قوله تعالى : { وأنهم يقولون ما لا يفعلون } أي يكذبون في شعرهم ، يقولون : فعلنا وفعلنا ، وهم كذبة .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أبو محمد عبد الرحمن بن أبي شريح ، أنبأنا أبو القاسم البغوي ، حدثنا علي بن المجعد ، أنبأنا شعبة عن الأعمش ، عن ذكوان ، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً حتى يريه خير له من أن يمتلئ شعراً " . ثم استثنى شعراء المسلمين الذين كانوا يجيبون شعراء الجاهلية ، ويهجون الكفار ، وينافحون عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه منهم : حسان بن ثابت ، وعبد الله بن رواحة ، وكعب بن مالك ، فقال :
قوله تعالى : { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنبأنا أبو الحسين علي بن عبد الله بن بشران ، أنبأنا إسماعيل بن محمد الصفار ، حدثنا أحمد بن منصور الرمادي ، حدثنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر عن الزهري ، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك ، عن أبيه ، أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إن الله قد أنزل في الشعر ما أنزل فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه ، والذي نفسي بيده لكأنما ترمونهم به نضح النبل " .
أخبرنا عبد الله بن عبد الصمد الجوزجاني ، أنبأنا أبو القاسم علي بن أحمد الخزاعي ، أنبأنا الهيثم بن كليب ، أنبأنا أبو عيسى الترمذي ، حدثنا إسحاق بن منصور ، أنبأنا عبد الرزاق ، أنبأنا جعفر بن سليمان ، حدثنا ثابت ، عن أنس " أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة في عمرة القضاء وابن رواحة يمشي بين يديه ويقول :
خلوا بني الكفار عن سبيله *** اليوم نضربكم على تنزيله
ضرباً يزيل الهام عن مقيله *** ويذهل الخليل عن خليله
فقال له عمر : يا ابن رواحة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي حرم الله تقول الشعر ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : خل عنه يا عمر ، فلهي أسرع فيهم من نضح النبل " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا حجاج بن منهال ، حدثنا شعبة ، أخبرني عدي أنه سمع البراء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان : " اهجهم أو هاجهم وجبريل معك " .
أخبرنا عبد الله بن عبد الصمد الجوزجاني ، أنبأنا أبو القاسم الخزاعي ، أنبأنا الهيثم بن كليب ، حدثنا أبو عيسى ، حدثنا إسماعيل بن موسى الفزاري وعلي بن حجر المعنى واحد قالا : حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع لحسان بن ثابت منبراً في المسجد يقوم عليه قائماً يفاخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله يؤيد حسان بروح القدس ، ما ينافح أو يفاخر عن رسول الله " .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنبأنا عبد الغافر بن محمد ، حدثنا محمد بن عيسى الجلودي ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا عبد الملك بن شعيب بن الليث ، حدثني أبي عن جدي ، حدثنا خالد بن زيد ، حدثني سعيد بن أبي هلال عن عمارة بن غزية ، عن محمد بن إبراهيم ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " اهجوا قريشاً فإنه أشد عليهم من رشق النبل ، فأرسل إلى ابن رواحة فقال : أهجهم ، فهجاهم فلم يرض ، فأرسل إلى كعب بن مالك ، ثم أرسل إلى حسان بن ثابت ، فلما دخل عليه قال حسان : قد آن لكم أن ترسلوا إلى هذا الأسد الضارب بذنبه ثم أدلع لسانه ، فجعل يحركه ، فقال : والذي بعثك بالحق لأفرينهم بلساني فري الأديم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تعجل ، فإن أبا بكر أعلم قريش بأنسابها ، وإن لي فيهم نسباً حتى يخلص لك نسبي ، فأتاه حسان ثم رجع ، فقال : يا رسول الله قد خلص لي نسبك ، والذي بعثك بالحق لأسلنك منهم كما تسل الشعرة من العجين . قالت عائشة : فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لحسان : إن روح القدس لا يزال يؤيدك ، ما نافحت عن الله ورسوله ، وقالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : هجاهم حسان فشفى واشتفى " قال حسان :
هجوت محمداً فأجبت عنه *** وعند الله في ذاك الجزاء
هجوت محمداً براً حنيفاً *** رسول الله شيمته الوفاء
فإن أبي ووالدتي وعرضي *** لعرض محمد منكم وقاء
فمن يهجو رسول الله منكم *** ويمدحه وينصره سواء
وجبريل رسول الله فينا *** وروح القدس ليس له كفاء
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد ابن إسماعيل ، حدثنا أبو اليمان ، أنبأنا شعيب عن الزهري ، أخبرني أبو بكر بن عبد الرحمن أن مروان بن الحكم أخبره أن عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث أخبره أن أبي بن كعب أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن من الشعر لحكمة " . قالت عائشة رضي الله عنها : الشعر كلام ، فمنه حسن ، ومنه قبيح ، فخذ الحسن ودع القبيح .
