معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{أَشِحَّةً عَلَيۡكُمۡۖ فَإِذَا جَآءَ ٱلۡخَوۡفُ رَأَيۡتَهُمۡ يَنظُرُونَ إِلَيۡكَ تَدُورُ أَعۡيُنُهُمۡ كَٱلَّذِي يُغۡشَىٰ عَلَيۡهِ مِنَ ٱلۡمَوۡتِۖ فَإِذَا ذَهَبَ ٱلۡخَوۡفُ سَلَقُوكُم بِأَلۡسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى ٱلۡخَيۡرِۚ أُوْلَـٰٓئِكَ لَمۡ يُؤۡمِنُواْ فَأَحۡبَطَ ٱللَّهُ أَعۡمَٰلَهُمۡۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٗا} (19)

قوله عز وجل : { أشحة عليكم } بخلاء بالنفقة في سبيل الله ، وقال قتادة : بخلاء عند الغنيمة ، وصفهم الله بالبخل والجبن ، فقال : { فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم } في الرؤوس من الخوف والجبن ، { كالذي يغشى عليه من الموت } أي : كدوران الذي يغشى عليه من الموت ، وذلك أن من قرب من الموت وغشيه أسبابه يذهب عقله ويشخص بصره ، فلا يطرف ، { فإذا ذهب الخوف سلقوكم } آذوكم ورموكم في حال الأمن ، { بألسنة حداد } ذرية ، جمع حديد . يقال للخطيب الفصيح الذرب اللسان : مسلق ومصلق وسلاق وصلاق . قال ابن عباس : سلقوكم أي : عضهوكم وتناولوكم بالنقص والغيبة . وقال قتادة : بسطوا ألسنتهم فيكم وقت قسمة الغنيمة ، يقولون : أعطونا فإنا قد شهدنا معكم القتال ، فلستم أحق بالغنيمة منا ، فهم عند الغنيمة أشح قوم وعند البأس أجبن قوم ، { أشحةً على الخير } أي : عند الغنيمة يشاحون المؤمنين ، { أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم } قال مقاتل : أبطل الله جهادهم . { وكان ذلك على الله يسيرا* }

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{أَشِحَّةً عَلَيۡكُمۡۖ فَإِذَا جَآءَ ٱلۡخَوۡفُ رَأَيۡتَهُمۡ يَنظُرُونَ إِلَيۡكَ تَدُورُ أَعۡيُنُهُمۡ كَٱلَّذِي يُغۡشَىٰ عَلَيۡهِ مِنَ ٱلۡمَوۡتِۖ فَإِذَا ذَهَبَ ٱلۡخَوۡفُ سَلَقُوكُم بِأَلۡسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى ٱلۡخَيۡرِۚ أُوْلَـٰٓئِكَ لَمۡ يُؤۡمِنُواْ فَأَحۡبَطَ ٱللَّهُ أَعۡمَٰلَهُمۡۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٗا} (19)

{ أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ } بأبدانهم عند القتال ، وبأموالهم عند النفقة فيه ، فلا يجاهدون بأموالهم وأنفسهم . { فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ } نظر المغشى عليه { مِنَ الْمَوْتِ } من شدة الجبن ، الذي خلع قلوبهم ، والقلق الذي أذهلهم ، وخوفًا من إجبارهم على ما يكرهون ، من القتال .

{ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ } وصاروا في حال الأمن والطمأنينة ، { سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَة } أي : خاطبوكم ، وتكلموا معكم ، بكلام حديد ، ودعاوى غير صحيحة .

وحين تسمعهم ، تظنهم أهل الشجاعة والإقدام ، { أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ } الذي يراد منهم ، وهذا شر ما في الإنسان ، أن يكون شحيحًا بما أمر به ، شحيحًا بماله أن ينفقه في وجهه ، شحيحًا في بدنه أن يجاهد أعداء اللّه ، أو يدعو إلى سبيل اللّه ، شحيحًا بجاهه ، شحيحًا بعلمه ، ونصيحته ورأيه .

