{ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ } ظاهرة وباطنة ، { فَمِنَ اللَّهِ } لا أحد يشركه فيها ، { ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ } من فقر ومرض وشدة { فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ } أي : تضجون بالدعاء والتضرع ؛ لعلمكم أنه لا يدفع الضر والشدة إلا هو ، فالذي انفرد بإعطائكم ما تحبون ، وصرف ما تكرهون ، هو الذي لا تنبغي العبادة إلا له وحده .
ومنعم واحد : ( وما بكم من نعمة فمن الله ) . وفطرتكم تلجأ إليه وحده ساعة العسرة والضيق ، وتنتفي عنها أوهام الشرك والوثنية فلا تتوجه إلا إليه دون شريك : ( ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون ) وتصرخون لينجيكم مما أنتم فيه .
وهكذا يتفرد سبحانه وتعالى بالألوهية والملك والدين والنعمة والتوجه ؛ وتشهد فطرة البشر بهذا كله حين يصهرها الضر وينفض عنها أو شاب الشرك .
ثم أخبر أنه مالك النفع والضر ، وأن ما بالعبد من رزق ونعمة{[16487]} وعافية ونصر فمن فضله عليه{[16488]} وإحسانه إليه .
{ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ } أي : لعلمكم أنه لا يقدر على إزالته إلا هو ، فإنكم عند الضرورات تلجئون إليه ، وتسألونه ، وتلحون في الرغبة مستغيثين به{[16489]} كما قال تعالى : { وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإنْسَانُ كَفُورًا } [ الإسراء : 67 ] ،
القول في تأويل قوله تعالى { وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ثُمّ إِذَا مَسّكُمُ الضّرّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ } .
اختلف أهل العربية في وجه دخول الفاء في قوله : فَمِنَ اللّهِ ، فقال بعض البصريين : دخلت الفاء ؛ لأن «ما » بمنزلة «من » فجعل الخبر بالفاء . وقال بعض الكوفيين : «ما » في معنى جزاء ، ولها فعل مضمر ، كأنك قلت : ما يكن بكم من نعمة فمن الله ؛ لأن الجزاء لا بدّ له من فعل مجزوم ، إن ظهر فهو جزم ، وإن لم يظهر فهو مضمر كما قال الشاعر :
إن العَقْلُ في أموَالِنا لا نَضِقْ بِهِ *** ذِرَاعا وَإنْ صَبْرا فنَعْرِفُ للصّبْرِ
وقال : أراد : إن يكن العقل فأضمره . قال : وإن جعلت «ما بكم » في معنى «الذي » جاز ، وجعلت صلته «بكم » و «ما » في موضع رفع بقوله : فَمِنَ اللّهِ ، وأدخل الفاء كما قال : إنّ المَوْتَ الّذِي تَفِرّونَ مِنْهُ فإنّه مُلاقِيكُمْ ، وكل اسم وصل مثل «من » و «ما » و «الذي » ، فقد يجوز دخول الفاء في خبره ؛ لأنه مضارع للجزاء ، والجزاء قد يجاب بالفاء ، ولا يجوز أخوك فهو قائم ، لأنه اسم غير موصول ، وكذلك تقول : مالك لي ، فإن قلت : مالك ، جاز أن تقول : مالك فهو لي ، وإن ألقيت الفاء فصواب .
وتأويل الكلام : ما يكن بكم في أبدانكم أيها الناس من عافية وصحة وسلامة وفي أموالكم من نماء ، فالله المنعم عليكم بذلك لا غيره ؛ لأن ذلك إليه وبيده . ثُمّ إذَا مَسّكُمُ الضّرّ يقول : إذا أصابكم في أبدانكم سَقَم ومرض وعلة عارضة وشدّة من عيش ، فإلَيْهِ تَجْأَرُونَ ، يقول : فإلى الله تصرخون بالدعاء وتستغيثون به ، ليكشف ذلك عنكم . وأصله : من جؤار الثور ، يقال منه : جأر الثور يجأر جُؤارا ، وذلك إذا رفع صوتا شديدا من جوع أو غيره ، ومنه قول الأعشى :
وَما أيْبُلِيّ عَلى هَيْكَلٍ *** بَناهُ وَصَلّبَ فِيهِ وصَارَا
يُرَاوِحُ مِنْ صَلَوَاتِ المَلِي *** كِ طَوْرا سُجُودا وَطَوْرا جُؤَارا
يعني بالجؤار : الصياح ، إما بالدعاء وإما بالقراءة .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن قال : حدثنا ورقاء وحدثني المثنى ، قال : أخبرنا أبو حُذيفة ، قال : حدثنا شبل وحدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : فإلَيْهِ تَجأَرُونَ قال : تضرعون دعاء .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : أخبرنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، قال : الضّرّ : السّقْم .
{ وما بكم من نعمة فمن الله } أي : وأي شيء اتصل بكم من نعمة فهو من الله ، { وما } : شرطية ، أو موصولة متضمنة معنى الشرط ، باعتبار الإخبار دون الحصول ، فإن استقرار النعمة بهم يكون سببا للإخبار بأنها من الله ، لا لحصولها منه . { ثم إذا مسّكم الضّر فإليه تجأرون } : فما تتضرعون إلا إليه ، والجؤار رفع الصوت في الدعاء والاستغاثة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.