مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَمَا بِكُم مِّن نِّعۡمَةٖ فَمِنَ ٱللَّهِۖ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ ٱلضُّرُّ فَإِلَيۡهِ تَجۡـَٔرُونَ} (53)

ثم قال : { وما بكم من نعمة فمن الله } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : أنه لما بين بالآية الأولى أن الواجب على العاقل أن لا يتقي غير الله ، بين في هذه الآية أنه يجب عليه أن لا يشكر أحدا إلا الله تعالى ، لأن الشكر إنما يلزم على النعمة ، وكل نعمة حصلت للإنسان فهي من الله تعالى لقوله : { وما بكم من نعمة فمن الله } فثبت بهذا أن العاقل يجب عليه أن لا يخاف وأن لا يتقي أحدا إلا الله وأن لا يشكر أحدا إلا الله تعالى .

المسألة الثانية ؛ احتج أصحابنا بهذه الآية على أن الإيمان حصل بخلق الله تعالى فقالوا : الإيمان نعمة ، وكل نعمة فهي من الله تعالى لقوله : { وما بكم من نعمة فمن الله } ينتج أن الإيمان من الله وإنما قلنا : إن الإيمان نعمة ، لأن المسلمين مطبقون على قولهم : الحمد لله على نعمة الإيمان ، وأيضا فالنعمة عبارة عن كل ما يكون منتفعا به ، وأعظم الأشياء في النفع هو الإيمان ، فثبت أنا لإيمان نعمة .

وإذا ثبت هذا فنقول : وكل نعمة فهي من الله تعالى لقوله تعالى : { وما بكم من نعمة فمن الله } وهذه اللفظة تفيد العموم ، وأيضا مما يدل على أن كل نعمة فهي من الله ، لأن كل ما كان موجودا فهو إما واجب لذاته ، وإما ممكن لذاته ، والواجب لذاته ليس إلا الله تعالى ، والممكن لذاته لا يوجد إلا لمرجح ، وذلك المرجح إن كان واجبا لذاته كان حصول ذلك الممكن بإيجاد الله تعالى وإن كان ممكنا لذاته عاد التقسيم الأول فيه ، ولا يذهب إلى التسلسل ، بل ينتهي إلى إيجاد الواجب لذته ، فثبت بهذا البيان أن كل نعمة فهي من الله تعالى .

المسألة الثالثة : النعم إما دينية وإما دنيوية ، أما النعم الدينية فهي إما معرفة الحق لذاته وإما معرفة الخير لأجل العمل به ، وأما النعم الدنيوية فهي إما نفسانية ، وإما بدنية وإما خارجية وكل واحد من هذه الثلاثة جنس تحته أنواع خارجة عن الحصر والتحديد كما قال : { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } والإشارة إلى تفصيل تلك الأنواع قد ذكرناها مرارا فلا نعيدها .

المسالة الرابعة : إنما دخلت الفاء في قوله : { فمن الله } لأن الباء في قوله : { بكم } متصلة بفعل مضمر ، والمعنى : ما يكن بكم أو ما حل بكم من نعمة فمن الله .

ثم قال تعالى : { ثم إذا مسكم الضر } قال ابن عباس : يريد الأسقام والأمراض والحاجة : { فإليه تجأرون } أي ترفعون أصواتكم بالاستغاثة ، وتتضرعون إليه بالدعاء يقال : جأر يجأر جؤارا وهو الصوت الشديد كصوت البقرة ، وقال الأعشى يصف راهبا :

يراوح من صلوات المليك *** طورا سجودا وطورا جؤارا

والمعنى : أنه تعالى بين أن جميع النعم من الله تعالى ، ثم إذا اتفق لأحد مضرة توجب زوال شيء من تلك النعم فإلى الله يجأر ، أي لا يستغيث أحدا إلا الله تعالى لعلمه بأنه لا مفزع للخلق إلا هو ، فكأنه تعالى قال لهم فأين أنتم عن هذه الطريقة في حال الرخاء والسلامة ؟