{ أُولَئِكَ } الذين بتلك الحالة { لَمْ يُؤْمِنُوا } بسبب عدم إيمانهم ، أحبط الله أعمالهم ، { وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا }

وأما المؤمنون ، فقد وقاهم اللّه ، شح أنفسهم ، ووفقهم لبذل ما أمروا به ، من بذل لأبدانهم في القتال في سبيله ، وإعلاء كلمته ، وأموالهم ، للنفقة في طرق الخير ، وجاههم وعلمهم .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{أَشِحَّةً عَلَيۡكُمۡۖ فَإِذَا جَآءَ ٱلۡخَوۡفُ رَأَيۡتَهُمۡ يَنظُرُونَ إِلَيۡكَ تَدُورُ أَعۡيُنُهُمۡ كَٱلَّذِي يُغۡشَىٰ عَلَيۡهِ مِنَ ٱلۡمَوۡتِۖ فَإِذَا ذَهَبَ ٱلۡخَوۡفُ سَلَقُوكُم بِأَلۡسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى ٱلۡخَيۡرِۚ أُوْلَـٰٓئِكَ لَمۡ يُؤۡمِنُواْ فَأَحۡبَطَ ٱللَّهُ أَعۡمَٰلَهُمۡۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٗا} (19)

وقوله أشِحّةً عَلَيْكُمْ اختلف أهل التأويل في المعنى الذي وصف الله به هؤلاء المنافقين ، في هذا الموضع من الشحّ ، فقال بعضهم : وصفهم بالشّحّ عليهم في الغنيمة . ذكر من قال ذلك :

حدثني بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة أشِحّةً عَلَيْكُمْ في الغنيمة .

وقال آخرون : بل وصفهم بالشحّ عليهم بالخير . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : ثني عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد أشِحّةً عَلَيْكُمْ قال : بالخير ، المنافقون . وقال غيره : معناه : أشحة عليكم بالنفقة على ضعفاء المؤمنين منكم .

والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إن الله وصف هؤلاء المنافقين بالجبن والشّحّ ، ولم يخصُص وصفهم من معاني الشحّ ، بمعنى دون معنى ، فهم كما وصفهم الله به أشحة على المؤمنين بالغنيمة والخير والنفقة في سبيل الله ، على أهل مسكنة المسلمين . ونصب قوله أشِحّةً عَلَيْكُمْ على الحال من ذكر الاسم الذي في قوله وَلا يأْتُونَ البأْسَ ، كأنه قيل : هم جبناء عند البأس ، أشحاء عند قَسْم الغنيمة ، بالغنيمة . وقد يحتمل أن يكون قَطْعا من قوله : قَدْ يَعْلَمُ اللّهُ المُعَوّقِينَ مِنْكُمْ فيكون تأويله : قد يعلم الله الذين يعوّقون الناس على القتال ، ويَشِحّون عند الفتح بالغنيمة . ويجوز أن يكون أيضا قَطْعا من قوله : هلم إلينا أشحة ، وهم هكذا أشحة . ووصفهم جلّ ثناؤه بما وصفهم من الشحّ على المؤمنين ، لِما في أنفسهم لهم من العداوة والضّغْن . كما :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثني يزيد بن رُومان أشِحّةً عَلَيْكُمْ أي للضّغْن الذي في أنفسهم .

وقوله : فإذَا جاءَ الخَوْفُ . . . إلى قوله مِنَ المَوْتِ يقول تعالى ذكره : فإذا حضر البأُس ، وجاء القتال ، خافوا الهلاك والقَتْل ، رأيتهم يا محمد ينظرون إليك لِواذا بك ، تَدُور أعينهم ، خوفا من القتل ، وفرارا منه . كالّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ يقول : كدَوَران عين الذي يُغْشَى عليه من الموت النازل به فإذَا ذَهَبَ الخَوْفُ يقول : فإذا انقطعت الحربُ واطمأنوا سَلَقُوكُمْ بألْسِنَةٍ حِدادٍ . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة فإذَا جاءَ الخَوْفُ رأيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إلَيْكَ تَدُورُ أعْيُنُهُمْ من الخوف .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثني يزيد بن رومان فإذَا جاءَ الخَوْفُ رأيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إلَيْكَ تَدُورُ أعْيُنُهُمْ كالّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ منَ المَوْتِ : أي إعظاما وفَرقا منه .

وأما قوله سَلَقُوكُمْ بألْسنَةٍ حِدادٍ . فإنه يقول : عَضّوكم بألسنة ذَرِبة . ويقال للرجل الخطيب الذّرِب اللسان : خطيب مِسْلَق ومِصْلَق ، وخطيب سَلاّق وصَلاّق .

وقد اختلف أهل التأويل في المعنى الذي وصف تعالى ذكره هؤلاء المنافقين أنهم يَسْلُقون المؤمنين به ، فقال بعضهم : ذلك سَلْقُهم إياهم عند الغنيمة ، بمسألتهم القَسْمَ لهم . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة فإذَا ذَهَبَ الخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بألْسِنَةٍ حِدادٍ أما عند الغنيمة ، فأشحّ قوم ، وأسوأ مُقاسَمَة : أعطُونا أعطُونا ، فإنا قد شِهدنا معكم . وأما عند البأس فأجبن قوم ، وأخذله للحقّ .

وقال آخرون : بل ذلك سَلْقُهُمْ إياهم بالأذَى . ذكر ذلك عن ابن عباس :

حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله سَلَقُوكُم بألْسِنَةٍ حِدادٍ قال : استقبلوكم .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد سَلَقُوكُمْ بألْسِنَةٍ حِدادٍ قال : كَلّموكم .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : أنهم يَسْلُقونهم من القول بما تُحبون ، نفاقا منهم . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثني يزيد بن رُومان فإذَا ذَهَبَ الخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بألْسِنَةٍ حِدَادٍ في القول بما تحبون ، لأنهم لا يرجون آخرة ، ولا تَحمُلهم حِسْبة ، فهم يهابون الموت هيبة من لا يرجو ما بعده .

وأشبه هذه الأقوال بما دلّ عليه ظاهر التنزيل قول من قال سَلَقُوكُمْ بألْسِنَةٍ حِدَادٍ أشِحّةً عَلى الخَيْرِ فأخبر أن سَلْقَهُمْ المسلمين شُحَا منهم على الغنيمة والخير ، فمعلوم إذ كان ذلك كذلك ، أن ذلك لطلب الغنيمة . وإذا كان ذلك منهم لطلب الغنيمة ، دخل في ذلك قول من قال : معنى ذلك : سَلَقوكم بالأذى ، لأن فعلهم ذلك كذلك ، لا شكّ أنه للمؤمنين أذى .

وقوله : أشِحّةً عَلى الخَيْرِ يقول : أشحّة على الغنيمة ، إذا ظفر المؤمنون . وقوله : لَمْ يُؤْمنُوا فأحُبَطَ اللّهُ أعمالَهُمْ يقول تعالى ذكره : هؤلاء الذين وصفتُ لك صفتهم في هذه الاَيات ، لم يصدّقوا الله ورسوله ، ولكنهم أهل كفر ونِفاق . فأحبط الله أعمالهم يقول : فأذهب الله أجورَ أعمالهم وأبطلَها . وذُكر أن الذي وُصِفَ بهذه الصفة كان بَدْريّا ، فأحبط الله عمله . ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله فَأَحْبَطَ اللّهُ أعمالَهُمْ وكانَ ذلكَ على اللّهِ يَسِيرا قال : فحدثني أبي أنه كان بدريا ، وأن قوله : أحْبَطَ اللّهُ أعمالَهُمْ : أحبط الله عمله يوم بدر .

وقوله : وكانَ ذلكَ على اللّهِ يَسِيرا يقول تعالى ذكره : وكان إحباط عملهم الذي كانوا عملوا قبل ارتدادهم ونفاقهم على الله يسيرا .