وقال الشعبي : كان أبو بكر رضي الله تعالى عنه يقول الشعر ، وكان عمر رضي الله تعالى عنه يقول الشعر ، وكان علي رضي الله تعالى عنه أشعر الثلاثة . وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان ينشد الشعر في المسجد ويستنشده ، فروي أنه دعا عمر بن أبي ربيعة المخزومي فاستنشده القصيدة التي قالها فقال :
أمن آل نعمى أنت غاد فمبكر *** غداة غد أم رائح فمهجر
فأنشده ابن أبي ربيعة القصيدة إلى آخرها ، وهي قريبة من سبعين بيتاً ، ثم إن ابن عباس أعاد القصيدة جميعها ، وكان حفظها بمرة واحدة . { وذكروا الله كثيراً } أي : لم يشغلهم الشعر عن ذكر الله ، { وانتصروا من بعد ما ظلموا } قال مقاتل : انتصروا من المشركين ، لأنهم بدؤوا بالهجاء . ثم أوعد شعراء المشركين فقال : { وسيعلم الذين ظلموا } أشركوا وهجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم { أي منقلب ينقلبون } أي مرجع يرجعون بعد الموت . قال ابن عباس رضي الله عنهما : إلى جهنم والسعير . والله أعلم .
ولما وصف الشعراء بما وصفهم به ، استثنى منهم من آمن بالله ورسوله ، وعمل صالحا ، وأكثر من ذكر الله ، وانتصر من أعدائه المشركين من بعد ما ظلموهم .
فصار شعرهم من أعمالهم الصالحة ، وآثار إيمانهم ، لاشتماله على مدح أهل الإيمان ، والانتصار من أهل الشرك والكفر ، والذب عن دين الله ، وتبيين العلوم النافعة ، والحث على الأخلاق الفاضلة فقال : { إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ } ينقلبون إلى موقف وحساب ، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة ، إلا أحصاها ، ولا حقا إلا استوفاه . والحمد لله رب العالمين .
ومن ثم يستثني القرآن الكريم من ذلك الوصف العام للشعراء :
( إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وذكروا الله كثيرا ، وانتصروا من بعد ما ظلموا ) . .
فهؤلاء ليسوا داخلين في ذلك الوصف العام . هؤلاء آمنوا فامتلأت قلوبهم بعقيدة ، واستقامت حياتهم على منهج . وعملوا الصالحات فاتجهت طاقاتهم إلى العمل الخير الجميل ، ولم يكتفوا بالتصورات والأحلام . وانتصروا من بعد ما ظلموا فكان لهم كفاح ينفثون فيه طاقتهم ليصلوا إلى نصرة الحق الذي اعتنقوه .
ومن هؤلاء الشعراء الذين نافحوا عن العقيدة وصاحبها في إبان المعركة مع الشرك والمشركين على عهد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] حسان بن ثابت ، وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة - رضي الله عنهم - من شعراء الأنصار ، ومنهم عبد الله بن الزبعرى ، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وقد كانا يهجوان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في جاهليتهما ، فلما أسلما حسن إسلامهما ومدحا رسول الله ونافحا عن الإسلام .
وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قال لحسان : " اهجهم - أو قال هاجهم - وجبريل معك " . . وعن عبد الرحمن بن كعب عن أبيه أنه قال للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] إن الله عز وجل قد أنزل في الشعراء ما أنزل . فقال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه والذي نفسي بيده لكأن ما ترمونهم به نضح النبل " [ رواه الإمام أحمد ]
والصور التي يتحقق بها الشعر الإسلامي والفن الإسلامي كثيرة غير هذه الصورة التي وجدت وفق مقتضياتها . وحسب الشعر أو الفن أن ينبع من تصور إسلامي للحياة في أي جانب من جوانبها ، ليكون شعرا أو فنا يرضاه الإسلام .
وليس من الضروري أن يكون دفاعا ولا دفعا ؛ ولا أن يكون دعوة مباشرة للإسلام ولا تمجيدا له أو لأيام الإسلام ورجاله . . ليس من الضروري أن يكون في هذه الموضوعات ليكون شعرا إسلاميا . وإن نظرة إلى سريان الليل وتنفس الصبح ، ممزوجة بشعور المسلم الذي يربط هذه المشاهد بالله في حسه لهي الشعر الإسلاميفي صميمه . وإن لحظة إشراق واتصال بالله ، أو بهذا الوجود الذي أبدعه الله ، لكفيلة أن تنشئ شعرا يرضاه الإسلام .
ومفرق الطريق أن للإسلام تصورا خاصا للحياة كلها ، وللعلاقات والروابط فيها . فأيما شعر نشأ من هذا التصور فهو الشعر الذي يرضاه الإسلام .
وتختم السورة بهذا التهديد الخفي المجمل :
( وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ) . .
السورة التي اشتملت على تصوير عناد المشركين ومكابرتهم ، واستهتارهم بالوعيد واستعجالهم بالعذاب . كما اشتملت على مصارع المكذبين على مدار الرسالات والقرون .
تنتهي بهذا التهديد المخيف . الذي يلخص موضوع السورة . وكأنه الإيقاع الأخير المرهوب ؛ يتمثل في صور شتى ، يتمثلها الخيال ويتوقعها . وتزلزل كيان الظالمين زلزالا شديدا .
وقوله : وَأنّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ يقول : وأن أكثر قيلهم باطل وكذب . كما :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : وَأنّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ يقول : أكثر قولهم يكذبون ، وعني بذلك شعراء المشركين . كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال عبد الرحمن بن زيد : قال رجل لأبي : يا أبا أسامة ، أرأيت قول الله جلّ ثناؤه : وَالشّعَرَاءُ يَتّبِعُهُمُ الْغاوُونَ ألَمْ تَرَ أنّهُمْ فِي كُلّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأنّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ فقال له أبي : إنما هذا لشعراء المشركين ، وليس شعراء المؤمنين ، ألا ترى أنه يقول : إلاّ الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ . . . الخ . فقال : فَرّجت عني يا أبا أسامة فرّج الله عنك .
وقوله : إلاّ الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ وهذا استثناء من قوله وَالشّعَرَاءُ يَتّبِعُهُمُ الْغاوُونَ إلاّ الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ . وذُكر أن هذا الاستثناء نزل في شعراء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كحسان بن ثابت ، وكعب بن مالك ، ثم هو لكلّ من كان بالصفة التي وصفه الله بها . وبالذي قلنا في ذلك جاءت الأخبار . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة وعليّ بن مجاهد ، وإبراهيم بن المختار ، عن ابن إسحاق ، عن يزيد بن عبد الله بن قُسَيط ، عن أبي الحسن سالم البرّاد مولى تميم الداري ، قال : لما نزلت : وَالشّعَرَاءُ يَتّبِعُهُمُ الْغاوُونَ قال : جاء حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة ، وكعب بن مالك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم يبكون ، فقالوا : قد علم الله حين أنزل هذه الاَية أنّا شعراء ، فتلا النبيّ صلى الله عليه وسلم : إلاّ الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ ، وَذَكَرُوا اللّهَ كَثيرا ، وانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا ، وَسَيَعْلَمُ الّذِينَ ظَلَمُوا أيّ مُنْقَلَب يَنْقَلِبُونَ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، عن بعض أصحابه ، عن عطاء بن يسار ، قال : نزلت وَالشّعَرَاءُ يَتّبِعُهُمُ الْغاوُونَ إلى آخر السورة في حسّان بن ثابت ، وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك .
قال : ثنا يحيى بن واضح ، عن الحسين ، عن يزيد ، عن عكرمة وطاوس ، قالا : قال وَالشّعَرَاءُ يَتّبِعُهُمُ الْغاوُونَ ألَمْ تَرَ أنّهُمْ فِي كُلّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأنّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يفْعَلُونَ ، فنسخ من ذلك واستثنى ، قال : إلاّ الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ . . . الاَية .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قال : ثم استثنى المؤمنين منهم ، يعني الشعراء ، فقال : إلاّ الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال ابن عباس ، فذكر مثله .
حدثنا الحسن قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة إلاّ الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللّهَ كَثِيرا ، وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا قال : هم الأنصار الذين هاجوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا عيسى بن يونس ، عن محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط ، عن أبي حسن البراد ، قال : لما نزلت : وَالشّعَرَاءُ يَتّبِعُهُمُ الْغاوُونَ ثم ذكر نحو حديث ابن حميد عن سلمة .
وقوله : وَذَكَرُوا اللّهَ كَثِيرا اختلف أهل التأويل في حال الذكر الذي وصف الله به هؤلاء المستثنين من الشعراء ، فقال بعضهم : هي حال منطقهم ومحاورتهم الناس ، قالوا : معنى الكلام : وذكروا الله كثيرا في كلامهم . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس إلاّ الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ ، وَذَكَرُوا اللّهَ كَثِيرا في كلامهم .
وقال آخرون : بل ذلك في شعرهم . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله وَذَكَرُوا اللّهَ كَثِيرا قال : ذكروا الله في شعرهم .
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله وصف هؤلاء الذين استثناهم من شعراء المؤمنين بذكر الله كثيرا ، ولم يخص ذكرهم الله على حال دون حال في كتابه ، ولا على لسان رسوله ، فصفتهم أنهم يذكرون الله كثيرا في كلّ أحوالهم .
وقوله : وانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا يقول : وانتصروا ممن هجاهم من شعراء المشركين ظلما بشعرهم وهجائهم إياهم ، وإجابتهم عما هجوهم به . وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس وانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا قال : يردّون على الكفار الذين كانوا يهجون المؤمنين .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وانْتَصَرُوا من المشركين مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا .
وقيل : عني بذلك كله الرهط الذين ذكرت . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا عليّ بن مجاهد وإبراهيم بن المختار ، عن ابن إسحاق ، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط ، عن أبي الحسن سالم البرّاد مولى تميم الداري ، قال : لما نزلت : وَالشّعَرَاءُ يَتّبِعُهُمُ الغاوُونَ جاء حسّان بن ثابت وعبد الله بن رواحة ، وكعب بن مالك إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وهم يبكون ، فقالوا : قد علم الله حين أنزل هذه الاَية أنا شعراء ، فتلا النبيّ صلى الله عليه وسلم : إلاّ الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ ، وَذَكَرُوا اللّهَ كَثيرا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا عيسى بن يونس ، عن محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط ، عن أبي حسن البرّاد ، قال : لما نزلت وَالشّعَرَاءُ يَتّبِعُهُمُ الغاوُونَ ثم ذكر نحوه .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا قال عبد الله بن رواحة وأصحابه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا قال : عبد الله بن رواحة .
وقوله : وَسَيَعْلَمُ الّذِينَ ظَلَمُوا يقول تعالى ذكره : وسيعلم الذين ظلموا أنفسهم بشركهم بالله من أهل مكة أيّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ يقول : أيّ مرجع يرجعون إليه ، وأيّ معاد يعودون إليه بعد مماتهم ، فإنهم يصيرون إلى نار لا يُطفأ سعيرها ، ولا يَسْكُن لهبها . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، وعليّ بن مجاهد ، وإبراهيم بن المختار ، عن ابن إسحاق ، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط ، عن أبي الحسن سالم البرّاد مولى تميم الداري وَسَيَعْلَمُ الّذِينَ ظَلَمُوا أيّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ يعني : أهل مكة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَسَيَعْلَمُ الّذِينَ ظَلَمُوا أيّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ قال : وسيعلم الذين ظلموا من المشركين أيّ منقلب ينقلبون .
{ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا } استثناء للشعراء المؤمنين الصالحين الذين يكثرون ذكر الله ويكون أكثر أشعارهم في التوحيد والثناء على الله تعالى والحث على طاعته ، ولو قالوا هجوا أرادوا به الانتصار ممن هجاهم ومكافحة هجاة المسلمين كعبد الله بن رواحة وحسان بن ثابت والكعبين ، و كان عليه الصلاة والسلام يقول لحسان " قل وروح القدس معك " . وعن كعب بن مالك أنه عليه الصلاة السلام قال له " اهجوا فوالذي نفسي بيده لهو أشد عليهم من النبل " { وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون } تهديد شديد لما في " سيعلم " من الوعيد البليغ وفي " الذين ظلموا " من الإطلاق والتعميم ، وفي " أي منقلب ينقلبون " أي بعد الموت من الإيهام والتهويل ، وقد تلاها أبو بكر لعمر رضي الله تعالى عنهما حين عهد إليه ، وقرىء " أي منفلت ينفلتون " من الانفلات وهو النجاة والمعنى : أن الظالمين يطمعون أن ينفلتوا عن عذاب الله وسيعلمون أن ليس لهم وجه من وجوه الانفلات .
{ إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا }
وقد كُني باتباع الغاوين إياهم عن كونهم غاوين ، وأفيد بتفظيع تمثيلهم بالإبل الهائمة تشويه حالتهم ، وأن ذلك من أجل الشعر كما يؤذن به إناطة الخبر بالمشتق ، فاقتضى ذلك أن الشعر منظور إليه في الدين بعين الغضّ منه ، واستثناء { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } الخ . . . من عموم الشعراء ، أي من حكم ذمّهم . وبهذا الاستثناء تعيّن أن المذمومين هم شعراء المشركين الذين شغلهم الشعر عن سماع القرآن والدخول في الإسلام .
ومعنى : { وذكروا الله كثيراً } إي كان إقبالهم على القرآن والعبادة أكثر من إقبالهم على الشعر . { وانتصروا من بعد ما ظلموا } وهم مَن أسلموا من الشعراء وقالوا الشعر في هجاء المشركين والانتصارِ للنبيء صلى الله عليه وسلم مثل الذين أسلموا وهاجروا إلى الحبشة ، فقد قالوا شعراً كثيراً في ذم المشركين . وكذلك من أسلموا من الأنصار كعبد الله بن رَواحة ، وحسانَ بن ثابت ومن أسلم بعدُ من العرب مثل لَبيد ، وكعب بن زهير ، وسُحيم عبد بني الحسحاس ، وليس ذكر المؤمنين من الشعراء بمقتضي كون بعض السُّورة مدنيّاً كما تقدم في الكلام على ذلك أول السورة .
وقد دلت الآية على أن للشعر حالتين : حالة مذمومة ، وحالة مأذونة ، فتعين أن ذمه ليس لكونه شعراً ولكن لما حفّ به من معان وأحوال اقتضت المذمة ، فانفتح بالآية للشعر بابُ قبول ومدح فحقّ على أهل النظر ضبط الأحوال التي تأوي إلى جانب قبوله أو إلى جانب مدحه ، والتي تأوي إلى جانب رفضه . وقد أومأ إلى الحالة الممدوحة قوله : { وانتصروا من بعد ما ظلموا } ، وإلى الحالة المأذونة قوله : { وعملوا الصالحات } . وكيف وقد أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على بعض الشعر مما فيه محامد الخصال واستنصتَ أصحابُه لشعر كعب بن زهير مما فيه دقة صفات الرواحل الفارهة ، على أنه أذِن لحسان في مهاجاة المشركين وقال له : « كلامك أشد عليهم من وقع النبل . . » وقال له : « قل ومعك روح القدس » . وسيأتي شيء من هذا عند قوله تعالى : { وما علمناه الشعر وما ينبغي له } في سورة يس ( 69 ) . وأجاز عليه كما أجاز كعبَ بن زهير فخلع عليه بردته ، فتلك حالة مقبولة لأنه جاء مؤمناً .
