصْبَحْتُمْ مِّنَ الُخَاسِرِينَ } [ فصلت : 23 ] وفي الكهف :

{ أَوْ يُصْبِحَ مَآؤُهَا غَوْراً } [ الآية : 41 ] .

{ بِنِعْمَتِهِ } : بدينة الإسلام { إِخْوَاناً } في الدين والولاية ، نظيره قوله :

{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } [ الحجرات : 41 ] .

وعن أبي سعيد مولى عبد الله بن عامر بن كريز عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا تناجشوا ، وكونوا عباد الله إخواناً ، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ، ولا يحقره التقوى ههنا وأشار بيده إلى صدره حسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم " .

أبو بردة عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " " المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً " ، وشبك بين أصابعه . "

الشعبي عن النعمان بن بشير أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم المؤمنون كرجل واحد .

قال : " المؤمنون كرجل واحد لجسد إذا اشتكى رأسه تداعى له سائره بالحمى والسهر " .

{ وَكُنْتُمْ } يا معشر الأوس والخزرج على شفا حفرة من النار . قال الراجز :

نحن حفرنا للحجيج سجلهْ *** نابتة فوق شفاهاً بقلهْ

ومعنى الآية : كنتم على طرف حفرة من النار ليس بينكم وبين الوقوع فيها إلاّ أن تموتوا على كفركم ، { فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا } بالإيمان . قال : وبلغنا أنّ أعرابياً سمع ابن عباس وهو يقرأ هذه الآية فقال : والله ما أنقذهم منها وهو يريد أن يوقعهم فيها . فقال ابن عباس : خذوه من غير فقيه . { كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } .