وقوله : { إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } : قال محمد بن إسحاق ، عن يزيد{[21942]} بن عبد الله بن قُسَيْط ، عن أبي الحسن سالم البَرّاد - مولى تميم الداري - قال : لما نزلت : { وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ } ، جاء حسان بن ثابت ، وعبد الله بن رَوَاحة ، وكعب بن مالك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم يبكون فقالوا : قد علم الله حين أنزل هذه الآية أنا شعراء . فتلا النبي صلى الله عليه وسلم : { إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } قال : " أنتم " ، { وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا } قال : " أنتم " ، { وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا } قال : " أنتم " .
رواه ابن أبي حاتم . وابن جرير ، من رواية ابن إسحاق{[21943]} .
وقد روى ابن أبي حاتم أيضا ، عن أبي سعيد الأشج ، عن أبي أسامة ، عن الوليد بن كثير ، عن يزيد بن عبد الله ، عن أبي الحسن مولى بني نوفل ؛ أن حسان بن ثابت ، وعبد الله بن رواحة أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزلت : { وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ } يبكيان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو يقرؤها عليهما : { وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ } حتى بلغ : { إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } ، قال : " أنتم " {[21944]} .
وقال أيضًا : حدثنا أبي ، حدثنا أبو سلمة{[21945]} حدثنا حماد بن سلمة ، عن هشام بن عُرْوَة ، عن عروة قال : لما نزلت : { وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ } إلى قوله : { يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ } قال عبد الله بن رواحة : يا رسول الله ، قد علم الله أني منهم . فأنزل الله : { إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } إلى قوله : { ينقلبون } .
وهكذا قال ابن عباس ، وعكرمة ، ومجاهد ، وقتادة ، وزيد بن أسلم ، وغير واحد أن هذا استثناء مما تقدم . ولا شك أنه استثناء ، ولكن هذه السورة مكية ، فكيف يكون سبب نزول هذه الآية [ في ]{[21946]} شعراء الأنصار ؟ في ذلك نظر ، ولم يتقدم إلا مرسلات لا يعتمد عليها ، والله أعلم ، ولكن هذا الاستثناء يدخل فيه شعراء الأنصار وغيرهم ، حتى يدخل فيه مَنْ كان متلبسًا من شعراء الجاهلية بذم الإسلام وأهله ، ثم تاب وأناب ، ورجع وأقلع ، وعمل صالحًا ، وذكر الله كثيرًا في مقابلة ما تقدم من الكلام السيئ ، فإن الحسنات يذهبن السيئات ، وامتدح الإسلام وأهله في مقابلة ما كذب{[21947]} بذمه ، كما قال عبد الله بن الزبَعْرَى حين أسلم :
يَا رَسُولَ المَليك ، إنّ لسَاني *** رَاتقٌ مَا فَتَقْتُ إذْ أنا بُورُ
إذْ أجَاري الشَّيْطانَ في سَنن الغَ *** يِّ وَمَن مَالَ مَيْلَه مَثْبُورٌ
وكذلك أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ، كان من أشد الناس عداوة للنبي صلى الله عليه وسلم ، وهو ابن عمه ، وأكثرهم له هجوًا ، فلما أسلم لم يكن أحد أحب إليه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما كان يهجوه ، ويتولاه بعدما كان قد عاداه . وهكذا روى مسلم في صحيحه ، عن ابن عباس : أن أبا سفيان صخر بن حرب لما أسلم قال : يا رسول الله ، ثلاث أعطنيهن قال : " نعم " . قال : معاوية تجعله كاتبا بين يديك . قال : " نعم " . قال : وتُؤمرني حتى أقاتل الكفار ، كما كنت أقاتل المسلمين . قال : " نعم " . وذكر الثلاثة{[21948]} .
ولهذا قال تعالى : { إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا } قيل : معناه : ذكروا الله كثيرًا في كلامهم . وقيل : في شعرهم ، وكلاهما صحيح مُكَفّر لما سبق .
وقوله : { وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا } قال ابن عباس : يردون على الكفار الذين كانوا يهجون به المؤمنين . وكذا قال مجاهد ، وقتادة ، وغير واحد . وهذا كما ثبت في الصحيح : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لحسان : " اهجهم - أو قال : هاجهم - وجبريل معك " {[21949]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا مَعْمَر ، عن الزهري ، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك ، عن أبيه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إن الله ، عز وجل ، قد أنزل في الشعّر ما أنزل ، فقال : " إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه ، والذي نفسي بيده ، لكأن ما ترمونهم به نَضْح النبْل " {[21950]} .
وقوله : { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ } ، كما قال تعالى : { يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ } [ غافر : 52 ] وفي الصحيح : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إياكم والظلم ، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة " {[21951]} .
وقال قتادة بن دِعَامَة في قوله : { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ } يعني : من الشعراء وغيرهم .
وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا إياس بن أبي تميمة ، قال : حضرت الحسن وَمُرَّ عليه بجنازة نصراني ، فقال الحسن : { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ } .
وقال عبد الله بن رَبَاح ، عن صفوان بن مُحْرز : أنه كان إذا قرأ هذه الآية - بكى حتى أقول : قد اندق قَضِيب زَوره - { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ } .
وقال ابن وهب : أخبرني{[21952]} ابن سُرَيج الإسكندراني ، عن بعض المشيخة : أنهم كانوا بأرض الروم ، فبينما هم ليلة على نار يشتوون{[21953]} عليها - أو : يصطلون - إذا بركاب{[21954]} قد أقبلوا ، فقاموا إليهم ، فإذا فضالة بن عبُيد فيهم ، فأنزلوه فجلس معهم - قال : وصاحب لنا قائم يصلي - قال حتى مَرّ بهذه الآية : { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ } قال فضالة بن عبيد : هؤلاء الذين يخربون البيت .
وقيل : المراد بهم أهل مكة . وقيل : الذين ظلموا من المشركين . والصحيح أن هذه الآية عامة في كل ظالم ، كما قال ابن أبي حاتم : ذُكر عن زكريا بن يحيى الواسطي : حدثني الهيثم بن محفوظ أبو سعد{[21955]} النهدي ، حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن المجير{[21956]} حدثنا هشام بن عُرْوَة ، عن أبيه ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : كتب أبي وصيته سطرين : بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما أوصى به أبو بكر بن أبي قُحَافة ، عند خروجه من الدنيا ، حين يؤمن الكافر ، وينتهي الفاجر ، ويَصدُق الكاذب : إني استخلفت عليكم عُمَر بن الخطاب ، فإن يعدل فذاك ظني به ، ورجائي فيه ، وإن يَجُر ويبدل فلا أعلم الغيب ، { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.