وقال أبو هريرة : سمعت رسول الله يقول على المنبر : أصدَقُ كلمةٍ ، أو أشْعَر كلمة قالتها العرب كلمةُ لبيد :
ألا كُلُّ شيء ما خلا الله باطل
وكان يستنشد شعر أمية بن أبي الصلت لما فيه من الحكمة وقال : كاد أميةُ أن يُسلم ، وأمر حسّاناً بهجاء المشركين وقال له : قُل ومعك رُوح القدس . وقال لكعبِ بن مالك : لكلامُك أشد عليهم من وقْع النبْل .
روى أبو بكر ابن العربي في « أحكام القرآن » بسنده إلى خُريم بن أوس بن حارثة أنه قال : هاجرت إلى رسول الله بالمدينة منصرَفَه من تبوك فسمعت العباس قال : يا رسول الله إني أريد أن أمتدحك . فقال : قُل لا يفضُض الله فاك . فقال العباس :
من قبلِها طبتَ في الظلال وفي *** مُستَوْدَع حيثُ يخصف الوَرق
الأبيات السبعة . فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " لا يفضض الله فاك "
وروى الترمذي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة في عمرة القضاء وعبدُ الله بن رواحة يمشي بين يديه يقول :
خَلُّوا بني الكفار عن سبيله *** اليومَ نضربكم على تنزيله
ضَرباً يُزيل الهامَ عن مقيله *** ويُذهل الخليلَ عن خليله
فقال له عُمر : يا ابن رواحة في حرم الله وبين يدي رسول الله تقول الشعر فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " خَلِّ عنه يا عمر فإنه أسرع فيهم من نَضْح النبْل " .
وعن الزهري أن كعب بن مالك قال : يا رسول الله ما تقول في الشعر ؟ قال : " إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه ، والذي نفسي بيده لكأنما تنضحونهم بالنبل " .
ولعلي بن أبي طالب شعر كثير ، وكثير منه غير صحيح النسبة إليه .
وقد بين القرطبي في « تفسيره » في هذه السورة وفي سورة النور القول في التفرقة بين حالي الشعر . وكذلك الشيخ عبد القاهر الجرجاني في أول كتاب « دلائل الإعجاز » .
ووجب أن يكون النظر في معاني الشعر وحال الشاعر ، ولم يزل العلماء يعنَون بشعر العَرب ومَن بعدهم ، وفي ذلك الشعر تحبيب لفصاحة العربية وبلاغتها وهو آيل إلى غرض شرعي من إدراك بلاغة القرآن .
ومعنى : { من بعد ما ظلموا } أي من بعد ما ظلمهم المشركون بالشتم والهجاء .
{ وَسَيَعْلَمْ الذين ظلموا أَىَّ مُنقَلَبٍ } .
ناسب ذكر الظلم أن ينتقل منه إلى وعيد الظالمين وهم المشركون الذين ظلموا المسلمين بالأذى والشتم بأقوالهم وأشعارهم . وجُعلت هذه الآية في موقع التذييل فاقتضت العموم في مسمى الظلم الشامل للكفر وهو ظلم المرء نفسه وللمعاصي القاصرة على النفس كذلك ، وللاعتداء على حقوق الناس . وقد تلاها أبو بكر في عهده إلى عمر بالخلافة بعده ، والواو اعتراضية للاستئناف .
وهذه الآية تحذير عن غمص الحقوق وحثّ عن استقصاء الجهد في النصح للأمة وهي ناطقة بأهيب موعظة وأهول وعيد لمن تدبرها لما اشتملت عليه من حرف التنفيس المؤذن بالاقتراب ، ومن اسم الموصول المؤذن بأن سوء المنقلب يترقب الظالمين لأجل ظلمهم ، ومن الإبهام في قوله : { أي منقلب ينقلبون } إذ ترك تبيينه بعقاب معيّن لتذهل نفوس المُوعَدِين في كل مذهب ممكن من هول المنقلب وهو على الإجمال منقلَب سوء .
والمنقلب : مصدر ميمي من الانقلاب وهو المصير والمآلُ ، لأن الانقلاب هو الرجوع . وفعل العلم معلق عن العمل بوجود اسم الاستفهام بعده . واسم الاستفهام في موضع نصب بالنيابة عن المفعول المطلق الذي أضيف هو إليه . قال في « الكشاف » : وكان السلف الصالح يتواعظون بها ويتناذرون شدتها .